ذكرت في موضوع سابق، بأن أول امتحان، تعرض له الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان، رضي الله عنه، هو قضية نجل الخليفة المغتال سيدنا عمر بن الخطاب، الذي قتل الهرمزان و جفينة، و صبية أبي لؤلؤة الفارسي، انتقاما و ثأرا لوالده، خارج الإطار الشرعي، ومن غير بينة، و أوضحت أن هذه القضية أثارت ردود فعل متباينة، و قسمت كبار الصحابة إلى فريقين، فريق يرى إقامة القود، و قتل عبيد الله و على رأس هؤلاء الإمام علي كرم الله وجهه، و فريق يرى خلاف ذلك، و اهتدى عثمان إلى الحل الذي أشرت إليه، هذا الحل الذي ظل ينكره عليه الإمام علي، الذي صرح بعد مبايعته خليفة بأنه سيقيم الحد على عبيد الله، إن ظفر به، ووصفه بالفاسق، و هو ما اضطر هذا الأخير إلى الفرار، إلى معاوية، نجاة بنفسه، بعد مبايعة علي، وقد قتل في معركة صفين و هو يحارب في صفوف جيش معاوية بن أبي سفيان، غير أن الخلاف حول هذه القضية لم يفسد للود قضية، و لم يفرق بين الخليفة عثمان و علي، الذي ظل قريبا منه، طائعا سامعا ناصحا له، غير محرض، و لا داع للثورة، أو الخروج عليه. إن قضية عبيد الله بن عمر، لم تكن وحدها القضية التي اختلف بشأنها كبار الصحابة، رضوان الله عليهم، من الناحية الشرعية، فقد سبق أن اختلف الفاروق عمر بن الخطاب، مع الخليفة الصديق أبي بكر ، حول سلوكات و تصرفات أتاها القائد المغوار خالد بن الوليد، أثارت استياء و استنكار و غضب عمر، و بعض كبار الصحابة، و اعتبروها تصرفات شائنة، تنتهك قواعد الشرع الشريف، و أخطر ذلك، ما ينسب إلى خالد، رضي الله عنه، أنه لما كان يقود المعركة ضد القبائل العربية المرتدة عن الإسلام، و بعد أن فرغ من قتال طليحة و أتباعه، عمد إلى مقاتلة مالك بن نويرة و قومه من بني بربوع، و كانوا في وضعية المتربصين، منعوا الصدقات، و بقوا يترقبون لمن تكون الغلبة ، و على من تدور الدائرة، فلما انتصر خالد على طليحة الأسدي و أتباعه، و أيقن مالك انه لا قبل له بمواجهة جيش خالد، أمر أتباعه بأن ينصرفوا ، و يتركوا الاستعداد للحرب، و عندما أقبل خالد على ديارهم، لم يجد أمامه جيشا يقاتله، فأمر بتسيير الكتائب و الدوريات العسكرية للمراقبة و التفتيش، و ألزمهم بواجب الانضباط و التقيد بالتوجيه الحربي الصادر عن الخليفة أبي بكر الصديق، الذي وجهه إلى احد عشر قائدا من قادة الجيوش الإسلامية المكلفة بقمع المرتدين، و إعادتهم إلى حضيرة الإسلام. إن هذا التوجيه أسداه الخليفة الأول أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، إلى قواده، بأن يسير كل واحد منهم، حتى يدرك القبيلة، التي كلف بمحاربتها، فإذا بلغها دعاها إلى الإسلام و الدخول فيما خرجت منه، فإن أجابت قبل منها ، و إن رفضت، قاتلها من غير هوادة و لا لين، كما أمر أبو بكر قواده أيضا، إذا نزلوا في قبيلة، أن ينتظروا وقت الصلاة، و أن يؤذنوا، فان سمعوا آذان من جاءوا لحربهم، لم يقاتلوهم، حتى يسألوهم عن دينهم ما هو، فإن عرفوا الإسلام كما انزل على رسول الله فهم آمنون ، فان جحدوا و أنكروا من الإسلام شيئا، قاتلوهم، حتى يذعنوا، و يقبلوا الإسلام كاملا غير منقوص، و قد كتب أبو بكر رحمه الله كتابا، وجعل منه أحد عشر نسخة ، و أرسل مع كل جيش رسولا، يحمل نسخة منه، و أمر بقراءة الكتاب على القبائل المعنية، التي وجهت الجيوش لقتالها. يسجل المؤرخون، أن بعض السرايا التي سيرها خالد بن الوليد، جاءت بنفر من بني يربوع فيهم مالك بن نويرة، و هو زعيمهم، و يقولون أن السرية التي جاءت بهم اختلفت، فشهد بعضهم، أن القوم أذنوا وقت الصلاة، بعد سماعهم لآذان الجيش، وشهد البعض الآخر، بأنهم لم يؤذنوا، و الواقع أنه تم حبس هؤلاء بقرار من خالد بن الوليد، و يزعم الرواة أن خالدا، كان يفاوض مالكا بن نويرة و يحاوره، فقال له مالك في بعض حديثه، أن صاحبكم كان يقول كذا و كذا، يريد النبي محمدا عليه السلام، فأجابه خالد، حين سمع منه هذا القول :"أوليس هو لك بصاحب ؟" ثم أمر بقتله. إن الأمر الذي لا يختلف حوله المؤرخون، هو أن خالدا قتل مالكا بن نويرة، و شهد قتله رجل من خيرة صحابة رسول الله، كان في جيش خالد، و أكد بأنه سمع مالكا و قومه يؤذنون. إن هذا الشاهد هو أبو قتادة الأنصاري، الذي فارق، بعد مقتل مالك بن نويرة، جيش خالد و حلف يمينا بألا يقاتل معه أبدا، و قفل مغاضبا محتجا إلى المدينة، و كلم كبار الصحابة و فيهم عمر بن الخطاب، و حاول مقابلة أبي بكر ، ليشكو له خالدا ، غير أن الخليفة رفض مقابلته، لغضبه منه، بسبب إخلاله بواجب الانضباط العسكري ، بمغادرته وحدته من غير ترخيص من القيادة. لقد تأثر عمر بن الخطاب أيما تأثر، بما ارتكب خالد بن الوليد ، في حق مالك بن نويرة، و دخل على أبي بكر فحدثه في الآمر، و قال له ، أن في سيف خالد رهقا للمسلمين، فأعزله ، فأجابه أبو بكر ، بأن خالدا، تأول فأخطأ، و لما ألح عليه عمر في أمر العزل، قال أبو بكر:" إليك عني يا عمر ، ما كنت لأغمد سيفا ، سله الله على الكافرين". إن أبا بكر رفض بصرامة و حزم طلب عمر، و أخذ بعين الاعتبار تبريرات خالد بن الوليد، رحمه الله. ازداد غضب عمر على خالد، و ارتفعت حدته ، لما علم أنه تزوج أم تميم، زوجة مالك بن نويرة، بعد قتله، الأمر الذي لم يستسغه عمر، و اعتبره خرقا جسيما للسلوك السوي، الواجب التحلي به في نطاق السلوك الإسلامي. لقد اكتفى أبو بكر، رحمه الله، باستدعاء خالد إلى المدينة، و مساءلته عن قضية مقتل مالك، فقص عليه الخبر، فعذره أبو بكر في قتل مالك، إلا أنه عنفه، ووبخه في تزوج امرأته، و ثبته على رأس الجيش، و لم يعزله. إن موقف عمر مما ينسب إلى خالد، ظل موقف المستاء، المستنكر، المندد الغاضب من هذا الفعل، بدليل أنه بمجرد أن تولى الخلافة، بادر إلى عزل خالد، من قيادة جيش المسلمين بالشام، في ظرف بالغ الحساسية، و هو تأهب هذا الجيش، واستعداده لخوض معركة اليرموك، الفاصلة و الحاسمة، ضد جيش الروم، و عين بدلا منه أبا عبيدة عامر بن الجراح. إن أبا بكر، رحمه الله، كان يعرف تمام المعرفة طباع خالد بن الوليد، و حدة مزاجه، و تميزه بالغلظة و الشدة، و ميله إلى العنف، و هو يفضل الرفق و اللين، و يؤثر الأناة، ومن أجل ذلك كان يشدد على خالد، و يجبره على التوقف، في الوقت الذي يهفو فيه قلب خالد إلى المضي قدما في خوض أهوال الحرب، و مواجهة غمار المعارك. إن مساندة أبي بكر لخالد بن الوليد، ووقوفه إلى جانبه، و تثبيته على رأس الجيش، رغم إلحاح عمر بن الخطاب في ضرورة عزله، و رغم جدية المآخذ المسجلة عليه أيضا، في مقتل مالك بن نويرة و أصحابه، و تزوجه من أم تميم، إنما مردها إلى أن أبا بكر كان معجبا بقوة خالد، وشدة بأسه، و حسن بلائه، و براعته الفائقة في فن تسيير المعارك، ورسم إستراتيجية الحرب، و كان بالفعل كما وصفه أبو بكر، سيفا سله الله على الكافرين. إن التقييم الموضوعي لأداء خالد، رضي الله عنه، من وجهة نظر أبي بكر الصديق، ينبغي أن يراعي، و يأخذ في الحسبان، تضحيته، و بلاءه، و بسالته في المعارك، وهذه الخصال و المناقب كلها تشفع له، و تمنحه كافة الظروف المخففة، إن لم أقل الأعذار المعفية، عن كل ما يرتكبه، أو ينسب إليه، و هي الصفات نفسها التي أتاحت لخالد، أن ينال حظوة متميزة، و يتمتع بالثقة المطلقة لدى الخليفة أبي بكر، الذي يعرض لهذه –الاعتبارات كلها- عن كلام عمر، و يرفض بشدة طلبه بعزل خالد. أما موقف عمر من خالد، فينبني على مقاربة، تختلف عن نظرة أبي بكر و رؤيته للأشياء، فعمر كان يفرض على قادة جيشه السمع و الطاعة، و عدم مخالفة الأوامر أو تجاوزها، و ألا يعرضوا أنفسهم، للوم جنودهم و انتقادهم، و كان الالتزام بقواعد الدين، و مثله، و قيمه، آثر عنده من أمر الحرب، و ما يترتب عنه من نصر أو هزيمة. لم يستسغ عمر، و هو المتشبع بثقافة و قيم العدل و الاستقامة، أن يرى خالدا يقتل رجلا، شهد عدول من كبار الصحابة بأنه كان مسلما، و اشتد حنقه عليه، لما رأى خالدا وهو يسارع، بعد قتل هذا الرجل، بالتزوج من امرأته، مما ألقى في ذهنه، وجعله يعتقد أن قتله لم يكن بسبب ردته عن الإسلام، و إنما كان إشباعا لغريزته الميالة إلى العنف أولا، و رغبة في الظفر بزوجته، فثار لهذا الأمر ثورة عنيفة، وغضب غضبا شديدا، و طالب الخليفة بتوقيع عقوبة العزل على خالد، لكن سمع وأطاع، لما امتنع أبو بكر عن تلبية طلبه، دون أن يتراجع عن موقفه من خالد. إن الخلاف بين صاحبي رسول الله، أبو بكر و عمر، حول ما ينسب إلى خالد بن الوليد، سيف الله المسلول على الكفار، لم يفسد الود بين الرجلين، و لم يباعد بينهما، فأبو بكر ظل يحظى بالاحترام، و التقدير، و السمع و الطاعة، من طرف عمر بن الخطاب، الذي بقي قريبا منه، سامعا مطيعا، منفذا للأوامر، منضبطا ناصحا له، ولسائر المسلمين. لم يتهم عمر أبا بكر بتعطيل شرع الله، بعدم عزله خالد، و إقامته الحد عليه، بتهمة قتله رجلا مسلما، من غير حق، و تزوجه بامرأته، كما لم يدع إلى الثورة أو الخروج عنه، و أبو بكر من جهته، كان يعتبر عمر كركيزة من ركائز الإسلام، و يتعامل معه على هذا الأساس، يستشيره في كل ما يتعلق بشؤون الدولة و الأمة، و أنه لما اشتد عليه مرضه، و شعر بدنو أجله، عهد إلى المسلمين، و أوصاهم باستخلاف عمر من بعده، و هو ما قبلوه، و رضوا به بالإجماع. لقد استعرضت في هذا الموضوع، و عن قصد، أمثلة حية، تجسد حقيقة بعض الخلافات، و تباين المواقف في قضايا خطيرة و عظيمة الشأن، بين كبار صحابة رسول الله، و أعظمهم شأنا، و أثقلهم وزنا، فهم من السابقين في الإسلام، و من المبشرين بالجنة، ومن الذين شهدوا غزوة بدر، و قبض الرسول عليه الصلاة و السلام ، و هو عنهم راض. إن هؤلاء الصحابة الأبرار، الذين يمثلون في مخيالنا الجمعي كمسلمين، النماذج المثالية الرائعة ، و القدوة الحسنة، في الورع ، و التقوى، و الاستقامة، و العدل، اختلفوا في التأويل و الاجتهاد، و في آراء فقهية، و حلول شرعية لقضايا مطروحة، ولم يرق خلافهم إلى مستويات الفجور، أو يكون مدعاة لإرسال أحكام على عواهنها، بالردة و التكفير، و توزيع الاتهامات بالجملة، بتعطيل شرع الله، و عدم التمكين له، و ما تستتبعه مثل هذه الأحكام من إثارة للفوضى، و إشاعة للاضطراب ، وزرع للأحقاد و الإحن، و إيغار للقلوب، و فرقة بين المسلمين، و شق للصفوف، و إضعاف للقوى، و تفتيت للوحدة، وإهدار للدماء، و استباحة للأعراض، و هتك للحرمات. إن هذه الانحرافات و الآفات، تنتج كلها عن نقص في التدين، و عن التجرؤ على شريعة الله، وعدم التردد، أو التوجس من إصدار فتاوى هوجاء، رعناء، لا تستند إلى الأصول الفقهية السليمة، و لا تنبني على الأحكام الشرعية السديدة، و لا تأخذ بعين الاعتبار مصالح المسلمين، و ما ينفعهم، في دينهم و دنياهم. إن الدرس الواجب استخلاصه من خلاف الصحابة، رضوان الله عليهم، في الاجتهاد و التأويل، هو أن اختلافهم كانت تحكمه ضوابط حضارية راقية، و معايير رفيعة المستوى، و يتم ضمن أطر و قوالب فكرية،دينية، فقهية، لا يؤدي إلى صدام و لا يتسبب في أي شقاق، كما لا يفضي إلى أي تصدع أو اهتزاز في العلاقات الإنسانية، والوشائج الدينية التي تربط بينهم. فلنتعظ من سيرة هؤلاء، و لنقتد بهم في أفعالنا، وأقوالنا، تطبيقا لحديث نبينا محمد عليه الصلاة والسلام " أصحابي كالنجوم، إن اقتديتم بهم اهتديتم