الجبهة لدوغول العائد بوهم الحسم العسكري: أصدر محمد آكلي بن يونس (*) أحد مسؤولي اتحادية جبهة التحرير الوطني بفرنسا مذكراته، بمناسبة المعرض الدولي الأخير للكتاب، بعنوان "سبع سنوات في لهيب المعركة" (1) ويشير عنوان الكتاب وبعض إيحاءات مضمونه أن "مشكلة الداخل والخارج" لم تكن حكرا على الجزائر، بل امتدت إلى فرنسا أيضا، بعد أن حذت قيادة الاتحاد حذو لجنة التنسيق والتنفيذ فغادرت باريس، لتستقر في نفس الفترة تقريبا بألمانيا المجاورة. طبعا يعتبر المناضل الكاتب بأنه من "جماعة الداخل"، مؤكدا أنه لم يعرف قادة الاحادية إلا بعد استقلال الجزائر، ما عدا مسؤول التنظيم، الفقيد قدور العدلاني، الذي اجتمع به مرتين أو ثلاثة سنتي 1960 و1961. في الحلقة الأولى نستعرض مع الكاتب جوانب من كفاحه بباريس وضواحيها، إلى ما بعد عمليات 25 أوت 1958 التي قالت جبهة التحرير بموجبها إلى الجنرال دوغول العائد منذ فاتح يونيو الماضي بأوهام "الحسم العسكري": نحن هنا أمامك من شمال فرنسا إلى جنوبها! إعداد محمد عباس مبعوث من "سان دوني".. إلى أوعمران سنة 1954 كانت سنة الثورة بالجزائر، وصادف أن كانت كذلك سنة هجرة الشاب محند آكلي بن يونس ذي ال 18 ربيعا إلى فرنسا ليلتحق بوالده المهاجر. كان والده قد استقر بضاحية "سان دوني" شمال باريس، على سنة أبناء ناحية عين الحمام (تيزي وزو) الذين اختار أكثرهم الإقامة بهذه الضاحية. وفجأة اندلعت ثورة فاتح نوفمبر من نفس السنة، اندلعت في جو من الغموض التام، نتيجة سرية الأعداد لها من جهة، وعدم معرفة من يقف وراء إعلانها من جهة ثانية. وتفاقم هذا الغموض خلال الأشهر الأولى بفرنسا خاصة، لأن أنصار الحاج مصالي، الكثيرين يومئذ، كانوا يشيعون بأن الثورة ثورتهم، وأن "الزعيم" هم من يقف وراءها... وللخروج من مأزق الغموض هذا، سارع بعض سكان "سان دوني" بإرسال المناضل القديم في حركة انتصار الحريات الديموقراطية الطيب الحسيني إلى عين الحمام لتقصي حقيقة الثورة في أحد معاقلها. اتصل هذا المبعوث أولا بالمناضل عمار آث الشيخ، فرتب له لقاء بعمار أوعمران نائب كريم في قيادة المنطقة الثالثة آنذاك (الصومام - جرجرة)، لم يكتف أوعمران بشرح الموقف، بل سلم مبعوث "سان دوني" رسالة إلى عامة المهاجرين، مفادها باختصار أن الثورة مبادرة من جبهة التحرير الوطني، وأن جيش التحرير هو ذراعها المسلح. وطلب أوعمران من المهاجرين في نفس الوقت، أن يسلموا مساعدتهم للثورة، لتنظيم جبهة التحرير بفرنسا ذاتها. وهكذا شيئا فشيئا، وجد الشاب محند آكلي نفسه إلى جانب والده حسين - المناضل الوطني والنقابي- في معمعة التحرير الوطني، بأرض العدو ذاته.. ويذكر محند آكلي في هذا الصدد، أن يحيى بوشريط وأحمد عليان كانا ممن أولائل مسؤولي اتحادية الجبهة بفرنسا ناحية سان دوني... في هذه الناحية عاش الشاهد مطلع 1957 إضراب الأيام الثمانية (28 يناير - 4 فبراير) الشهير.. وكان من الشباب الذي كلف بتوزيع المناشير الداعية إلى الإضراب.. وتناول الكلمة في المقاهي والفنادق.. وما لبث "الهاتف العربي" أن فعل فعله، لا سيما أثناء الإضراب. ويذكرنا الشاهد بالمناسبة بأحد أسباب تفوق جبهة التحرير على الحركة المصالية بفرنسا: نجاحها في استقطاب غالبية الشباب المهاجر، بينما ظلت نسبة كبيرة من الكهول وفية "للزعيم".. كيف كسبت الاتحادية.. معركة باريس في منتصف فبراير 1957، ارتحلت عائلة حسين بن يونس إلى باريس، لتستقر في حي "برباس" الشهير، بعد أن اشتر شراكة مع ابن عمه محند أعراب، فندقا مجهزا بمقهى ومطعم.. وبعد أقل من شهر بدا للحركة المصالية أن تحيي مقدم العائلة على طريقتها الخاصة: شن هجوم مسلح على الفندق في 13 مارس الموالي! ما يعني في نظرها أن الفندق مصنف في خانة الولاء لجبهة التحرير... ويقول محند آكلي، الذي وجد نفسه منجرا وراء والده حسين في السراء والضراء، إن مقهى بوجمعة "ادزيري" (العاصمي) كان النصير الوحيد للجبهة في "برباس". أما البقية فكان تدين بالولاء لحركة مصالي، أو تقف على الحياد في حالة انتظار. كان مسؤول الناحية يومئذ هو حسين فتاس المكنى بالهندي، بينما كان مسؤول المنطقة، الذي يزور الحي من حين لآخر، هو مولود ضحاك المدعو "موسطاش"... هذه الوضعية النظامية السياسية بالناحية، كانت تستوجب عملا دؤوبا لكسب تأييد أصحاب المحلات التجارية وضمهم إلى هياكل الجبهة الناشئة، قبل تنظيم عملية قمع الاشتراكات منهم، وهي غالبا ما تكون أهم قياسا باشتراكات العمال البسطاء. وقد أثمرت هذه الجهود السياسية النظامية، فأصبحت هذه المحلات أو جلها عبارة عن خلايا فاعلة لاتحادية جبهة التحرير، بل مكاتب لها في كثير من الأحيان، ويخبرنا الشاهد بأن الاتحادية لم تهمل دعّار الحي، فقامت بتنظيمهم في " هيكل خاص"، يمكنّها من استعمالهم في بعض الحالات... وبفضل كل ذلك، أصبح "برباس" حيا نموذجيا لتواجد الإتحادية وهيمنة الجبهة بواسطتها. ويؤكد الشاهد، أن جبهة التحرير لم تكن في مارس 1957، قد قررت بعد التصدي لاعتداءات الحركة المصالية. والدليل على ذلك، أن مناضلي الدائرة 18 بباريس لم يتلقوا تعليمات محددة، لمواجهة الموقف الناجم عن اغتيال الحركة مسؤول الدائرة صالح بوشمال. لكن الجبهة تداركت عقب ذلك، وكالت الحركة الصاع صاعين، بحيث تمكنت عمليا في نهاية السنة من بسط نفوذها عبر مناطق واسعة من التراب الفرنسي... وفي هذا السياق ظهرت الأفواج المسلحة الأولى، وهي عبارة عن خلايا من 3 إلى 4 فدائيين، بهدف الدفاع عن النفس أولا ضد اعتداءات المصاليين المتكررة. ثم أداء عدد من المهام الأخرى مثل: 1 - تأمين الأماكن التي يرتادها المناضلون، لا سيما أثناء والاتصالات أو الإجتماعات. 2 - تأمين نقل أحوال الإشتراكات والوثائق السرية. 3 - تحييد العناصر الخطيرة من مخبري الشرطة الفرنسية.
ويوضع الفوج المسلح عادة تحت تصرف مسؤول الناحية (تقابلها إحدى دوائر باريس تقريبا)، ومن الأفواج الأولى في الدائرتين 18 و19، فوج سليمان عميرات ومحمد هروي. بعد كسر شوكة أنصار مصالي بفرنسا، أخذت الاتحادية تتحرك بحرية أكبر، للقيام بدورها في هيكلة المهاجرين حسب ثلاث درجات: مناضلين منخرطين ومتعاطفين. وقسم التراب الفرنسي في البداية إلى 4 ولايات مقسمة بدورها إلى عمالات، مناطق ونواحي... إلى أدنى السلم المتمثل في الخلايا والأفواج. وقد أقامت الاتحادية ما يشبه "الإدارة البديلة، بعد أن تلقى المهاجرون تعليمات بتجنب اللجوء الى الشرطة أو العدالة، لفض ما يطرأ بينهم من خلافات ونزاعات، وكانت قد شكلت لذلك لجانا للعدالة والنظافة ومساعدة السجناء.. فكانت اللجنة الأخيرة مثلا تقدم 50 فرنكا للسجين و160 فرنكا لزوجته... وتجندت المرأة المهاجرة بدورها، فقامت بمهامها الخطيرة دون تردد: مثل نقل السلاح والأحوال والوثائق... إلخ. تحسيس الشعب الفرنسي... بلهيب حرب الجزائر
في يونيو 1957 عينت لجنة التنسيق والتنفيذ مناضلا بالمغرب هو عمر بوداود، على رأس اتحادية الجبهة بفرنسا، عينته بمهمة خاصة: نقل الحرب إلى التراب الفرنسي، حتى يحس الشعب بما يعيش الشعب الجزائري، من مناكر وأهوال منذ فاتح نوفمبر 1954. علما أن هذا الاختيار كان مسجلا في أجندة قيادة الثورة، منذ مؤتمر الصومام قبل سنة من ذلك. تكونت تبعا لذلك لجنة خماسية (2) على رأس الاتحادية بقيادة المسؤول الجديد... ومالبثت هذه اللجنة أن استخلصت العبرة من الاعتقالات المتتالية للقيادات السابقة ففضلت تسيير الأمور انطلاقا من ألمانيا المجاورة. وبناء على ذلك استخلفت بفرنسا هيكلا تنفيذيا جديدا، من منسق عام بمساعدة ثلاثة مراقبين كنواب له في نفس الوقت. ولفت الجبهة الثانية على التراب الفرنسي، استحدث هيكل باسم "المنظمة الخاصة" وضع تحت إشراف عضو الاتحادية، رابح (السعيد) بوعزيز، ونائبه الميداني نصر الدين آيت مختار الطالب بكلية الطب. شرع فورا في التحضير اإى هذه العملية الهامة بتكوين أفواج خاصة وتدريبها تدريبا مناسبا كذلك... ومن هذه الأفواج من تم تدريبها بالمغرب... وحدّدت للعملية أهداف عسكرية واقتصادية في آن واحد، فضلا عن الجانب الاستعراضي الدعائي الذي يستهدف تحسيس الرأي العام الفرنسي والدولي بالقضية الجزائرية، وشهد شهر يوليو 58 عمليات جريئة، تأهبا لعمليات ليلة 25 أوت الموالي نذكر منها: 1 - تأديب "القومية" الذين جيء بهم من الجزائر، للمشاركة في استعراضات عيد 14 يوليو، وقد لاحقهم فدائيو الاتحادية من شارع "شان زيليزي" إلى مقر إقامتهم بقصر"فنسان" ليصلوهم بنيران رشاشاتهم.. مماأدى إلى مقتل "قومي" وإصابة آخرين بجروح. 2 - إطلاق النار على النائب العميل أحمد (آلان) جبور (3) بأحد مطاعم الدائرة الخامسة في 26 من نفس الشهر. وتمت عمليات ليلة 25 أوت في موعدها، حيث ضرب الفدائيون بقوة من ميناء "لوهافر" شمالا "إلى مستودعات المحروقات ب "موربيان" جنوبا (غرب مرسيليا)... ونقل لنا محند آكلي بن يونس شهادة دقيقة عن العملية التي استهدفت مصنع الذخيرة "بفنسان" بحكم إشرافه على تحضير العملية، وقد أدت إلى مواجهة مسلحة مع عناصر من الشرطة، انتهت باستشهاد اثنين من الفدائيين هما عبد القادر خليفي وبوجمعة حيونة. ولم تتوقف العمليات، بل استمرت شهرا بعد ذلك... إذ استهدف الفدائيون بقلب باريس في 15 سبتمبر الموالي جاك سستال، وزير الإعلام والوالي العام السابق للجزائر وأحد كبار المدافعين عن "الجزائر الفرنسية". وقدرت اتحادية فرنسا ومعها الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، أن عمليات 25 أوت 1958 "حققت أهدافها السياسية والعسكرية، وكان لها صدى واسع وسط الرأي العام الفرنسي والعالمي". العميل حويا ..يسقط في "مونمارت"
كان العميل محمد مراكش المدعو حويا من دعّار العاصمة، وحدث أن قتل امرأة من هذا الوسط فسجن بسببها، وأثناء سجنه اتصلت به شرطة الاحتلال وراودته على الخيانة مقابل الإفراج عنه. استأنف نشاطه بين الدعار، ومالبث أن أصبح مخبرا خطيرا، تفطنت منظمة جبهة التحرير بالعاصمة لدوره الخطير، فقررت تصفيته غير أنه نجا من المحاولة بعد إصابته فتدخلت الشرطة مرة أخرى لعلاجه. ثم إرساله إلى باريس لمواصلة خيانته، انطلاقا من أوساط الدعارة دائما. في غضون السداسي الأول من سنة 1957، تلقت اتحادية فرنسا رسالة من منطقة الجزائر المستقلة، بشأن هذا العميل الخطير، تحث على العثور عليه وتصفيته بدون تردد. أخذت الاتحادية تتقصى خطاه إلى أن عثرت عليه في حي "مونمارت" التابع لناحية الدائرة 18. كان حويا قد اندمج بسرعة وسط دعّار الحي الذين تراقبهم عناصر الاتحادية عن كثب، بل كسب سمعة بينهم وبدأ يحاول الاتصال بنظام الاتحادية لاستئناف مهمته القذرة. ولحسن الحظ أن تنبيه منطقة الجزائر وصل في الوقت المناسب... كلّف فدائيان -مبتدئان- بتصفيته، غير أن المسدس تعطل بعد الطلقة الأولى التي أصابت العميل في فخذه. لم يكن لهذه الإصابة الخفيفة كبير الأثر على هذا العملاق البدين، الأمر الذي جعله يرد الفعل بتأديب الفدائييين وطرحهما أرضا، قبل أن يفر في أول تاكسي يصادفه! بعد وقت قصير، عبّر حويا عن تحديه لنظام الاتحادية على طريقته الخاصة: هتف إلى محمد هروي مسؤول الفوج المسلح بالناحية ليشكره على صنيعه! وأكثر من ذلك ما لبث أن بعث مع أحد المناضلين الذين يترددون على "مونمارت" الرسالة التالية: لقد دفعت 400 فرنك لانتزاع الرصاصة من فخذي، عوضوني مادفعت، وعفا الله عما سلف! في اليوم الموالي أبلغ مناضلان مسؤول الناحية، أن العميل حويا بصدد تناول العشاء في أحد مطاعم "مونمارت"، مبدين استعدادهما للقضاء عليه فورا... فسلمهما المسؤول السلاح اللازم لذلك. وبعد نحو ساعتين أعاد إليه أمانته قائلين: لقد أنجزنا المهمة"! وكان ذلك مساء 17 سبتمبر 1957. ..... (يتبع) (*) عضو مجلس الأمة ورئيس جمعية مجاهدي اتحادي فرنسا. (1) صدر عن دار القصبة. (2) عمر بوداود بمساعدة قدور العدلاني، عبر الكريم السويسي، رابح بوعزيز علي هارون. (3) من نواب الإدارة الاستعمارية بالجزائر العاصمة، أصبح من حزب اليمين المتطرف بفرسا، جبهة الجلاد جان ماري لوبان.