إن قيمة التعليم والدور المركزي الذي يلعبه المعلم أو (الأستاذ) في بناء البنية الهيكلية المستقبلية لتطور الأمم، تعد من المحاور الأساسية في الإقلاع الحضاري واكتساب مكانة ريادية بالتحكم في تكوين الأجيال. وضمن هذا الهدف الأسمى وغيره من الأهداف، صدر مؤخرا عن دار هومة بالجزائر العاصمة، كتاب لصاحبه الأستاذ علي بن فليس، المحامي ورئيس الحكومة السابق، وبعد قراءته والتمعن في مضامينه نلحظ أنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية: القسم الأول: والذي يتضمن قراءته التي تحوي مشاعره الجياشة ونبل أخلاقه ووفائه لأساتذته، ثم يزيد للصورة تصويرا يقترب من التقديس للمعلم، فيقول: (لقد رباني والدي رحمة الله تعالى عليهما على تبجيل المعلم، وكان أبلغ شيء قدرا عند والدي هم الأساتذة والمعلمون، بل ووالدتي رحمة الله عليها على أميتها المطلقة فقد كانت تقدس المعلم والأستاذ بشكل لا يصدق، و كانت تكرر على مسامعنا: (بعد ربي، المعلم) هكذا بلهجتنا الدارجة، ثم إن تكرارها لهذه الجملة اصبح أشبه شيئا في مسامعنا بالابتهال، و لشدة ما كررته أصبح المعلم والأستاذ بدورهما مقدسين في أعيننا) . تلك هي الصورة التقديسية للمعلم التي ينقلها ويصورها الكاتب للذين أناروا له طريق المعرفة واكتساب المهارات، وحببوا له مجاهيل وعبق لغة الضاد بموسيقى شعرها وحصافة عبارتها ومتانة معانيها. ولذلك يتبين لنا عمق الوعي الحضاري لهذه الشخصية، ولا غرو في ذلك فالكاتب سليل أسرة ثورية عريقة، قدمت العديد من الشهداء (9 شهداء) كما أنه ابن شهيد، بل والده الشهيد من علماء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين و رئيس شعبتها بباتنة. القسم الثاني: وهو عبارة عن شهادات وصور منقولة لأصحابها اساتذته، فيما يؤرخ في القسم الثالث: الجانب التاريخي لإحدى كبريات الثانويات بالجزائر في الفترة الاستعمارية (ثانوية الشهيد حيحي المكي بقسنطينة والمسماة بثانوية التعليم الفرنسي الإسلامي في الفترة الاستعمارية) والذي يعد في نظرنا تأريخا لمرحلة مهمة من تاريخ التعليم في الجزائر، وتبيان دور الأساتذة الوطنيين في شحن الطلبة بالوطنية عبر القراءة الصحيحة للتاريخ رغم التسلط والتحيز الفرنسي في تطعيم البرامج بالمغالطات.. فيقول الأستاذ علي بن فليس: ( إنهم لم يكونوا مجرد أساتذة ومعلمين لمادة علمية محددة، فبالرغم من عيشنا في وسط نظام استعماري قمعي فقد نجحوا في حفظ بل حفظوا شخصيتنا الوطنية بشكل كامل، هويتنا لغتنا ديننا ثقافتنا وفي نفس الوقت فتحوا عيوننا على معارف و ثقافات ولغات العالم قاطبة) كما يذكر كذلك علي بن فليس ليؤكد ماذهبت اليه، فيقول: (أخيرا فإني لا أريد أن يكون هذا المؤلف مجرد سرد لجميل الذكريات وقويها، بل الهدف منه أن يكون شهادة على إنجاز رائع و ضخم لا يقدر بثمن إنها شهادتي للتاريخ وللكرامة التي يستحقها رجال أفذاذ). كما أننا نكتشف في شخص الأستاذ علي بن فليس الأديب والمؤرخ، فقد حمل كتابه قلما رصينا متدفق العبارات دقيق في معانيه بلمسة شاعرية للتعبير عن أحاسيسه ومشاعره النبيلة تجاه أساتذته. كما تدل على تمكنه من لغة الضاد متبحرا في فنونها وعارفا لشعرائها وذواقا لفحولها كأبي تمام والبحتري و المتنبي.. وهو يحدثنا عن اساتذته في عبارات ومعاني شاعرية فيقول: (.. ومن دروب كشفه الحفظ التقليدي للقصائد التي كانت غايتها تنشيط ذاكرتنا، لكنني وأنا أسير الهويني مع ذاكرتي منشطا لها، رأيت أن الخيال قد نما في الطريق، وأن الحس أضحى رهيفا يميل كالزهر إذا ماحنا عليه عليل لطيف، فتفيق الأحاسيس من سباتها وتحت الخطى لإعلام الإيقاع بما جرى، فتراه لهوفا فرحا ينظم الكلم والمعاني أوزنا، تعرف منه لحنا وعروضا، ذكاء فكر و تزاوج مواضيع، وهو ما سماه العرب شعرا). وأخيرا، إن الكتاب يحمل في طياته الكثير من الأهداف والمعاني السامية فكما يقول عنه صاحب مقدمته، الأستاذ الدكتور محمد لخضر معقال: (فهو أكثر من مجرد سرد للشهادات، بل انحناءة عرفان لبعض من أساتذتنا الجزائريين البارزين..). كما يبين فيه قيمة الأستاذ ومكانته والتي قد تتعالى به حتى تصل لمكانة القديسين، كما أن الكتاب يعد مرافعة حقيقية لصالح القيم المتعالية متمثلة في قيمة الوفاء اتجاه انبل وظيفة عرفتها الإنسانية، للذين كانوا جسرا وسلالم، للمعرفة والنجاح، معالجا في نفس الوقت قضية مهمة اليوم وهي قيمة ودور الأستاذ الذي نحن في حاجة لمراجعاتها سواء في منظومتنا التربوية أو قيمنا الاجتماعية والتربوية.. والقارئ للكتاب يكتشف في الختام شخصية علمية رصينة تتميز بالنبل والوفاء والعرفان، كما أنها تمتلك أدوات منهجية بحثية، قل ما نجدها اليوم عند رجالات السياسة عندنا.