اعتدنا كل سنة أن نحتفل باليوم الوطني للهجرة تخليدا لمجزرة 17 أكتوبر 1961 التي ارتكبتها شرطة موريس بابون (1914 - 2007) في عهد حكم الجنرال درغول ومن منا يستطيع أن ينسى هذا اليوم المشهود في تاريخ المهاجرين الجزائريين الذين عبروا عن ولائهم لبلدهم الجزائر وثورتها وردا على ظلم موريس بابون المعروف بجرائمه في قسنطينة 1956- 1957 وقد جنى به كمحافظ للشرطة في مارس 1958 للاستفادة من خبرته وعدهت إليه مهمة تطهير العاصمة الفرنسية من ''إرهابيي'' جبهة التحرير كما قال دوغول، بعد أن اتسعت أعمال الفدائيين الجزائريين ضد رجال الشرطة والخونة، ولا نستطيع أن نفهم مجزرة 17 أكتوبر 1961 إلا أذا عدنا إلى الوراء لمعرفة الخلفيات التاريخية للجريمة، ذلك أن جبهة التحرير قررت في أوت 1958 نقل الحرب إلى أرض العدو وضربه في مفاصله الاقتصادية، واستطاع الفدائيون الجزائريون ضرب عدة مراكز للشرطة ومراكز اقتصادية، ونقل الحرب أرض العدو جاء تلبية لنداء جبهة التحرير التي قررت نقل المعركة في قلب فرنسا لإشعار الرأي العام الفرنسي بوجود شعب جزائري يرفض الاحتلال، ويكافح من أجل استرجاع سيادته. التخطيط ارتأى بابون بحكم تجربته أنه للقضاء على خلايا جبهة التحرير في باريس لابد من استعمال ''الخونة'' و''الحركة'' وتوظيفهم لأداء هذه الخدمة بحكم معرفتهم للغة وعادات هؤلاء العمال، فأنشأ بابون لهذا الغرض كتائب وعين على رأسها وقيادتها النقيب مونتاني وهو ضابط ولد في الجزائر ويتقن العربية، واتخذ لهذه الكتائب ثكنة خارج باريس بعيدا عن أنضار الناس وتم تدريب هؤلاء، ثم تم زرعهم في قلب الأحياء التي يعيش فيها الجزائريون بكثرة مثل حي ''بارباس'' في الدائرة 18 وفي ساحة إيطاليا في الدائرة 13 وأخذ هؤلاء ''الحركة'' و''الخونة'' ليمارسوا أعمالا إجرامية ضد المناضلين الجزائريين ولطالما تحولت دهاليز المقاهي والفنادق التي كان يسكن فيها هؤلاء ''الحركة'' و''الخونة'' كمراكز للاستنطاق والتعذيب ومنح لهم موريس بابون صلاحيات لا حدود لها، حيث أنهم لا يسألون عما فعلوا ويفعلون وقد قررت جبهة التحرير أنه لابد من ضرب أوكار هؤلاء المجرمين، وتعرضت مراكزهم للهجومات من طرف فدائيي جبهة التحرير وقتلوا منهم العشرات ولطالما مارس هؤلاء الحركة والخونة أعمالا إجرامية ضد الوطنيين، بل إنهم اعتدوا على المحارم، وقد تحركت الصحافة الفرنسية وزارت مراكز هؤلاء فكتبت تندد بالأعمال الإجرامية لهذه الزمرة من المجرمين الذين حملوا الحقد والضغينة ضد بني قومهم، إلا أن هؤلاء لم يتوقفوا عن أعمالهم ولم يكتف بابون بهذه الكتائب التي نشرت الرعب والهلع في قلوب السكان الجزائريين في أحياء ''بارباس'' و''لاغوت دور'' وساحة ايطاليا، وخطى خطوة أخرى تصب في سياسة التضييق على الوطنيين الجزائريين فأصدروا قرار حظر التجول ضد المهاجرين الجزائريين في 5 أكتوبر 1961 وكان الهدف من هذا القرار التعسفي شل حركة وتنقل الجزائريين، خاصة في الليل ذلك أن العمال ينتهون من أعمالهم في الساعة السادسة مساء، مما يسمح لهم بالقيام بالاتصالات وجمع الاشتراكات، وتدارس أمر الثورة وما ينبغي القيام به وقد رأى بابون أنه لا بد من تجفيف منابع الدعم للثورة من خلال حظر التجول ليلا على العمال الجزائريين ولاشك أن هذا القرار قد أثر في تحركات المناضلين وكان لابد من الرد على هذا التحدي من طرف جبهة التحرير، إذا اجتمعت قيادتها برئاسة عمر بوداوود في مدينة كولن بألمانيا وتم إقرار تنظيم مظاهرة سلمية ردا على قرار بابون، وتم تحديد 17 أكتوبر 1961 وكان ذلك موافقا ليوم الثلاثاء وسمي ب''الثلاثاء الأسود'' كيوم للمظاهرة وهناك صحافي واحد على علم بهذا اليوم، وقد رسمت اتحادية جبهة التحرير خريطة هذه المظاهرات، حيث اختير لها الشوارع الرئيسية ''سان ميشال''، ''بون نوفال''، ''الاوبيراك'' ساحة النجمة ''نوسيي''، وقبل أن تنطلق هذه المظاهرة السلمية التي شارك فيها الرجال والنساء والأطفال، تلقى المشرفون على التظاهرة تعليمات صارمة مفادها أنها مظاهرة سلمية خالية من كل الأسلحة بما في ذلك السكاكين حتى لا تتخذ الشرطة ذلك ذريعة فتهجم على المتظاهرين، وانطلقت هذه المظاهرة كما رسم لها وشارك فيها جزائريون من باريس ومدن الضواحي: ''فانير'' و''جانفيلي'' و''سان دوني'' وقدر خبراء الإعلام عدد المشاركين في هذه المظاهرة ب''35 ألف شخص'' من الرجال، والنساء والأطفال فتصدت لهم شرطة بابون بالرصاص وشاهد سكان باريس جثثا للجزائريين في ''بون نوفال''، كما أخذت شرطة بابون ترمي بالجزائريين في نهر السين، وقد ظل هذا النهر -لوكان يتكلم- يستقبل جثث الجزائريين ولمدة تزيد عن أسبوع، وكان حصادا داميا في يوم مشهود، حيث قدرت مصالح جبهة التحرير شهداء مجزرة 17 أكتوبر 1961 ب 400 شهيد ومثل هذا العدد من المفقودين ونفس الأرقام التي قدمها ''جان لوكه اينودي'' في كتبه عن الجريمة، بالإضافة إلى أن مئات منهم تم ترحيلهم إلى الجزائر. إعادة الاعتبار فلا شيراك ولا تيبيرى قام بعمل ما يخلد شهداء 17 أكتوبر 1961 وها هو شيخ بلدية باريس الحالي لوبي بيرتراند المولود في بنزرت بتونس يخطو خطوات جريئة لم نخطها نحن في الجزائر فقد وضع لوحة تذكارية في جسر ''سان ميشال'' تخلد شهداء الهجرة الجزائرية وفي اللوحة نقرأ الكلام التالي: ''من هنا كانت الشرطة ترمي بالجزائريين إلى نهر السين''، ويبدو أن هذه السنة ستشهد مزيدا من الاهتمام بمجزرة 17 أكتوبر 1961 ذلك أن مدن الضواحي مثل ''نانتير'' وغيرها تريد أن تشارك في الاحتفال بذكرى هذه الجريمة، والتي تسميها صحافتنا ''أحداث 17 أكتوبر'' فهي جريمة تضاف إلى جرائم فرنسا الاستعمارية وقد شرحت ذلك في حوار مع ''إذاعة القرآن'' وفي قناة ''بور.تيفي'' التي تبث من فرنسا، وقلت متى نقيم جمعية 17 أكتوبر أو ساحة 17 أكتوبر، ففي فرنسا ''جمعية 17 أكتوبر 1961 ضد النسيان''، وأصدرت كتابا كاملا شارك فيه عدة مؤرخين فرنسيين وجزائريين، من جانبنا نكتفي بالحديث وكفى. ردود الفعل قال فرانسيس جانسون مؤسس شبكة دعم جبهة التحرير بفرنسا ''إن الاستعمار في حد ذاته جريمة ضد الإنسانية'' فما بالك بجرائمه التي ارتكبها طيلة وجوده فوق التراب الوطني الجزائري، ويقول جان لوك اينودي، صاحب عدة كتب عن جريمة 17 أكتوبر ,1961 إن اعتراف فرنسا بجرائم الاستعمار في الجزائر يعد اعترافا بالتاريخ وبالأضرار التي لحقت بالشعب الجزائري وإن رفض فرنسا الاعتراف رسميا بجرائمها يقلل من مصداقيتها كبلد يحاول أن يجبر تركيا بالاعتراف بجرائمها ضد الأرمن ,1915 ونحن لا نزال نتحدث عن جرائم 8 مايو 1945 وجريمة 17 أكتوبر 1961 وجريمة 20 أوت 1955 كمجرد أحداث لا غير، وذلك أسوة ببعض الكتاب والمؤرخين الفرنسيين، ويقول ''أوليفى لوكور غراند ميزون'' وهو من كبار المؤرخين ورئيس ''جمعية 17 أكتوبر 1961 ضد النسيان'': ''إن مجزرة 17 أكتوبر 1961 ضد المهاجرين الجزائرين هي جريمة دولة منظمة''، أما مجلة ''الأزمنة الحديثة''، التي كان يديرها الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (1905 - 1980) فقد تعرضت للتوقيف من طرف بابون ذلك أن مديرها سارتر كان واحدا من بين 300 شخص الذين وقعوا على بيان 18 أكتوبر عشية الجريمة وقد شارك في هذا البيان شخصيات ثقافية وفكرية وأدبية احتجاجا على الجريمة والمجرمين، وفي كتاب جان لوك اينودي أسماء لبعض شهداء 17 أكتوبر 1961 وقد قمت شخصيا بنقل هذه الأسماء في كتاب ''جرائم موريس بابون ضد المهاجرين الجزائريين''، منشورات ثالة -الجزائر-. بابون في قفص الاتهام عاش بابون وهو ينعم بمناصب محترمة وأكل على جميع موائد ''دوغول وبومبيد وجيسكار دسيتان'' ولما اعتلى ميتران سدة الحكم في مايو 1981 كان محاطا بشخصيات يهودية وتصادف أن قامت جريدة ''لوكانار أنشيني'' الهزلية بنشر تحقيق حول ماضي بابون خلال الحرب العالمية الثانية، حيث كان مسؤول الشركة في بوردو ممثلا لسلطة ''فيشي'' المتعاملة مع النازية فكان بابون في هذه الأثناء يرسل الآلاف من اليهود من الرجال والنساء إلى معسكرات الموت في ''درانسي'' و''أوسشفيتز'' وقد فتح اليهود ملف بابون فقادوه إلى السجن بتهمة ارتكاب جرائم ''ضد الإنسانية'' فارتكاب جرائم ضد اليهود هي جرائم ضد الإنسانية، أما جرائمه ضد الجزائريين فكانت أمرا عاديا، فبواسطة هذه التهم وجد بابون نفسه بالسجن، حيث حكمت عليه المحكمة ب''عشر سنوات سجنا''، فرغم مرضه وسنه لم يعطف عليه اليهود، وقد قال واحد من هؤلاء ''كان بابون لا تأخذه شفقة ولا رحمة باليهود الشيوخ والمرضى والعجزة وها هو يلقى جزاءه وكان من حسن حظه أن بعض الشخصيات اليهودية طالبت بإطلاق سراحه خوفا من أن يموت في السحن، بحكم سنه ومرضه وتكون نتائج هذه الموت ضررها أكثر من نفعها، فوصول ميتران إلى الحكم كان شرا مستطيرا على بابون، فقد انتهت حياته السياسية، وانتهى به المطاف إلى السجن في حين احتفظ به دوغول رغم ما حصل في عهده من جرائم ضد المهاجرين وتواطؤ شرطته في اختطاف المعارض المغربي المهدي بن بركة سنة 1965 في قلب ''سان جيرمان''، حيث شاركت في العملية مخابرات مغربية وفرنسية ويقال إن هناك مخابرات إسرائيلية لعبت هي الأخرى دور المتواطئ في العملية. خلفيات الجريمة جرائم فرنسا ضد المهاجرين الجزائريين لم تكن وليدة 17 أكتوبر 1961 وإن كنا لانكاد نذكر إلا هذا اليوم وننسى أن جرائم فرنسا ضد المهاجرين الجزائريين لم تبدأ في هذا اليوم، بل حدثت جرائم عديدة في سجل تاريخ جرائم فرنسا التي لم تتوقف من الاحتلال إلى الاستقلال، بل حتى ما بعد الاستقلال تعرض شباب من أصول جزائرية للاغتيال من طرف العنصريين ورجال الشرطة دون عقاب ف 25 أوت 1958 كان يوما مشهودا في تاريخ الهجرة الجزائرية حيث شن في هذا اليوم فدائيون جزائريون في فرنسا سلسلة من الهجمات على مراكز الشرطة ومحطات البنزين وكانت الحصيلة خسائر قدرت بالملايين وقد تم ذلك في إطار فتح جبهة ثانية في قلب أرض العدو، لإنهاكه وتشتيت قواته وتكبيده خسائر اقتصادية ومالية، وكان ذلك تأييدا لتلاحم الشعب الجزائري في الداخل والخارج مع ثورته وتصميمه على نيل استقلاله مهما كلفه ذلك من ثمن، وقد اعتبر البعض من المؤرخين الجزائريين أن يوم 17 أكتوبر 1961 هو نوفمبر آخر تقوم به الجالية الجزائرية في المهجر، وقد دخل هذا اليوم التاريخ من بابه الواسع، ففيه سجل المهاجرون الجزائريون صفحات ناصعة في الثورة التحريرية وبرهنوا للرأي العام في الداخل والخارج أنهم جزء لا يتجزأ من الشعب الجزائري.