أول مرة وآخر مرة التقيت فيها بفقيد التعددية والديمقراطية الشاذلي بن جديد رحمة الله عليه، هي في مؤتمر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فقبلته بحرارة وشددت على يده بقوة وأدركت بعد ذلك أنه كان يركز في النظر جيدا ربما للمقارنة بين التشابه في الصورة المرفقة دائما بمقالي في جريدة المحقق وبين الصورة الماثلة أمام ناظريه، فقد أخبرني بعض المقربين منه وعلى رأسهم صهره المجاهد والأمين العام الأسبق لجبهة التحرير الوطني رحمه الله، الأستاذ عبد الحميد مهري، حيث شكرني على انصافي للسيد الرئيس الشاذلي بن جديد، في خصام الإسلاميين فيه ونصحني بالإسراع في طباعة تلك المقالات التي تصل إلى ثلاثة مجلدات كونها كما قال لي شهادة حية للأجيال ووثيقة مهمة للتاريخ. وماذا أقول اليوم لهذا الرجل العظيم الذي يكن له قلبي وعقلي احتراما وحبا يماثلان احترامي وحبي لكبار القادة عبر التاريخ الذين تركوا بصمات الإصلاح واضحة في ما أنجزوه، ولكبار المفكرين، العلماء والمصلحين في ما اخترعوه وكتبوه. الشاذلي بن جديد، هو القائد الوحيد ربما بين القلائل الذي لم يسع يوما في طلب القيادة ولا فكر فيها فوجدها هي التي تسعى إليه، فتقبلها غير عابئ بمغرياتها، ولا باللاهث وراء بريقها، وراح ينجز ما استطاع من فروضها وواجباتها الثقيلة بما تمليه عليه فيها فطرته السليمة وطبيعته الكريمة وسيرته المستقيمة، وكان الرجل الذي لا يستكبر عن الحلول حين يعرضها أصحاب الاختصاص عليه بل يختار أحسنها ليس لأنه مثقف كبير ولكن لخاصية فريدة من نوعها جعلها الله فيه. ليس هو والد التعددية والديمقراطية بعد حوادث أكتوبر 1989 م، فحسب بل هو الذي فتح للإسلاميين التعددية والديمقراطية منذ تربع على سدة الحكم في المرادية، حيث صارت الحلقات المسجدية والدروس في متناول كل من يقدر على مخاطبة الناس ووجد الدعاة وأشباه الدعاة وحتى الذين يهرفون باسم الدين بما لا يعرفون... وجدوا أنفسهم في ديمقراطية فيها من الحرية في التعبير والتكفير وانتقاد السلطة وحتى الرئيس الشاذلي نفسه، ما لا يوجد في فرنسا العريقة كما تزعم في الحريات وحقوق الإنسان، وصارت المساجد في خضم هذه الحريات تفوق ”الهايدبارك” في إنجلترا وهو المكان المخصص لكل من أراد أن يقنع الناس بما يؤمن وما يريد، الشاذلي إذن فتح في 1979م ديمقراطية خاصة بالإسلاميين فقط حين استولوا على منابر المساجد حتى في الجامعات، وصنعوا من خلال ذلك شعبية لأنفسهم لم يصنعها الوطني بوطنيته ولا العلماني بعلمانيته ولائكيته وليبراليته، ولا الشيوعي والاشتراكي بطوباوياته واجتماعياته، ومن الطبيعي إذن أن يفوز الإسلاميون في أول تشريعيات تعددية في انتخابات نزيهة ذلك الفوز الساحق لأنهم استثمروا بفضل الشاذلي بن جديد، أحسن استثمار في حقل الجماهير بينما كانت التيارات الأخرى محرومة -ولا أقوال ممنوعة- من التعبير. لم تكن في العالم العربي والإسلامي في ذلك الظرف صحوة إسلامية بالوهج الجماهيري الملفت للنظر الآخذ بالبصر إلا في الجزائروإيران. نجحت المراجع المثقفة في إيران، بعقلية النظر إلى المستقبل البعيد وعلى رأسها الإمام الخميني رحمه الله، في استيعاب تلك الجماهير وتوجيهها بعد انتصار الثورة إلى البناء والتشييد ففجرت الذرة واستطاعت أن تدخل المخ الإلكتروني الأمريكي في طائراته بدون طيار وتوجهها كما تشاء حتى تحط طيعة في مطارها بسلام. وأخفق الزعماء الإسلاميون المتعطشون إلى السلطة كما وصفهم الرئيس زروال في قيادة تلك الجماهير وما نجحوا إلا في شيء واحد ألا وهو توجيه تلك الجماهير الى تخريب بيوتهم بأيديهم عبر التكفير ثم التفجير وعدم التمييز في القتل بين الصغير والكبير. مقالات ترى في الديمقراطية كفرا بواحا مباشرة بعد التعددية سنة 1989 م، بقلم الرجل الثاني في الحزب المحظور، وأخرى تستهزئ بالرئيس”مسمار جحا لازم يتنحى” وجماهير تهدر كالشلال بصوت واحد لا قراءة لا تدريس حتى يسقط الرئيس، والرئيس الطيب ذو المعدن النفيس يقابل السبة بالحلم والعبوس بالبسمة، والإساءة بالإحسان، وأولئك الأحاديون في الفكر والتعبير الغوغائيون في التفكير والتقدير ماضون باستكبار نحو إقامة دولة معاوية ويزيد والوليد فاستبدلهم الله بالشاذلي بن جديد، بمن سامهم سوء العذاب وساقهم بعصا الحجاج كالدواب نحو الاسطبلات والجحور. واليوم حقيق على زعماء هذه الحركات الإسلامية الغوغائية أن تعتذر إليه وهو في قبره عما صدر من إساءة منها إليه وأن تبكيه بالدماء بدل الدموع، ولكنها لا تفعل لكبر في نفسها ليست ببالغته ولأنها أولا وأخيرا عميلة لجهات أجنبية وليست لها أية وطنية، ومن فقد إسلامه بقبول الترضي فيه عن الظلمة والمجرمين، وسب الصالحين والعادلين، ثم فقد وطنيته في الهواء الذي يتنفسه والماء الذي يشربه والتراب المضمخ بدماء الشهداء الذي يمشي عليه وتعلق بأوطان تحرضه على الانقلاب بالحراب والخراب وهي تعلفه بدولاراتها كما تُعلف الدواب، فلن يبك لفقدان الرسول ولا يعتذر إليه باتهامه بهجر القول ولذلك أنا شديد في مقالاتي على هؤلاء الأحاديين الغوغائيين لأنني أرى أنهم مدرسة للشيطان في إذلال الإنسان وتخريب الأوطان. إحدى المثقفات وهي الأستاذة شريفة ميهوبل، التي تحضر للدكتوراه في علم الاجتماع الجنائي أرسلت لي هذه الرسالة حول مقال الأسبوع الماضي قالت لي فيه: ”لقد فهمت الحركات الإسلامية السياسية المترعرعة تحت جلابيب الحكام والسلاطين، أنه لا ثغرة تمر من خلالها إلى الواجهة السياسية غير التزلف والتزحلق تحت أقدام أعدائها في الأيديولوجية حتى يأتي وقت التمكين ”الذي لا أظنه سيأتي”، وإلا سيكون مصيرهم ”التجويع السياسي كما أسميه” أي الحرمان من البروز في الواجهة السياسية وتغييب الحضور الإسلامي وتشويه الصورة والأهم الحرمان من المناصب والحقائب، هذه أهم صفة في الإسلاميين السياسيين وهي المصلحة الشخصية ثم المصلحة ”الحركية أو الجماعية (من الجماعة) ومابعدها لايهم، وفي حالة التمكن ولو بنسبة ضئيلة تكون طريقتهم العنف والترهيب وحمل سيف الله الذي لا أدري من أعطاهم إياه، وهذا السيف طبعا يكون على أعناق عباد الله، إخوانهم من المسلمين وليس أعدائهم، فأعداؤهم في الأول والأخير هم من منحوهم أو في أهون الأحوال ساعدوهم على هذا التمكين” فأجبتها بالنص التالي: أختنا الكريمة شريفة بارك الله فيك على هذه الجرأة والصراحة، وأغتنم في هذه المناسبة الأليمة وهي وفاة الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد، لأترحم عليه وأبكي في الوقت نفسه على الأيام بل الأعوام الذهبية التي منحها للإسلاميين وللصحوة الإسلامية على الخصوص، فلم يغتنموها للرحمة والفكر المستنير بل للتكفير والتدمير ولم يحترم فيه أولئك الإسلاميون فضله ولا جهاده ولا سماحته وراحوا يلقبونه بألقاب خسيسة حتى استبدله الله بمن كان عليهم كالحجاج... وأنتِ أختي الكريمة ذكرت تزلفهم وانبطاحهم فهذه هي خاصيتهم وأنا جربتهم وعشت معهم فكلما كنت طيبا معهم أحرقوك وكلما رفعت سيف الحجاج احترموك، وهذا صنيع منهم موروث من قبل أسلافهم أصحاب قدوتهم فقد تظاهر في الفتنة الكبرى بعض الصحابة بالحياد فقالوا لا نحن ننصر عليا ولا معاوية وكان من المفروض أن ينصروا الحق ضد الفئة الباغية التي نص عليها الرسول، حيث كان علي يمثل ذلك الحق وكان معه كل الذين شهدوا بدرا بينما لم يكن مع معاوية إلا الطلقاء ولا يوجد بدري واحد معه.. لكن أحد الذين تظاهروا بالحياد، ذهب إلى الحجاج في عهد عبد الملك بن مروان لكي يبايع عبد الملك بن مروان بحجة أن الذي مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية وهو حديث صحيح فقال له الحجاج في الفتنة الكبرى تظاهرت بالحياد ولم تنصر صاحب الحق عليا ولم تفكر في الميتة الجاهلية واليوم جئت تبايع؟ أنا مشغول عنك بالمبايعة باليد فبايع كراعي إن شئت. .وهذا نص صريح في كتب السير والتاريخ ولم يجد ذلك المسكين ”الحيادي” إلا أن صفق على كراع الحجاج مبايعا، وكذلك فعلت الحركة الإسلامية حيث كتب بعضها دواوين الشعر في من هم كالحجاج ويترضون عن معاوية السفاك مقنن الاستبداد ويصفون الشاذلي الذي فتح لهم أبواب الحريات وخدمة الدين بأشنع النعوت، والشاذلي رحمه الله، عند كل العقلاء المنصفين مسلمين كانوا أو غير مسلمين أفضل بمليون مرة من معاوية بن ابي سفيان. بقلم: الصادق سلايمية