”نحن كقطعة البوزل الناقصة في المشهد الأدبي العربي”، هكذا وصف الروائي أمين الزاوي، حال الأدب الجزائري، مرجعا السبب إلى السلطة التي ترى الكاتب معارضا سياسيا وليس ناقدا والتبعية الدائمة للقيطو الفرنسية من حيث الترجمة والكتابة، إضافة لغياب دور المؤسسات الثقافية وعلى رأسها اتحاد الكتاب الجزائريين والجاحظية في تدارك الوضع الخطير، عن هذه النقاط وتجربة الرواية الجزائرية يتحدث صاحب ”لها سرّ النحلة ” في حوار ل”الفجر الثقافي”... يقابل انتقاد كاتب جزائري ما للسلطة وواقع المجتمع تشكيكا في هويته ووطنيته، ما رأيك في هذه ”التهمة” التي توجه للمثقف الجزائري؟ أعتقد أن دور المثقف والكاتب أولاّ هو النقد وحينما أقول النقد لا يعني مفهوم المعارضة، فتعريف المثقف هو الذي يمارس أساسا عملية النقد لوضع معين سواء يقصد به السلطة أم المجتمع بكل ظواهره، بمعنى آخر يوجد فرق شاسع وواضح بين النقد والمعارضة، وبالتالي فالمطلوب من أي سلطة أو حكومة بأي بلد كان، إذا ما أرادت أن تتقدم إلى الأمام وتتطور في مختلف المجالات أن تصغي لمن يوجه لها الانتقادات، لأنّ النقد حسب رأيي هو الكفيل والقادر على دفع المجتمع، المؤسسات، الدولة وحتى السلطة إلى بلوغ المعرفة وتدارك النقائص على كامل الميادين، لكن للأسف في مجتمعاتنا هناك خلط لمفهوم النقد والمعارضة السياسية معا، وهذا بالنظر لعدم وضوح الحقل الثقافي والمعرفي والسياسي، فالخطاب مختلط بين السياسي والثقافي وكذا المعرفي. من خلال هذا الإشكال القائم على الدوام بين السلطة والمثقف، أين يكمن دور اتحاد الكتاب الجزائريين في توضيح العلاقة بينهما وبعث الحركية الثقافية والأدبية في البلاد؟ دائما أقول هناك غياب شبه تام ليس فقط لهيئة اتحاد الكتاب الجزائريين، بل لكافة فئات المجتمع المدني في الجزائر والجمعيات الثقافية الغائبة عن المشهد، لذلك فالثقافة التي لا يقودها على المستوى النشيط والفعال الجمعيات والكتّاب والأدباء في مختلف مجالات كتاباتهم، تولد حسب اعتقادي مجتمعا فاشلا، لأنّ الثقافة فيه تتحول إلى ثقافة مؤسسات باردة غير موثوق بها، وعليه أنوّه بأنّه يستلزم قيام اتحاد الكتاب بدوره على أكمل وجه ويكون بالفعل الصوت الذي يوصل الكتاب إلى الأعلى، مثلما كان عليه في السنوات الماضية وخصوصا في سنوات الستينيات أيام الروائي مالك حداد، حيث كان صوت هذه الهيئة يسمع لها في تعديل الدستور، انطلاقا من تميزه بعدة خصائص كقدرته على إعطاء تصور حقيقي لمكانة الثقافة في الدستور الجزائري وكذلك بالنسبة للفن والمؤسسات الثقافية الأخرى على السواء، ولهذا وجب على بعض المؤسسات الثقافية الكبيرة على غرار الجاحظية التحرك إلى جانب اتحاد الكتاب من أجل لمّ شمل الكتاب الجزائريين والحفاظ على اختلافهم. أثيرت مؤخرا إشكالية تتعلق بتبعية ترجمة الأعمال الجزائرية إلى اللغة الفرنسية فقط دون غيرها من اللغات الأخرى لاسيما الرومانية ولغات أوروبا الشرقية، ما سبب هذا وهل من حلول لذلك؟ بداية أتحدث عن نفسي، أظن بأنّ رواياتي مترجمة إلى أكثر اللغات الأوروبية منها اليونانية، الإيطالية، الإسبانية، السويدية، الرومانية، التشيكية وغيرها، لكن هذه الأعمال التي ترجمت لهذه اللغات بما فيها الصينية تحتاج إلى الخروج من الترجمات التي تأتي عن عشق كاتب وتدخل في باب العمل الاستراتيجي للترجمة، أتساءل كيف تكون هناك مؤسسات تتولى الترويج للأدب الجزائري عن طريق الترجمة المتعددة ولا تهتم باستقبال الآداب الأخرى؟ لأننا بصريح العبارة لا نعرف شيئا عن الأدب الروماني والسويدي وغيرها. ما الحل إذن لبلوغ الأدب الجزائري مختلف أصقاع العالم؟ يجب علينا أن نخرج من ”القيطو” الفرنسي الجزائري و”قيطو” اللغتين العربية الفرنسية فحسب، حتى ندخل الأدب الجزائري في علاقة أوسع بلغات الاتحاد الأوربي، لإعادة مكانته الحقيقية وإيصال في الوقت نفسه أسماء أدبية جزائرية مهمة في الهيئة الأوربية وهذا هو المهم بالدرجة الأولى. وبطبيعة الحال ليس هذا المعضلة الوحيدة، لأنّ أدبنا المكتوب بالعربية ليس له مكانة حقيقية في الأدب الجزائري ككل، فنحن كقطعة ”البوزل” الناقصة في المشهد العربي، فالضرورة تستدعي وضعها في مكانها حتى تكتمل الصورة وتضم جميع عناصرها، وأقول في السياق ذاته، إنّه لا يمكن للأدب الجزائري أن يصل إلى الدول العربية سوى إذا دخلنا في خارطة الأدب العربي وأعدنا قطعة ”البوتزل” لمكانها. على ذكر ”قيطو اللغتين العربية والفرنسية” هل يخضع أمين الزاوي له؟ سأوضح لك وللقارئ أمرا، حقيقة ما من شك في أن لغتي هي العربية، لأنني رضعت بها حليب الأم والأم لا يمكن ويستحيل أن تبدل أو تجد أما بدليلة لأمك الحقيقية، لذا على المستوى الذاتي الداخلي أنا أقرب إلى اللغة العربية وعلى مستوى الكتابة والمعرفة، فالكتابة لها منطق آخر، أي بمعنى أنني أجد نفسي أحيانا غارقا في نص بالفرنسية فأكتب من اليسار من اليمين والعكس، لماذا هذا الفعل؟ أجيبك بصراحة تامة لا جواب لي لأنني أعيش حالة ثانية لمّا أكون مع الكتابة والتعامل مع اللغة ليس حالة معرفية بل أعمق من ذلك، باعتبارها نوع من العلاقة الجسدية، العشقية، الجنسية والعضوية وهذه العلاقة هي التي تحدد لحظة الكتابة واللغة أو اللسان الذي نختارها. ووفقا لكل هذه المعطيات لا أستطيع أن أعتبر نفسي خاضعا لهذا ”القيتو” وإنما أكتب بعض رواياتي باللغة الفرنسية وبعضها الآخر بالعربية، حسب حالة الكتابة كما سبق ذكرها سالفا. القارئ لروايات أمين الزاوي يلاحظ توظيفك لنوع من الأساليب التي تدعو إلى العصيان والتمرد على بعض الأمور هل هذا صحيح؟ في رواياتي أريد كتابة الأدب، والأدب هو بالأساس عملية تحريك الساكن والتمرّد على الواقع المتخلّف الذي نعيشه وفي الوقت نفسه هو تثمين لما هو إيجابي في المجتمع بكل همومه وأفراحه، وبالتالي فالكاتب الحقيقي في رأيي هو الذي يعلّم الناس كيف ينتقدون ولا نريد قارئا يؤمن بكل شيء، بل نريد قارئا يحبذ الاستفزاز التي تدفع لتعلم النقد وطرح السؤال على نفسه، كما أنّ الرواية التي لا تعلّم القارئ طرح السؤال هي رواية باردة وفاشلة وما كتبته أنا شخصيا بالعربية كما هو أيضا مكتوب بالفرنسية موجه لقارئ يريد تغيير نفسه وما يحيط به، لذا أقول بأنّ الأدب الذي لا يخلق السجال والأخذ والردّ، حتما سيمرّ في التاريخ ببرودة وليس بالاستطاعة تسميته بأدب حقيقي فكل الأعمال الخالدة بدءا من بودلير إلى هنري ميلر، إلى كاتب ياسين أو نجيب محفوظ من خلال ثلاثيته، كلها كانت قد خلقت بطبيعة الحال نقاشا على المستوى الأدبي أولا، وعلى مستوى الثقافي ثانيا، إضافة للنقاش على الصعيد السياسي الذي يحلّ في المرحلة الثالثة من قبل القطاعات الأخرى. تتناول في كتاباتك بشكل ملفت للانتباه الجنس، ألا يزعجك بأن تصنف ككاتب جنس؟ أنا لست كاتبا للجنس، أنا كاتب المجتمع الجزائري بما فيه من نفاق وفضائح، لذلك دائما أقول الكاتب الذي لا يفضح الفضيحة هو مشارك فيها والذي لا يدين الفضائح الموجودة هو مشارك فيها بشكل من الأشكال، فالأدب الذي يريد أن يكون أدبا مستحمّا هو أدب خارج التاريخ والواقع، باعتبار الأمراض الكثيرة التي تحيط بنا على مستوى الأخلاق والسيكولوجيا والدين، السياسة، المال والاقتصاد، لذا الكاتب الحقيقي هو الذي يحاول استقراء هذه الأمراض والعلل، وفي مثال بسيط الطبيب لما تذهب إليه لا يقول لك أنت تعاني من مرض السرطان وفي الحقيقة أنت تعاني الروماتيزم فهذا ليس بطبيب، وبالتالي الكاتب مثل الطبيب الذي يعالج أفراد المجتمع، حيث يشخص الداء ويصف الدواء. لكن مهما كان نوع العلة يجب أن يشخصها الكاتب ولكن بأسلوب أدبي محض أي يشترط وجود شغل على مستوى اللغة، بناء الرواية، الشخصيات وكذا المعرفة. فأنت لا تكتب بدون معرفة واطلاع، حيث يجب على الذي يكتب عن الفضائح السياسية، الجنسية، الدينية والتراثية أيضا، أن يكون مثقفا ومطّلعا على الوضع، وللعلم أنا أستاذ جامعي برتبة بروفيسور فهذا الموقع هو الذي يحميني ويحملّني مسؤولية ما أقوله حول هذه المواضيع. في سياق آخر، يشكّل ”الدين” جانبا مهمّا في كتاباتك، إلى ما ترمي إليه من خلال طرحك لقضايا دينية مختلفة؟ بطبيعة الحال، اليوم لا يجب أن نكتب عن الدين دون معرفته، فأنا ابن إمام، حاج وحافظ للقرآن كذلك، وبالتالي أنا لست غريبا ولا مستشرقا في الكتابة عن الدين الإسلامي، لأنّه جزء من ثقافتي اليومية وجزء من المحيط الذي أعيش فيه ومن ذاكرتي كذلك، وما أريد تبلغيه هو وجود تجارة في الدين وعلى الكاتب حينما يفتح الجرح من خلال ما يقدم عن الإسلام في أوروبا من تشويهات سواء من القاعدة أو السلفيين أو الوهابيين الذين يقدمون صورا رديئة عن الإسلام، ألا يعقل أن يغفل هذه الظواهر وما نسمعه من أفعال شنيعة وقبيحة عن الإسلام، فالدين بتطرفه وتسامحه أصبح سؤال الحاضر الآن. كيف يمكن أن نعيد الدين الإسلامي والحضارة الإسلامية إلى المعاصرة والعهد القديم لأنّها كانت منذ عدة قرون، فلمّا أكتب عن الدين أتصور نفسي حفيد ابن رشد، وحفيد الغزالي والفقهاء الكبار الذين كتبوا عن الإسلام فأنا أطرح القضية لأرّج هذه المنظومة ولكن من أجل نقدها. بعد روايتيك ”اليهودي الأخير في تمنطيط” و”لها سرّ النحلة”، ما هو جديدك الأدبي؟ أكاد أنتهي حاليا من رواية لم أستقر على اختيار عنوان لها، فقط أنا في مرحة إعادة قراءتها لأنه من عادتي ترك النصّ مدة شهر تقريبا ثم أعود إليه، فالعمل بالفرنسية حول موضوع الجنون، إذ زرت في هذا الإطار مستشفى البليدة ومستشفيات أخرى لهذا القطاع البشري الهش بفرنسا والتقيت الذين يعانون من هذه الهشاشة في أوروبا، فحينما كنت أجلس مع ما يسمى ب”المجانين”، تساءلت من المجنون هل الذين هم في المصحة أم في المصحة الأخرى في المجتمع.