يروي الكاتب المصري محمد حسنين هيكل، في واحد من الكتب التي خصصها لصديقه الرئيس جمال عبد الناصر، أن هذا الأخير قال له ذات مرة، متحدثا عن رفاقه في مجلس الثورة، بأن هؤلاء قاموا بثورة ونجحوا فيها لذلك فهم يعتبرون بأن مصر هي ملكية خاصة يفعلون فيها ما يشاؤون. وضع الجزائر شبيه إلى حد ما بوضع مصر، مع فارق جوهري يكمن في كون مجموعة من الضباط قامت، في مصر، بانقلاب عسكري على الملك، سموه ثورة وتولى الإنقلابيون شؤون مصر فاستباح بعضهم أرضها وثرواتها وحتى أمنها وعرضها؛ بينما في الجزائر قامت ثورة شعبية حقيقية ضد عدو أجنبي قاهر وظالم، غير أن الذين خططوا للثورة وقاموا بها لم ينج منهم ويبق على قيد الحياة ليعيش في الجزائر المحررة سوى القليل جدا. في حوار أجريته مع العقيد الطاهر الزبيري، منذ ثلاثين سنة، طلبت منه أن يكلمني عما وقع، في الجزائر، غداة استعادة السيادة الوطنية فأجابني بجملة واحدة وصمت، فقد قال: ”في الاستقلال، كانت هناك مجموعتان، الأولى خارجة من جحيم الحرب والأخرى كانت تتظلل تحت الأشجار، وكان من الطبيعي أن تنتصر الفئة الثانية لأن الأولى كانت مثخنة بالجراح ومثقلة بمآسي الحرب”. المتظللون تحت الأشجار، أي كل المندسين، وكل الذين التحقوا بالثورة في أيامها الأخيرة، وكل الذين زوروا بطاقات النضال... كل هؤلاء، تحالفوا مع بقايا إدارة الاحتلال - الذين يسميهم الدكتور محي الدين عميمور في إحدى مقالاته، بالطلقاء - ليشكلوا حلفا استولى على مقاليد الأمور في الجزائر وصادروا الحرية ومعها ثروات البلد. المتظللون تحت الأشجار، مارسوا كل أنواع الإبعاد والسجن والتهميش ضد أبطال الثورة الذين بقوا على قيد الحياة: أبعد العقيد علي كافي كسفير للجزائر في مصر، وسجن العقيد صالح بومبنيدر وكذلك محمد بوضياف وهو من مخططي ومفجري الثورة، ودفع بالحسين آيت أحمد ليرفع السلاح من أجل تصحيح مسار الثورة ثم يلقى عليه القبض ويسجن، وشجعوا أصغر عقيد في العالم (شعباني) على التمرد ليعدم بعد ذلك... إلخ. القلة القليلة جدا من المجاهدين الحقيقيين الذين تمكنوا من الصمود وتولى بعضهم مسؤوليات معينة تم تحجيم دورهم من خلال إحاطتهم بعناصر من بقايا الإدارة الفرنسية. ”فضلة فرنسا”، كما يسميهم البعض، استعملوا كل حيلهم، وانبطاحهم كذلك، لتوريط من لم يحذر أساليبهم وتقزيم من لم يفهم مبتغاهم وأهدافهم. في شبابنا، كنا نتساءل أحيانا، كيف يصمت الرجال الذين حملوا السلاح ضد المحتل وعرضوا حياتهم للأخطار، كيف يصمتون أمام المؤامرات العديدة التي كان الجميع يشاهد كيف تحبك في وضح النهار. تساءلنا أيضا: كيف يقبل قادة الأمس بمن كانوا في صفوف المواجهة ويرضخون لهم؟ ولأن المتظللين تحت الأشجار وبقايا الإدارة الفرنسية كانوا يعلمون مدى تعب المجاهدين الحقيقيين كما كانوا يعلمون بأن الجيل الواحد لا يقوم أبدا بثورتين، لذلك اغتالوا الثورة وأوقفوا مدها وحجموا دورها ودفنوا رموزها وأهانوا أرامل شهدائها وبددوا ثرواتها. ”الركبة مايلة” من البداية، ولازالت كذلك إلى اليوم. عبر الخمسين سنة الماضية، ورغم غياب الكثير ممن تولوا أمور الدولة الجزائرية في السنوات الأولى لاستعادة السيادة الوطنية إلا أن آثارهم ومخلفاتهم لازالت قائمة ومؤثرة. على مدار خمسين سنة، تمت محاربة الذكاء والكفاءة لصالح الموالاة والرداءة. بطاقة النضال التي أحرز عليها كل من أطلق رصاصة ومن لم يطلق، كانت هي الشهادة الأساسية في كل ملف توظيف أو تولي مسؤولية ما. مررنا بمراحل سيرت فيها حتى مصالح علمية، تستعمل آخر التكنولوجيات وتوظف مهندسين وخبراء، من طرف أميين؛ كما فتحت أبواب الجامعات أمام كل من يعرف القراءة والكتابة ليسجل نفسه بدون شهادة البكالوريا ويتحصل، بعد أربع سنوات، على شهادة جامعية، فأصبح بذلك للجزائر آلاف الجامعيين (بعضهم أصبحوا دكاترة يشرفون على أطروحات الدكتوراه) لا يعرفون حتى صياغة فقرة خالية من الأخطاء. حتى يمكن تقريب الفكرة بصورة أوضح، خاصة للشباب، لنتصور بوابا في مؤسسة ما يصبح مديرا لهذه المؤسسة أو عريفا (كابران) تمنح له رتبة جنرال، أو شرطيا يصبح مديرا ولائيا للشرطة.. كيف سيتصرف هؤلاء؟ وكيف سينظرون لأنفسهم وهم يشاهدون الناس تنبطح أمامهم وتتملقهم؟ هذا ما حدث بالضبط في الجزائر المستعيدة لسيادتها الوطنية. مجرد بوابين في الإدارة الفرنسية أصبحوا مديرين ومسؤولين على أعلى المستويات. كل من كان يعرف الحروف الهجائية باللغة الفرنسية أصبح مسؤولا. هذا الكم من الناس الذين استولوا على المسؤوليات أصبح همه الأساسي هو الدوام في المسؤولية ومحاربة الذكاء والكفاءة وكل من قد يهدد وجودهم أو مصالحهم. الدفعات الأولى من الشباب الجامعيين عانوا الأمرين، من المتظللين تحت الأشجار وبقايا الإدارة الفرنسية وبوابيها، ولم ينجح من الشباب الجامعي إلا من استطاع ”التأقلم” والانبطاح والسكوت على الفساد ثم المساهمة فيه.