بقلم: أرزقي فراد لا شك أن الشعب الجزائري قد تفاعل مع الثورة الجزائرية قلبا وقالبا، ولم يدخر أي جهد من أجل انتصارها وتحقيق أهدافها المتمثلة في طرد الاستعمار واسترجاع السيادة الوطنية المغتصبة، ولم يكن طريقها مفروشا بالورود، بل شقه الوطنيون الأحرار بأرواحهم الطاهرة التي قدموها فداء للوطن وبالتضحيات الجسام ونكران الذات. لذلك فمن الطبيعي أن يتغنى بها الشعب بشتى أساليب التعبير وبمختلف اللهجات والألسن في المدن والقرى والواحات والهضاب والجبال، الأمر الذي جعل الأدب الشعبي خزانا ثريا يزخر بملاحم شعبية تخلد بطولات وأمجاد الجزائريين، وتصور معاناتهم من ويلات الاستعمار وجرائمه الذي لم يأل أي جهد من أجل قطع أنفاسهم وإجهاض ثورتهم الجارفة. وتعتبر الأغنية الأمازيغية/ القبائلية أحد المظاهر التي جسدت احتضان الشعب لثورته، تخللتها لوحات شعرية إبداعية جميلة، مفعمة بالعاطفة الصادقة، وطافحة بالأخبار والتفاصيل في قوالب لغوية راقية، هدفها شحذ الهمم وتعبئة النفوس بالحماسة، لرفع المعنويات وللتغلب على اليأس والاستكانة بالإرادة الفولاذية التي لا تؤثر فيها المعاناة، بل تزيدها المحن قوة وصلابة. وتجدر الإشارة إلى دور المرأة الرائد في كسب معركة الحرب النفسية والإعلامية بما كانت تبدعه من أناشيد وطنية، وترويجها في الأوساط الشعبية المختلفة لسد الباب أمام الدعاية الاستعمارية المدعومة بإمكانات مادية ومالية كبيرة. ولا شك أن هذا الجانب المخفي من ثقافتنا الشفهية، يحتاج إلى التفاتة من طرف الباحثين في إطار تثمين الأدب الشعبي، باعتباره مصدرا تاريخيا يصور المجتمع في حركيته وفعالياته. نشيد (أيمٌا اصبر أورتسرو) ومما لا يختلف فيه اثنان أن نشيد (أيمٌا أصبر أور تسرو/ عليك بالصبر يا أمي) للفنان المجاهد فريد علي، يعد بحق بمثابة الجوهرة التي رصّعت سجل »الأغاني والأناشيد الوطنية/ القبائلية«، خلال الثورة التحريرية الكبرى (1954-1962م). وكان الفنان المذكور قد التحق بالفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني بتونس سنة 1958م، وعلى إثر ذلك تم تسجيل هذا النشيد هناك، وصار يذاع في جميع قنوات الإعلام السمعي الخاصة بالثورة الجزائرية، فضلا عن رواجه المنقطع النظير في الأوساط الشعبية. ولعل أهم شهادة حيّة تؤكد سمو مكانة هذا النشيد الوطني ما جاء على لسان السيد الأمين بشيشي، فرغم أن هذا الأخير لم يدرجه في كتابه القيم حول الأناشيد الوطنية، لأسباب لا أعرفها، فإن ذلك لم يمنعه من إبداء شهادته التي أبرز فيها إعجابه بالفنان الموهوب المجاهد فريد علي، حين قال: »رحم الله البلبل الصداح، الفنان الموهوب فريد علي، الذي لم يسبق أن سمعت (أشويق) بمثل أدائه. وأعتقد أن حباله الصوتية متميزة وممتازة، والصوت الرخيم هبة الرحمن الرحيم. لكن في كنف ذلك الصوت الرنان إيمان بما يشدو به من أعذب الألحان. لقد افتقدته الجزائر، إذ كان مناضلا في فرقة جبهة التحرير الوطني، التي جابت العديد من أقطار العالم وبلغت صوت الجزائر وقضيتها العادلة. الجزائر في 13/11/2007م«. محور الفكرة الرئيسية لنشيد (أيمٌا اصبر أورتسرو) حول فكرة مناجاة مجاهد لأمه المثقلة بهواجس الحرب وأهوالها، دعا فيها إلى وجوب بناء الذاكرة التاريخية، وتقديم الوعد لها بأخذ الثأر من الاستعمار الغاشم، وكذا إخبارها بأن مهمة تحرير الوطن من نير الاستعمار مهمة نبيلة، تهون أمامها كل الصعاب والمعاناة والمكابدة، ومهما كان الأمر فإن الخاتمة محمودة، فإما النصر وبالتالي العيش في كنف العزة والكرامة، وإما الاستشهاد فذاك طريق إلى الجنة للشهيد، ودرب نحو الشرف الرفيع لعائلته. أما النص الكامل لهذا النشيد فهو كالتالي: (1- المحنه أذى أسنشفو / كل وى أسنر ذيلقصاص. 2 - أيمٌا أصبر أور تسرو / سقول أور قطع لاياس. 3 - أماسه أرذا أدنجفو / أنشاالله ما يراذ أوعساس . 4 - أهذر أرنو / الجزاير أرتسيد نحيو. 5- أيما اعزيزن أورتسرو / ماذتسار أمثيد راغ. 6- سلعزام أهذر أرنو / ذاجندي أقلي عوساغ / ذقذرار لاتسناضاحغ. 7- أور سقار أمي ينطر / أور هلك ذقول أنم. 8- اوسميض أقلاغ نصبر / ولا فرنسيس بو الهم. 9- ما ندر البهجه أرتسنزر / ما نموث ربي أغيرحم. 10- ماندر البهجه أرتسنزر / ما نستشهد الله يرحم. 11- ما موثغ ياك ذافحلي / ألجنث اِرذا أتسكشمع. 12- ملايكاث ذسغرثنت فلي / أوذم نرسول أرثزرغ. 13- أماسا أردوغلاغ / خاس أفرح أزهو الخاطريم. 14- إيلحارا أكميدفغ / أذقيمغ سيذيسانيم. 15- ذتاريخ أرذامثملاغ / فايك أفغن واراويم. 16 ذتاريخ أرذامثملاغ / فايك موثن واراويم). أغنية (أفغ أياجراذ ثامورثيو) أما رائد الأغنية القبائلية الراقية الفنان سليمان عازم ((1918-1983م الذي تشبع بالفكر التحرري الوطني بفعل عضويته في حزب الشعب الجزائري فقد أبدع في مجال الأغنية السياسية الوطنية، ووظفها من اجل نشر الوعي الوطني في أوساط المهاجرين الجزائريين بفرنسا قبل اندلاع الثورة، ونذكر في هذا السياق أغنية (أمك أرانيلي لاباس/ من أين لنا بالسكينة) التي ألفها في مطلع الخمسينيات، وأغنية (ما تسدوض أنروح/ علينا بالرحيل). ثم أغنية (أفغ اياجراذ ثامورثيو/ اخرج أيها الجراد من بلدي) التي ألفها سنة 1956م، وصف فيها الاستعمار الفرنسي بالجراد الذي أهلك الحرث والنسل في الجزائر. ويمكن الاقتراب من معاني هذه الأغنية بالترجمة التالية: (1- كان لي بستان مسيٌج/ غني بالزرع والشجر من خوخ ورمان/ اجتهدت في خدمته/ زينته بالحبق/ حتى أزهر وضحك/ فجأة، وصل الجراد الأحمق/ واكل إلى حد التٌخمة/ دون أن يبقي حتى على الجذور. 2- ايها الجراد اخرج من بلدي/ فقد محوت كل الخيرات/ إن باع لك الموثق/ فاظهر العقد للتحقيق/ أكلت ايها الجراد البلد/ دون أن اعرف السبب/ حتى وصلت إلى الباب/ أكلت ميراث أبي/ ومهما أبديت من المرونة/ فلا محبة بعد اليوم. 3- نزلت كالثلج من السماء/ بين المغرب والعشاء/ أكلت على الخيار/ الثمرة والتبن/ وتركت لي القشور/ حسبتني نعما. 4- أيها الجراد هلا وقفت عند حدودك/ وعرفت مقدارك؟/ آن الأوان لتسخين جناحيك/ لتعود من حيث أتيت/فقد اعذر من أنذر/ وستدفع ثمن ما أكلت. 5- أهلكتني أيها الجراد وأورثتني علة/ فقست صغارك/ تريد ترك شتلتك/ فات الأوان بقضاء/ واستيقظ حظي معافى.) ومما تجدر الإشارة إليه أن هذه الأغنية السياسية بصفة خاصة قد جلبت للفنان سليمان عازم عند ظهورها، مضايقات الإدارة الفرنسية إلى درجة أن رفع »لاكوست« شكوى ضده. غير أن ذلك لم يفتّ في عضده، إذ ألف في السنة الموالية ((1957م أغنية سياسية قوية لشد أزر الثورة والثوار بعنوان (إظهرد واكور إيتبعيثيد يثري/ أطل الهلال وتبعه النجم) جاء فيها على الخصوص: (إيظهرد واكور/ إيتبعيثيد يثري/ يفجج يتسنور/ يفكاد ثيزيري/ يضوي ثيمورا أذلبحور/ إيذورار اك ذسحاري = أطل الهلال/ وتبعه النجم/ بضوئه المشع/ وسنائه المنير/ فأضاء اليابسة والبحار/ والجبال والصحاري). ثورة نوفمبر في أغاني عهد الاستقلال واعتبارا لقدسية الثورة التي أعادت السيادة المغتصبة والكرامة المهدورة للشعب، فقد ظلت مبادئها حية في قلوب الفنانين، فاسقطوا صداها في أغانيهم المختلفة، خاصة خلال العشرية الأولى لاسترجاع الاستقلال، لذلك ظل موضوع الثورة حيّا ومنهلا للإبداع الغنائي. وعليه، فمن الطبيعي أن يتعرض له جل الفنانين والفنانات كطالب رابح، وزروقي علاوة، وأكلي يحياتن، ونورة، وجميلة، وشريفة، والقائمة طويلة. هذا وقد استمر صدى الثورة بارزا حتى لدى جيل السبعينيات. ونذكر في هذا السياق الفنان الحكيم لونيس آيت منقلات الذي عايش الثورة في طفولته، فخلد معاناة الشعب وتضحياته الجسام بقصيدة رائعة بعنوان (أمجاهد - المجاهد) وصف فيها معاناة المرأة القروية، ولحظات الألم والحيرة والقلق التي عانت منها زوجات وأمهات وأخوات المجاهدين والشهداء، وهن ينتظرن عودتهم أحياء أو أمواتا. ويمكن الاقتراب من معنى هذه الأغنية الوطنية الرائعة بهذه الترجمة: (1- أشفقت لحال قروية/ وجدتها على صخرة/ وبمثلها عجت القرية/ إنها منسية هناك/ مسكت ابنها من يده/ والدموع تفيض من مقلتيها/ مات زوجها/ الذي كان سباقا إلى الرصاص/ فنثرت الرياح هويته/ صنعنا لك قبرا من الهلال والنجم/ وشيٌعناك بالتصفيق. 2- سمعت قصف الرعود/ المعلن لقدوم الثلج/ وقفت العجوز أمام الباب/ حائرة عن مصير ابنها/ صبرا انه اخترع لك الكفاح/ وسيحجز لك فضاء في الجنة. 3- سمعت انفجار الرصاص/ فتطاير الغبار في الربى/ أسرعت العجوز إلى النافذة/ تنتظر جثمان ابنها/ بشري أيتها الأم/ انه رئيس المجاهدين. 4- سمعت أزيز الطائرة/ فانشق الجبل وانصهر/ تساءلت العجوز بقلق/ عن موقع سقوط ابنها/ بشري سيعود بالحرية. 5- اهتزت الغابة/ حتى بلغ الصدى إلى الوادي/ فانشغلت العجوز/ بموقع استشهاد ابنها/ لقد دفن بين إخوانه/ وكان أولى بك/ أن تضعيه في طي النسيان/ يوم صعوده إلى الجبل. 6- انطفأ الموقد في الدار/ وصارت النار رمادا/ وجليس العجوز العتمة والأرق/ تنتظر قدوم ابنها/ سيزودها الإخوان بالصبر/ عندما يرجعون لها/ فلذة كبدها مسجى). وإذا تصفحنا سجل المغني الكبير معطوب ألوناس، فإننا نجد بصمات الثورة بارزة في أعماله الإبداعية، من خلال توظيفه للأناشيد الوطنية، ويبرز ذلك بوضوح في المقطع التالي الذي يصف فيه وضعية مجاهد اكتشفت طائرة فرنسية موقعه، فأمطرته بوابل من الرصاص، الأمر الذي جعله يفكر في مصيره، الذي قد يكون نهاية مأساوية، استشهاد مجهول: (أروبلان أثتسزي/ أميسغي نيقي/ ثسراح أسواكا يلان/ سلبارود أد سيسثي/ أمزون ذابروري/ أذمثغ مدن أورزران = الطائرة حائمة/ كالطير حولي/ راصدة حركاتي/ طلقات رشاشها/ كالبرد في كثافتها/ مجهولا سأموت). إن ما يستخلص من هذه الإطلالة على موضوع ثورة نوفمبر من خلال الأغنية القبائلية، هو بروز الوطنية المتأججة، ذات البعد الروحي الإسلامي العميق، ولعمري إن في ذلك لحجة دامغة على فشل السياسة الاستعمارية التي لم تدخر أي جهد من أجل زرع الفرقة بين الإخوة في الله والوطن والحضارة والتاريخ. هذا مجرد غيض من فيض مما يمكن قوله عن هذا الجانب الثقافي المنسي، والحق أن الغرض من تقديم هذه القراءة المتواضعة، هو لفت أنظار الباحثين في مجال الدراسات التاريخية والاجتماعية والسياسية والأدب الشعبي والعلوم الإنسانية قاطبة، إلى أهمية البحث والحفر في أعماق ذخيرة الأغنية القبائلية، باعتبارها مرآة عاكسة لواقع اجتماعي معيّن في ظرف وزمن معلومين، لاستخلاص الجواهر الحسان في اللسان الأمازيغي، ومدى التقاطع الذي يجمعه من حيث المبنى والمعنى مع اللغة العربية، وكذا لاستخراج المعارف التاريخية والاجتماعية والنفسية من رحمها، قد لا نجدها في المصادر والمراجع التقليدية والعادية .