عرفت الأمير عبد القادر رجل الدولة ومؤسس الدولة الجزائرية الحديثة، ورجل المقاومة، مقاومة الاستعمار، والرجل الذي هزمه بنو وطنه لما لم يناصروه في مقاومته أكثر مما هزمه الجنرال بيجو، الذي أجلسه إلى طاولة معاهدة التافنة. لكني اكتشفت من خلال المحاضرة القيمة التي ألقاها وزير التعليم العالي وسفير الجزائر الأسبق مصطفى الشريف، بالمعهد الفرنسي بالعاصمة، أول أمس، الأمير عبد القادر الفيلسوف، المتصوف ورجل الدين والفكر السابق لعصره، رجل أحب ابن عربي، وعرف التسامح بين الأديان، ورأى في الاختلاف والتنوع نعمة، بل ضرورة حياة وثرائها، رجل فهم محنة الحياة المرتبطة بالكون، ناضل من أجل الاعتراف بالآخر، وميزة العيش معا، والتسامح بين المذاهب والأديان، ولم يكن له من اهتمام إلا الإحسان للإنسان وللكون والطبيعة، من أجل الإنسان. الأمير عبد القادر رجل آمن بحرية المعتقد وحرية الرأي والفكر، والانفتاح على الإنسان، كأساس للدين الإسلامي، ولمبدإ العيش معا، المبدأ الذي ترتكز عليه كل الديانات، وغيرها من الأفكار التي دونها في مؤلفه ”كتاب المواقف”، أفكار سبقت بعقود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تستغله بعض القوى اليوم للتدخل في شؤون البلدان بدعوى الدوس على مبادئه. فأين نحن اليوم من هذه الأفكار النيرة التي عمل الرجل على زرعها في محيطه وبين تلامذته، وسعى لتدوينها في أعماله، وهي اليوم تدرس في كبريات الجامعات العالمية؟ لماذا غيب اليوم فكر الأمير عبد القادر من على منابر المساجد، وهو السؤال الذي طرحته على الدكتور المحاضر، ولم أتلق الإجابة، ولن أتلقى الإجابة عنه، لأن الإجابة عن هذا السؤال المرير تعني بداية الوعي بواقعنا، وبالفوضى التي حلت محل العقل، الفوضى التي خلقتها فتاوى العار الآتية من فضائيات العار. لماذا غيب أميرنا، تاركا المكان لأمراء الخليج، ولأمراء التجار الذين لا هم سادة شعوب، ولا هم أعلام في الفكر؟ لماذا لم نستعمل فكر الأمير كمرجعية دينية عصرية لنا، نحصن بعلمه وبمفهومه للدين، وحبه للتعايش بين الأديان، وحبه للسلم، فهو يرى أن الحرب لن تشرع إلا بغرض الدفاع عن النفس، وبغرض إعادة السلم لكن بشروط. لماذا لم نحصن بهذه الأفكار شبابنا ومجتمعنا الذي تركناه اليوم فريسة لكل من هب ودب من تجار الدين، ولفتاوى الضلال التي أغرقت البلاد في حرب أهلية، وتغرق اليوم بلدانا عربية أخرى في بحر من الدم، وبالتكفير، وبالقتل على الهوية وباسم الدين. من أبعدنا عن الأمير عبد القادر الفيلسوف، واكتفت المناهج المدرسية بالتعريف بالشاعر والمقاوم، ولم تعط الدين في مفهوم الرجل مكانته؟ من أين جاء التقصير؟ كيف لورثة فضل فضيلة الحوار على الاقصاء، والعقل على العاطفة والنقل، أن يتشردوا اليوم في عالم الفتاوى والفقه، باحثين لهم عن هوية، والأمير كان من السباقين إلى وضع شروط التعايش، وضرورة التعايش مع الآخر، فالحوار عنده يعني الاعتراف بالتنوع الديني والثقافي؟ وأيهما أضاف أكثر للإنسانية، الأمير الذي رأى في حوار الحضارات ضرورة للعيش معا، أن هانتيغ تون، المروج لفكرة الصدام بين الحضارات والتي مهدت اليوم إلى ما يعيشه العالم من بربرية؟! السؤال كبير، ولا أريد ردا أكاديميا عليه، بل أن يصاغ في قوانيننا ويرفع على منابر مساجدنا، ويكون مرجعية الدين والفكر لشبابنا التائه بحثا عن هوية؟!