بالنضال والحركة المطلبية السياسية، وكانت الأغنية من أهم الحقول المعرفية التي احتضنت القضية الامازيغية عندما أغلقت الفضاءات التعبيرية الأخرى في وجهها. لكن بداية هذا الارتباط لم تكن وليدة النفي الثقافي للبعد الامازيغي من الهوية الوطنية لكنها تمتد إلى زمن أسبق بكثير وهو زمن الاستعمار الفرنسي، حيث كان المجتمع الامازيغي دائما على تماس مع ما يحدث فيه وواكب التغيرات التي طرأت عليه سياسيا واجتماعيا وعقائديا. تشير الدراسات إلى أن بداية الأغنية القبائلية النضالية كانت على أيدي مجموعة من الأسماء التي برزت في منطقتي تيزي وزو وبجاية من بينهم المناضل “محند أويدير آيت عمران” الذي ألف أول أغنية نضالية وطنية قبائلية في 23 جانفي 1945 يدعو فيها أبناء منطقته إلى الانتفاضة ضد أوضاعهم فقد رافقت دائما الأغنية الامازيغية ما كان يعيشه السكان من ماسي وألام وتجسدت أكثر في الغناء الذي كان يؤدى في المجالس والأسواق والحلقات النسوية حتى أن الأرشيف الشفهي للجدات والأمهات يحتفظ بالأغاني والمواويل التي تقف شاهدة على بشاعة ما تعرض له الشعب على أيدي المستعمر الغاشم بحيث كانت تلك الأغاني التي يتناقلها الناس بين الجبال والحقول بمثابة الشعلة التي حافظت على معنويات شعب اعزل أمام الآلة الجهنمية الاستعمارية مثل أغنية “أيمٌا أصبر أورتسرو” يا أمي اصبري ولا تبكي”للفنان المجاهد فريد علي والتي سجلها بعد التحاقه بفرقة جبهة التحرير الوطني في تونس عام 1958. ورغم المكانة والصيت الذي تركته تلك الأغنية في وجدان كل من سمعها لكن لم يتم إدراجها في كتاب “الأناشيد الوطنية” للأستاذ لمين بشيشي رغم أن هذا الأخير قدم شهادة رائعة واستثنائية في الفنان المجاهد فريد علي على نفس النهج سار الفنان الكبير سليمان عازم في أغنيته الشهيرة”أفغ اياجراذ ثامورثيو، اخرج أيها الجراد من بلدي والتي ألفها عام 1956 واصفا فيها الاستعمار بالجراد الذي يجب أن يغادر البلد. وقد كان سليمان عازم رائدا في هذا المجال حيث برع وهو عضو في حزب الشعب الجزائري في نشر الوعي الوطني في أوساط المهاجرين في فرنسا، وشحذ الدعم الوطني للقضية الجزائرية عبر عدة أغاني منها أمك أرانيلي لاباس، كيف نكون بخير التي ألفها في مطلع الخمسينيات، وأغنية “ما تسدوض أنروح - هل سترافقني سنرحل” لكن أغنية “أخرج أيها الجراد من بلدي“ جلبت للفنان سليمان عازم متاعب كثيرة مع الإدارة الفرنسية ورفع لكوست شكوى ضده لكن هذا لم يثنى من عزم الفنان أبدا بل بالعكس فقد دفعه هذا في السنة الموالية 1957 إلى تأليف أغنية أكثر جرأة في الإشادة بالثورة وهي أغنية “إظهرد واكور إيتبعيثيد يثري-أطل الهلال وتبعه النجم”. التي تشيد بالثورة وانتصاراتها في بعد رمزي حمل بين جماعة الفن والالتزام بالقضية. بعد الاستقلال استمرت الإشادة بالثورة وما لحق الشعب من ويلات الاستعمار من طرف الفنانين القبائل أمثال طالب رابح، وزروقي علاوة، وأكلي يحياتن، ونورة، وجميلة، وشريفة وغيرهم. فايت منثلات مثلا يعبر في أغنيته “أمجاهد” عن ما تخمر في ذاكرته وهو طفل عايش الثورة من ألام بنات وزوجات المجاهدين والشهداء. وقد كان أيضا لظهور الاسطوانة وميلاد الإذاعة في نهاية الأربعينات من القرن الماضي دورا كبيرا في انتشار الأغنية السياسية التي لعبت دورا كبيرا خاصة في تأجيج الوعي الوطني في أوساط المهاجرين والعمال في المصانع الفرنسية والذين كانوا اغلبهم من القبائل لظروف تاريخية وأخرى طبيعية “انحدارهم من منطقة جبلية فقيرة دفعت بهم إلى الهجرة بحثا عن الرزق” فكانت الأغنية في المهجر وسيلة من وسائل الدفع إلى الانخراط ودعم صفوف حزب الشعب هناك. وهناك أيضا ظهرت أغنية المهجر أو المنفي بأصواتها المذكرة والمؤنثة التي حملت هما الوطن سواء كان سياسيا أو اجتماعيا. بعد الاستقلال واصلت الأغنية القبائلية على نفس النهج في التمرد وحمل صوت القضية ولكن هذه المرة بشكل مختلف وقد برز الصدام مع السلطة في هذا الجانب مثلا عبر صوت الطاووس عمروش التي منعت في أول مهرجان للثقافة الإفريقية تحتضنه الجزائر المستقلة في 1969 حيث منعت الكاتبة والمطربة عمروش من أداء وصلتها الغنائية في المهرجان لان السلطة إلى ذاك الحين لم تكن تعتبر أن الثقافة الإفريقية تعني أيضا الثقافية الامازيغية. لكن المنع لم يزد الطاووس وزملائها غير إصرارا وتحديا للمنع حيث قدمت يومها وصلتها في الحي الجامعي ببن عكنون تحت قيادة من سيصير فيما بعد أحد رموز النضال الامازيغي وهو السعيد سعدي. وطوال الفترة التي أعقبت تشديد بومدين الرقابة على رموز النضال الامازيغي وإلغاء البعد الامازيغي من الهوية بعد ترسيم الميثاق الوطني أعقب تلك الفترة ازدياد ظهور موجة الأغاني السياسية المعارضة للنظام ،بحيث كان من النادر مثلا أن تمر حفلة لفرقة ‘'الأبرانيس“ دون مواجهة كانت في الغالب تنتهي بسقوط الجرحى واقتياد أناس إلى التحقيق. وبعد تكريس تغييب البعد الامايزيغي من ميثاق 1976 ظهرت أسماء وفرق مثل بلعيد ثقراولا، إيدير ولونيس آيت منڤلات ومعطوب الوناس الذي كان إيقونة تجمع حولها ملايين الأنصار بل كل المنطقة لأنه غنى الهوية والرغبة في تجسيد الذات والثقافة الامايزيغية في المجال السياسي خاصة حتى أنه تحول لدى الجماهير إلى أكثر من مطرب وفنان صار رمزا كبيرا للثورة السياسية في بعدها الفني. وما يؤكد أن الشارع القبائلي لا يتسامح أبدا مع الرموز التي يرى أنه ليس من حقها أن تخطئ الفتور والتعثر الذي أصاب ايت منقلات بعد الأغنية التي ألفها بعد مجيء بوتفليقة إلى الحكم وتزكيته للمصالحة الوطنية رغم أن آيت منڤلات ما زال يعامل في الساحة كفان وعبقري كبير لكن وحده معطوب الوناس صار نبيا فنيا للمنطقة. ومع ترسيم الامايزيغية والاعتراف بها في الدستور كبعد من أبعاد الهوية الوطنية وإدخالها في المنظمة التربوية خفت حدة الأغاني السياسية المنتقدة للنظام خاصة بعد أن أقدمت وزارة الثقافة على تكريم ورد الاعتبار للكثير من رموز هذه الأغنية خلال التظاهرات المختلفة التي عرفتها الجزائر.