مع استعادة الجزائر لسيادتها كان منتظرا أن يكون كل الوفاء أولا للشهداء من خلال الاهتمام بأبنائهم وأراملهم. كان على القيادة الناشئة ومعها كل رفاق الشهداء أن يولوا عناية فائقة لمئات الآلاف من الأطفال الذين تربوا في اليتم والفقر، لكن الذي حدث هو عكس ذلك تماما. لقد اقتصر دور السلطات الجزائرية، قيما يتعلق بهذه الفئة، على إجراءين أثنين، تمثل الأول في إنشاء مراكز لتجميع الأيتام من أبناء الشهداء وتلخص الإجراء الثاني في تخصيص مبلغ مالي يدفع لأرملة الشهيد عن كل طفل من أطفالها. في مراكز أبناء الشهداء، أو مراكز الأيتام كما كانت تعرف، تعرض أبناء الشهداء لأسوأ أنواع المعاملات. المراكز كانت تفتقر لأدنى شروط الحياة من ذلك أنه كان يحدث، بسبب اكتظاظها، أن ينام ثلاثة إلى أربعة أطفال في الفراش الواحد المخصص للفرد الواحد، إضافة إلى فقر وجبات الأكل المقدمة لهم كما ونوعا. الكثير من أبناء الشهداء تحملوا ولسنوات طويلة من حياتهم آثار الضرب والمهانات التي تعرضوا لها في هذه المراكز. نتمنى أن يكتب البعض من الذين مروا بهذه المراكز مذكراتهم وشهاداتهم عن المعاناة والمعاملات الغير إنسانية التي تعرضوا لها حتى تطلع أجيال المستقبل على حقيقة ما وقع غداة استعادة السيادة الوطنية وكيف برمجت عملية الانتقام من أبناء الذين دفعوا حياتهم ثمنا لحرية الشعب الجزائري. وكدليل على الاستخفاف الذي كان يوليه »أولي الأمر« لأبناء الشهداء يكفي أن نذكر هنا أنه عندما فتحت مدرسة الرقص والفنون الدراماتيكية ببرج الكيفان وكانت تحتوي على اختصاص في فن الرقص من نوع البالي، وأمام عدم إقبال بنات الجزائر على هذا الاختصاص، تقرر اللجوء إلى مراكز بنات الشهداء حيث تم اختيار مجموعة منهن حولن إلى مدرسة برج الكيفان ليشكلن أول نواة لأول فريق بالي بالجزائر، ورغم أن هذا الفريق كان له شأن كبير حتى على المستوى الدولي فأنه لا يوجد أي تبرير كان يبيح للمسؤولين تحويل بنات من هم أفضل منا جميعا أي بنات شهدائنا إلى راقصات وما يتبع ذلك من مصادرة لحقهن في اختيار المهن التي تفضلنها. مع الإشارة إلى أن لا أحد من الذين اتخذوا هذا القرار أرسل أبنته أو أخته إلى نفس المدرسة. أبناء الشهداء الذين بقوا في كنف أمهاتهم وعائلاتهم لم يكن وضعهم المادي بأحسن حال فقد خصصت لهم السلطة الجزائرية مبلغ خمسة (05) دنانير تدفع شهريا لولي الأمر، ولنا أن نتصور كيف يعيش الطفل اليتيم، ولو في بداية الستينيات، بملغ خمسة دنانير حيث لم يكن يكفي هذا المبلغ لشراء أكثر من سبع خبزات ونصف (ثمن الخبزة ذات الكيلوغرام الواحد كان 65 سنتيما)، البعض من هؤلاء الأطفال، سواء الذين كانوا في مراكز التجميع أو الذين بقوا في كنف عائلاتهم، أنقذوا فيما بعد من الجحيم عندما تم توجيههم نحو مدارس أشبال الثورة التي منحتم حياة كريمة وتكوينا أوصل البعض منهم حتى مستوى الدكتوراه. الكثير من الذين التحقوا بمدارس أشبال الثورة أدركهم الإرهاب وهم في المستويات الوسطى من المسؤولية (على مستوى القطاعات والوحدات العسكرية) فواجهوه بكل حزم وكان من بينهم شهداء حرموا من صفة شهيد بسبب عبارة »شهداء الواجب« التي لا نذكر من كان أول من استعملها ولا لماذا استعملها مع أنهم شهداء بالمعنى الكامل للكلمة. لا يمكن التحجج بأوضاع البلاد غداة استعادة السيادة الوطنية لتبرير المآسي التي تعرض لها أبناء الشهداء إذ، في نفس الفترة، كانت السلطة الجزائرية تخصص إمكانيات معتبرة لداخليات الثانويات التي كانت تستقبل الأطفال من السنة الأولى متوسط إلى السنة الثالثة ثانوي. تلاميذ هذه الثانويات كانوا من أبناء العائلات التي كانت تعيش في الظل أيام الاستعمار. أذكر أنه عندما التحقنا، سنة 1966 وكنا من أول الدفعات التي تدرس باللغة العربية، بواحدة من هذه الثانويات فوجئنا بمستوى الخدمات سواء من حيث شروط الدراسة أو الأكل أو النوم والتي لا تختلف عن مستوى فنادق خمس نجوم اليوم؛ كما فوجئنا، ونحن أطفال صغار، بالكم الهائل من الكراهية التي كانت تحملها إدارة وتلاميذ هذه الثانوية للغة العربية ولأساتذتها وللمتعلمين بها. هكذا نشأ وتربى أبناء الشهداء في الجزائر المستعيدة لسيادتها، ولما كبروا وأصبحوا يشكلون –من حيث العدد على الأقل- قوة معتبرة، وفي الظروف الأمنية الصعبة التي بدأت تعيشها الجزائر تم اللجوء إليهم للمساهمة في حماية الجزائر من الإرهاب. في هذا الظرف بالذات أرتكب أبناء الشهداء أول خطأ لهم، فعوض أن يشكلوا، مع باقي القوى الوطنية من أبناء المجاهدين الحقيقيين وأبناء الأسر التي عانت من الاستدمار، تكتلا وطنيا موحدا ضد بقايا الطابور الخامس ومعه كل القوى المعادية لتحرر الجزائر وتطورها نحو العصرنة فأنهم أنشأوا تنظيما خاصا بهم وهو التنظيم الذي تسلل إليه "أبناء شهداء" مزورين وعرف فيما بعد انشقاقات وأصبحت له مصالح وولاءات وكتبت عنه وعن قياداته الكثير من المقالات. وجود تنظيمات عديدة متنافسة وذات توجه مطلبي نقابي للقوى التي يفترض فيها أنها الأكثر وطنية والأكثر قابلية للتضحية لمواصلة إنجاز المشروع التحرري الذي يجعل من الجزائر دولة عصرية وقوية لا يساعد إطلاقا على مواجهة المشاريع التخريبية ولا تلك الرامية إلى إبقاء الجزائر داخل دائرة النفوذ الفرنسي. التيار الوطني –لا أتحدث عن الأحزاب السياسية بل عن تيار شامل- لم يكن أبدا، حتى في زمن الاحتلال، أكثر ضعفا مما هو عليه اليوم. إنه عبارة عن شتات بدون توجه سياسي واضح ولا برنامج سياسي محدد ولا فكر مستنير ولا مشروع مجتمع. النخبة الوطنية أصابها الخمول فوهنت، أو الخوف فصمتت، أو الطمع فاستكانت. غياب، أو تغييب، النخبة المستنيرة وانسحابها من النضال أو رضوخها لإغراءات أو ضغوطات الطابور فتح المجال للرداءة لتحل محل الرموز الإيجابية. منذ السنوات الأولى لاستعادة السيادة الوطنية، ونحن نتابع كيف يتم »صنع« مسؤولين كبار من الأميين والطبالين والزرناجيين وحتى من الخمارين الذين يتداولون على المسؤوليات ويتكلمون في السياسة ويدلون بآرائهم في القضايا المصيرية للأمة ويخططون لها قبل أن نكتشف، عبر الصحافة، كيف عاثوا فسادا في أموال الدولة وكيف اغتنوا من استغلال المنصب وكيف زورت لهم الشهادات ...