”الركبة مايلة”.. عبارة شعبية تدل عن كل شيء غير سليم أو غير صالح. هذه العبارة تنطبق تماما على الوضع في الجزائر، حيث أن ”الركبة مايلة” منذ استعادة السيادة الوطنية؛ فالثورة التي خطط لها الحكماء من أمثال العربي بن مهيدي وزيروت يوسف ونفذها الآلاف من أبناء الشعب الشجعان، استفاد منها وشوهها الجبناء. تناولت، في الأسبوع الماضي، في نفس هذا الركن، الوضع المأساوي الذي أصبحت عليه المنظومة التربوية الجزائرية، وقلت إن المسؤول عن الفساد الذي عم كل القطاعات وأصاب كل المجالات يعود للمنظومة التربوية وللطبقة السياسية الجزائرية. نتناول اليوم إذن الطبقة السياسية التي تولت تسيير أمور البلاد والعباد منذ الأيام الأولى لاستعادة السيادة الوطنية وكيف أن تصرفات غير سوية برزت إلى السطح دون أن تجد رادعا يوقفها عند حدها. لن أتعرض هنا لكل المؤامرات التي حيكت ضد الثورة الجزائرية ولا للاختراقات التي وقعت والتي أدت إلى توقيف مسار الثورة عند هدفها الأول الذي هو استعادة السيادة الوطنية، لن أتعرض لكل هذا فتلك مهمة المؤرخين ومهمة من لازال على قيد الحياة من المجاهدين الحقيقيين، ومن أراد أن يطلع على الكيفية التي اغتيلت بها الثورة الجزائرية أدله على كتاب المجاهد الرائد سي لخضر بورقعة، المعنون ب ”شاهد على اغتيال ثورة”. إذن لن أتعرض لكل هذا، بل أحاول فقط أن أثير النقاش حول مجموعة من الممارسات التي دفعت بالجزار للسير في درب التنكر لثورتها ولرموزها. ممارسات تراكمت آثارها، مع مرور الزمن وغياب الحساب والعقاب وتسلل الفاسدين إلى مراكز القرار، حتى أصبحت الجزائر ترتب في ذيل كل قوائم الدول الأكثر فسادا والأكثر ”استهلاكا” للرشوة والأكثر استيرادا للمواد الغذائية والأكثر غيابا في مجال البحث العلمي ... إلخ. من أولى الممارسات التي طبعت معظم أبناء جيلي، الذي ولد على دوي رصاص الثورة التحريرية، هي تلك المتعلقة بتشويه صورة المجاهدين، أطفال ذلك الزمن كانوا ينظرون إلى هذه الفئة على أنها ليست كالبشر، فقد حملت السلاح ودحضت الاستعمار معرضة أنفسها لكل الأخطار من أجل حرية الجزائر، لكن أيد خفية دفعت بالبعض منهم إلى التسابق للاستيلاء على الخمارات التي تركها الكولون، وجعلت من البعض الآخر مجرد بوابين لدى الإداريين الموروثين عن إدارة الاحتلال، وحورب البعض الثالث الذي رفض الانصياع للأمر الواقع وحاول مواجهة فلول الاحتلال وبقاياه. هذه الفئة الأخيرة تعرض الكثير منها للسجن والتنكيل والتجويع. وحتى تكتمل صورة المجاهد الذي يبيع جهاده، قررت السلطة منح بطاقات النضال ومعها منحة شهرية لكل من حمل السلاح ضد الاحتلال وهنا بدأت الكارثة الحقيقية، فقد تسلل الكثير من عملاء الاحتلال إلى قوائم المجاهدين وأصبحوا بفضل بطاقة الجهاد، يحتلون الصفوف الأولى في كل ما له علاقة بالثورة التحريرية، وتولوا المناصب في مختلف مؤسسات الدولة ليتصرفوا فيها كمستعمرين جدد. بطاقة مجاهد منحت لحامليها حقوق التميز عن غيرهم من المواطنين، فقد أهلتهم للالتحاق بالجامعة بدون شهادة الباكالوريا، وأعطتهم الأولوية في الحصول على أي منصب، ومنحتهم حق استيراد السيارات بدون أن يدفعوا الضرائب الجمركية... إلخ. كان المفروض أن لا يحدث كل هذا، فالثورة التحريرية كانت ثورة معظم الشعب الجزائري وبالتالي فالتمييز كان يجب أن يكون بين من كان مع الثورة، وهم غالبية الشعب، ومن كان ضدها وهي أقلية قليلة كان لا بد من إبعادها من كل دواليب ومؤسسات السلطة الناشئة. لا أدري كيف قبل المجاهدون الحقيقيون بأخذ فتات مقابل جهادهم. شهادة النضال التي وزعت وقتها، استفاد منها من أطلق رصاصة واحدة ومن لم يطلق، كما استفاد منها كل من كانوا يعيشون بعيدا عن لهيب الثورة وجحيم الحرب. أتعجب كيف حدث هذا، لأن من كان يجب أن يتحصل على شهادة النضال هن نساء الريف. كل نساء القرى والجبال شاركن بفعالية في الثورة فهن من كن يحضرن الأكل للمجاهدين ويغسلن ويخطن الثياب ويقمن أحيانا حتى بالحراسة. ثم أن من حمل السلاح كان يجاهد دفاعا عن عرضه ووطنه فكيف يدفع له ثمن مقابل جهاده. الحمد لله إني أعرف من المجاهدين الحقيقيين من لم يستفد يوما ولو بسنتيم واحد مقابل جهاده معتبرا ذلك واجبا أداه من أجل الوطن أو لوجه الله. في الفيتنام، الذي عرف ثورة شبيهة بثورتنا، عاد الثوار، بعد استعادة السيادة الوطنية إلى حقولهم وأعمالهم السابقة ولم يستفد أي منهم بأي شيء، حتى في مجال المسؤوليات لم تمنح يوما لأي كان بسبب كونه من الثوار. هذا البلد اعتمد الكفاءة والعمل فقط كوسيلة للترقية الاجتماعية لذلك نراه ينمو ويتطور رغم شح الثروات. بالنسبة للجزائر، كان المفروض أن تعتني الدولة فقط بالمعطوبين والعاجزين عن العمل وأن تركز جهودها على أرامل وأبناء من هم أكرم منا جميعا: الشهداء. لكن الذي حصل هو عكس ذلك تماما: وزعت الحانات، السكنات، الفيلات والمحلات وخصصت المنح لبعض المجاهدين والكثير من المندسين معهم وحرمت أرامل الشهداء وأبناء الشهداء من الحق في الحياة الكريمة في الجزائر المحررة بدماء أزواجهن وآبائهم. دفعوا بأرامل الشهداء إلى العمل كخادمات في بيوتهم، وخصصوا فقط خمسة دنانير في الشهر لكل طفل من أبناء الشهداء، وهو مبلغ يكفي في ذلك الوقت، لشراء ثماني (8) خبزات فقط. أهانوا الأرامل وجوعوا الأطفال، ولاشك أن أبناء الشهداء وبناتهم من الذين عاشوا في مراكز الإيواء التي خصصت لهذه الفئة لازالوا يحملون، لحد اليوم، آثار المعاملات السيئة التي تعرضوا لها في تلك المراكز التي كانت تفتقد لكل مقومات الحياة. هكذا بدأ الفساد في الجزائر منذ الأيام الأولى لاستعادة السيادة الوطنية. يكتبه: الدكتور أحمد عظيمي