في هذه الحلقة (*) نتعرف على بعض خلفيات لقاء تونس الذي لم يتم، بسبب حادث القرصنة الجوية الشهير مساء 22 أكتوبر 1956، وكان من المفروض أن يجمع أعضاء الوفد الخارجي لجبهة التحرير الوطني بكل من العاهل المغربي محمد الخامس والحبيب بورقيبة رئيس الحكومة التونسية (في عهد الباي). هذه الخلفيات نجدها في رسالة بعث بها محمد خيضر إلى وفد جبهة التحرير المكون من فرحات عباس وعبد الرحمان كيوان والذي كان في جولة للتعريف بالقضية الجزائرية لدى عدد من بلدان أمريكا اللاتينية. وفي لقطات من محضر استنطاق خيضر، نعرف أن “ميزانية” مسؤول الشؤون السياسية كانت بعد سنتين من إعلان الثورة ما تزال متواضعة جدا! كما نعرف أنه تستر على بن بلة وبوضياف اللذين كانت مصالح الأمن الفرنسي تعتبرهما من أخطر العناصر في قيادة الثورة، ونكتشف من جهة أخرى مدى هشاشة التحالف الظرفي بين خيضر وبن بلة: تحالفة عقد على عجل وانتهى بسرعة! فقد اصطدم بالخلاف حول: جوهر السلطة مدنية أم عسكرية؟ الأولوية للحزب أم للجهاز التنفيذي؟..
خلفيات لقاء تونس الذي لم يتم إذا كان هناك بعض التباين بين قيادة الداخل للثورة الجزائرية والوفد الخارجي لجبهة التحرير الذي ينشط من القاهرة، فقد كانا على الأقل متفقين بوضوح في الموقف من الإتصالات الأولى مع الحكومة الفرنسية التي اختارت الحسم العسكري منذ بداية الثورة.. وكان هذا الإختيار أشد ما يكون وضوحا في خريف 1956، عندما بدأت تقرع طبول العدوان الثلاثي على مصر.. في رسالة من بن يوسف بن خدة نائب عبان بتاريخ 24 يوليو من نفس السنة إلى محمد خيضر مسؤول الشؤون السياسية في الوفد الخارجي نقرأ بخصوص الإتصالات بمبعوثي ڤي مولي الملاحظات التالية: الفرنسيون برأينا ليسوا جاهزين بعد للتفاوض الجدي الإتصالات مجرد مناورة من مولي رئيس الحكومة لجبر خاطر دعاة الحل التفاوضي في حزبه. هذه الإتصالات يمكن أن تؤثر سلبا على موقف بعض أصدقائنا الحكومة الفرنسية توهم بالإنفراج، لكنها تشدد من سياسة القمع وجاء رد خيضر في 15 أوت الموالي، ليؤكد أن الوفد متفق تماما مع قيادة الداخل بشأن هذا الموضوع..(1). ترى لماذا إذا ذهب عناصر الوفد الخارجي إلى المغرب، ليقعوا في الفخ الفرنسي وهم في طريقهم إلى تونس مساء 22 أكتوبر 1956؟ من أجوبة أحمد بن بلة ومحمد بوضياف وحسين آيت أحمد، نفهم أن تحرك الوفد الخارجي كان يندرج في إطار مساع مغربية تونسية، لتنظيم لقاء رباعي بمشاركة الوفد والحكومة الفرنسية يمكن أن يتمخص عن فتح آفاق، على طريق حل تفاوضي للمشكلة الجزائرية. لكن خيضر كان قد أزال هذا الغموض الذي ماأنفك يلف “لقاء تونس” الذي لم يتم في رسالة مطولة بتاريخ 2 أكتوبر، إلى فرحات عباس وعبد الرحمان كيوان مبعوثي الوفد إلى أمريكا اللاتينية. وقد مهد لذلك في رسالته بتقديم ملخص عن لقاء بلغراد الذي حضره رفقة الدكتور محمد الأمين الدباغين في 22 سبتمبر المنصرم، وحضر “أربو” فقط عن الجانب الفرنسي كان رأي هذا الأخير يومئذ: أن مقترحات الوفد الخارجي لجبهة التحرير غير عملية، ولا يمكن قبولها لا من الرأي العام الفرنسي، ولا من الحكومة الحالية، وكان رأيه الشخصي أنه من الأجدى في هذا الصدد، استبدال “حق الشعب في تقرير مصيره” بمطلب “الإعتراف بالإستقلال” أولا. وجدد خيضر والدباغين بالمناسبة رفض جبهة التحرير، لفكرة “استقلالية التسيير” التي يطرحها الجانب الفرنسي، باعتبارها “إطارا ضيقا” لا يلي مطامح الشعب الجزائري، أسوة بفكرة ارتباط الجزائربفرنسا مؤسساتيا ودستوريا.. وطلب ممثلا الوفد في ختام هذا اللقاء الذي لم يدم طويلا حسب خيضر استئناف المحادثات لاحقا على أساس الإستقلال، وتعويض الروابط الدستورية باتفاقيات ثنائية، حول قضايا تحدد مستقبلا بين الطريفين. بعد العودة من بلغراد اجتمع خيضر في القاهرة بالصادق المقدم سفير تونس فلاحظ تغييرا ملموسا في موقفه، كان في السابق يبدو موافقا على مطلب الإستقلال، لكن هذه المرة أصبح يفضل التدرج و”المرحلية” على طريقة الحبيب بورقيبة، أي يفصل حلا وسطا ضمن آفاق الإستقلال. وعلم خيضر بالمناسبة، أن سلطان المغرب محمد الخامس يسعى لعقد لقاء رباعي تحت إشرافه في الرباط، لقاء مفتوح بدون جدول أعمال، يسمح بتبادل وجهات النظر ورسم قاعدة للمفاوضات المحتملة لكن عندما اتصل بسفير المغرب أحمد بن المليح، عرف أن مسعى السلطان هذا قديم، وأكثر من ذلك أنه أرسل بشأنه إلى باريس إبنه الأمير الحسن. وبناء على هذين اللقاءين استنتج خيضر أن تونس، والرباط بحثتا المسألة الجزائرية معا، وربما اتفقتا على موقف مشترك منهما. ويخشى أن يكون هذا الإتفاق بإيعاد من فرنسا بكيفية أو بأخرى، لذا يرى أنه أضحى من المستحيل إشعار الجارتين بما تريد جبهة التحرير، بدءا بعدم استعدادها للمشاركة في لقاء رباعي عشية انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة. فهذا اللقاء ينبغي أن يسبق بلقاء ثلاثي مغاربي لتنسيق المواقف تجاه الفرنسيين، ومن ثمة ضرورة الإسراع بالإتصال المباشر مع كل من تونسوالرباط. في هذا السياق إذا كان اجتماع خيضر بالملك المغربي، رفقة بن بلة وآيت أحمد وبوضياف.. وحدث ما حدث عندما كانوا في طريقهم إلى تونس، للإجتماع هناك بكل من سلطان المغرب ورئيس حكومة تونس الحبيب بورقيبة. ويعلق كيوان على رسالة خيضر قائلا، أنها تبين بوضوح رؤيته ومستوى تحليلة الذي يضفي عليه حجم رجل دولة بدون منازع، كما تعبر في نفس الوقت عن درجة الثقة السائدة بين أعضاء الوفد الخارجي، ومع خيضر على وجه الخصوص(2).
لقطات من استنطاق خيضر كان اختطاف طائرة الوفد الخارجي لجبهة التحرير الوطني مساء 22 أكتوبر 1956، يندرج ضمن عملية مخابراتية بعنوان “وضع خارج الميدان”، تصب في مجرى الإختيار الأمني والحسم العسكري للمشكلة الجزائرية، والهدف من هذه العملية القضاء على قيادة الثورة، في الداخل والخارج بطريقة أو بأخرى. وتمت عملية القرصنة الجوية بتغطية من كاتب الدولة للحرب ماكس لوجان، ومن روبار لاكوست الوزير المقيم حاكم الجزائر آنذاك.. وقد اعتبرت في حينها خطأ من وزير الخارجية كريستيان بينو، ومن رئيس الحكومة ڤي مولي الذي يقول في هذا الصدد، أنه وجد نفسه مخيرا بين الإستقالة والسكوت على ما حدث.. في استنطاق مصالح الأمن للقائد الأسير، كانت الحصيلة زهيدة، فقد عتم تماما على دور رفيقيه بن بلة وبوضياف اللذين تعتبرهما من أخطر عناصر الوفد الخارجي.. وسئل عن مكانة ودور رمضان عبان، فقال أن مشاركته ضرورية في أية تسوية نهائية وكانت علمت بإستقباله في سفارة الولاياتالمتحدةالأمريكيةبالقاهرة، فاستفسرته عن ذلك، فكان رده أن الإستقبال يندرج في إطار مسعى لدى مجلس الأمن الأممي الذي كان يرأسه حينئذ الأمريكي “كابوت لودج” بهدف تكوين لجنة وساطة، للتوصل إلى حل سلمي للنزاع الدائر في الجزائر.. ووجدت لديه مستندا بتسليم أموال، يساوي في فقره مستوى المعلومات آ نفة الذكر! يحتوي هذا المستند على المعلومات التالية: تسليم ألف جنيه (مصري) للدكتور أحمد فرنسيس، و500 جنيه للدكتور الأمين الدباغين، ومثلها للشيخ أحمد توفيق المدني، إضافة إلى 175 جنيه تسلمها المحامي آيت الحسن ممثل لجنة التنسيق والتنفيذ بتونس (3). ومن جهة أخرى كلف الدكتور الأمين الرئيس الجديد للوفد الخارجي الشيخ توفيق، باستعادة مالية الوفدة التي يكون تركها خيضر في منزله.. فاتصل لذلك بزوجته التي سلمته صكين ب 210 جنيه و3933 دولار. ويخبرنا الشيخ توفيق في سياق آخر أن علاقة خيضر ببن بلة المكلف بالشؤون العسكرية لم تكن حسنة دائما، فقد حضر ووالدكتور الدباغين ذات يوم مشهدا، أغلظ خلاله بن بلة القول لخيضر، ثم خرج غاضبا مزمجرا.. وبعد ذهابه التفت إليهما قائلا “أريتم ماذا نعاني؟! وما نسمع في سبيل مصلحة الثورة؟!” وكانت علاقات خيضر سيئة كذلك بالدكتور الدباغين، وأسوأ بالشيخ الفضيل الورتيلاني حسب الشيخ توفيق المدني دائما (4).
خيضر بن بلة تحالف ظرفي لم يدم طويلا لم تجرؤ الحكومة الفرنسية على محاكمة أعضاء الوفد الخارجي، سترا على فضيحة القرصنة، وليس لكونهم أسرى حرب، لأن فرنسا لم تكن تعترف بحالة الحرب في الجزائر، ولم تجرؤ كذلك على إحياء موضوع السوابق القضائية لكل على حدة، باعتبارهم متابعين في قضيتي بريد وهران (1949) والمنظمة الخاصة (1950).. لأن المحاكمة في الحالتين، من شأنها أن تفتح منبرا واسعا للدعاية للثورة الجزائرية. لذا استمرت محنة السجين بلا محاكمة من أواخر أكتوبر 1956 إلى 18 مارس 1962، لحظات بعد التوقيع على اتفاقيات ايفيان التي وضعت حدا لحرب ضروس استغرقت سبع سنوات وبضعة أشهر، هذه المحنة استغلها أحمد بن بلة أكثر الخمسة طموحا، وأشطرهم على صعيد العلاقات العامة والدعوة لنفسه لإعادة ترتيب العلاقات الشخصية بين رفاقه لصالحه.. فكانت النتيجة في نهاية المطاف استقطاب كل من خيضر وبيطاط، وترك بوضياف وآيت أحمد معزولين كل في زاويته! وإذا كان بن بلة في أزمة سباق السلطة، قد أشعل النار في بيت المجلس الوطني للثورة الجزائريةبطرابلس في 6 يونيو 1962، فإن خيضر هو الذي نقل اللهيب إلى بيت الحكومة المؤقتة ذاتها في تونس.. حين أعلن عن استقالته منها يوم 28 يونيو، تلاه “هروب بن بلة إلى طرابلس ثم إلى القاهرة في اليوم الموالي، فأعلان الرئيس بن خدة عن عزل بومدين ورفيقيه، في هيئة الأكان العامة لجيش التحرير في 30 من نفس الشهر.. وهكذا انطلق الشوط الأخير لسباق السلطة الذي كانت الغلبة فيه لتحالف بن بلة بومدين. تولى خيضر الأمانة العامة للمكتب السياسي لجبهة التحرير المعلن عنها بتلمسان مساء 22 يوليو 1962.. وبهذه الصفة كان بمساعدة رابح بيطاط بمثابة حصان طروادة في معركة العاصمة التي كان أول من دخلها، ممهدا لدخول بن بلة وزحف قوات بومدين عليها. تقاسم خيضر “فيلا جولي” مع بن بلة الذي تولى رئاسة الحكومة، ولعب مع نائب بيطاط دورا رئيسيا، في وضع الأسس الأولى للمؤسسات السياسية والإدارية وهو الذي أشرف كذلك على تأسيس صحافة الإستقلال، بدءا بصحيفة “الشعب” باللغتين العربية والفرنسية. غير أن ممارسة السلطة ما لبثت أن كشفت عن خلافات جوهرية بين الحليفين: جوهر السلطة ذاتها، مدنية أم عسكرية؟ الأولوية للحزب أم للحكومة؟ هذه المواقف المبدئية كانت تتجلى في خلاف حول نقاط محددة مثل: 1 البدء بالتأسيس من مؤتر الحزب أم من وضع الدستور أو لا؟ 2 هل يجوز لبومدين حضور أشغال المكتب السياسي، دون أن يكون عضوا فيه؟ 3 ما الداعي لظهور دوريات عسكرية بالعاصمة بين الفينة والأخرى؟ المهم أن التعايش بين رئيس الحكومة والأمين العام للمكتب السياسي، بات خلال أشهر معدودة شبه مستحيل.. ولتجاوز هذا الإشكال لجأ بن بلة إلى حيلة طريفة: طلب من خيضر التنازل له عن صلاحياته مدة 6 أشهر ليطبق سياسته، بعد ذلك يقدم حصيلته، فإذا استمر خيضر في معارضته يدرسان معا حينئذ المراجع الممكنة لهذه السياسة! وبناء على هذا الطلب قدم خيضر استقالته في أبريل 1963، وغادر الجزائر ليقيم بعض الوقت في سويسرا. عندما اقتربت نهاية المهلة أخذ يستعد للعودة، علم بن بلة بذلك فطلب منه بواسطة صديق مشترك أن يتريث قليلا! لكن أياما قبل الإنتخابات الرئاسية الأولى في ظل الإستقلال يوم 15 سبتمبر 1963 عاد خيضر، وبدأ يحضر لعقد مؤتمر صحفي، يجاهر خلاله بخلافاته مع المرشح الوحيد لهذه الرئاسيات. تدخل بن بلة مرة أخرى بواسطة أصدقاء مشتركين، لإقناع خيضر بعقد مؤتمره دون إثارة موضوع الخلاف، لكن خيضر ما لبث أن طرح هذا الخلاف بالعاصمة السويسيرية، على سفير مصر هناك الشهير فتحي الديب، المسؤول السابق عن ملف القضية الجزائرية في المخابرات المصرية، لخص الديب مآخذ محدثه في النقاط التالية: أن بن بلة أحاط نفسه بالإنتهازيين والشيوعيين والمستشارين الكوبيين، ما جعل العناصر القيادية الوطنية تتكتل ضده. أثار شكوك حليفه بومدين وزير الدفاع، بإنشاء هيئة أركان للجيش وهو في زيارة عمل بالقاهرة، وعين فيها العقيدان الزبيري وشعباني.. أن سياسة بن بلة ستؤدي حتما إلى صدام، يكون هو الخاسر الأول فيه (5). (يتبع) إعداد محمد عباس
(*) طالع الحلقتين الأولى والثانية في عددي 10 و 17 يوليو الجاري (1) مبروك بالحسين، بريد الجزائرالقاهرة منشورات دار القصبة. (2) عبد الرحمان كيوان، بدايات دبلوماسية حرب، منشورات دار دحلب (3) كلودبايا، الملف السري لحرب الجزائر (ج 1) منشورات “لاسيتي” (فرنسا (4) أحمد توفيق المدني، حياة كفاح (ج 3) منشورا ش.و.ن.ت (5) فتحي الديب، عبد الناصر وثورة الجزائر، القاهرة 1986.