نكتشف في الحلقة الثانية الجدل الذي كان قائما، بين قيادة الثورة بالداخل ممثلة في رمضان عبان والخارج ممثلة في محمد خيضر، وذلك من خلال الرسائل المتبادلة خلال سنة تقريبا: من 55/9/20 إلى 16 أوت 1956 (*) نكتشف مجمل القضايا التي كانت مطروحة على قيادة الثورة في البداية: - المطلب الرئيسي الذي تبلور بالداخل في عبارة “الإعتراف بالإستقلال” وبالخارج في عبارة “التفاوض على أساس الإستقلال” ثم على أساس “حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره”، وضمانات حرية إختياره. - الطرف المفاوض هل هو تجمع يشكل واجهة شرعية لجبهة التحرير؟ أم هو جبهة التحرير؟ أم حكومة مؤقتة للتعبير أكثر عن تطور القضية الجزائرية على الصعيد الدولي، ومستوى تمثيلها كذلك..؟ القيادة العليا للثورة، هل تكون بالداخل أم بالخارج؟ وهو تكون بالتساوي بين الداخل والخارج؟ أم تكون الغلبة فيها للداخل؟ عبر مثل هذه القضايا وغيرها نكتشف لغتين: لغة السياسة والدبلوماسية وهي لغة خيضر وبن خدة، ولغة “العنف الثوري” التي يتعمدها عبان بدون مبرر مقنع، عدا الإعتبارات السلطوية التي مالبث تطور الأحداث أن كشف عن عبثيتها ومخاطرها في آن واحد الثائر الدبلوماسي في 29 أكتوبر 1954 أرسل محمد بوضياف منسق لجنة الستة التاريخية بين الداخل والخارج - من برن (سويسرا) في طريقه إلى القاهرة برقية إلى الثلاثي محمد خيضر، حسين آيت أحمد، أحمد بن بلة هناك، تحمل تفويضا صريحا بتمثيل قيادة الثورة بالخارج... كما يتجلى ذلك في الفقرتين التاليتين: 1 - “أن الإخوة في الداخل حريصون جدا على استقلاليتهم، فلا يقبلون إشرافا من أحد، لذا ينبغي أن يكون موقفكم منسجما مع ما تقرر، لتجنب أي سوء تفاهم قد يشكل خطرا على مستقبل العمل.. 2 - .. وسيكون الحديث بإسم هذا العمل (الثورة) بالخارج حكرا عليكم دون سواكم.. هذا ما تقرر إلى حد الساعة، وسأوافيكم بمزيد من التفاصيل قريبا بالقاهرة”(1) فالعلاقة بين قيادة الداخل وممثليها في العاصمة المصرية تبدو من خلال هذه الفقرات واضحة تماما، فضلا عن التفويض الصريح بالحديث باسم الثورة في الخارج.. لكن رمضان عبان - المفوض من عضو واحد من لجنة الستة وبلقاسم كريم - بدا له أن يطرح مسألة العلاقة بين الداخل والخارج من جديد، وبصيغة جديدة كذلك .. تبدو مناقصة للصيغة الأولى.. ففي رسالة - أولى - إلى محمد خيضر الملكف بالشؤون السياسية والإدارية في الوفد الخارجي لجبهة التحرير الوطني نراه يطرح “مبدأ جديدا” جاء فيه: “لا يمكن لأي كان أن يتحدث بإسم جبهة التحرير، إذا لم يكن انخرط فيها بالجزائر أولا” (2).. يفهم من هذا “المبدأ” أول وهلة أنه يسقط أهلية الحديث بإسم الثورة في الخارج عن الثلاثي خيضر، آيت أحمد، بن بلة، أي يستثني بوضياف على الأقل باعتباره من مؤسسي جبهة التحرير بالداخل.. غير أن عبان ما لبث أن عمم هذا “المبدأ” على الجميع، في رسالة لاحقة إلى خيضر جاء فيها: “أن بن بلة ليس ممثل جيش التحرير، شأنه في ذلك شأن بوضياف والآخرين“..(3) وينزل في نفس الرسالة من درجة تمثيل الوفد الخارجي، ليجعل من عناصره (3+1) مجرد “.. مهاجرين مكلفين بمهمة في الخارج من جبهة وجيش التحرير”، ويحدد مهمة بن بلة وبوضياف على وجه الخصوص: بتولي مصلحة العتاد (التسليح) والإتصال معنا”. مثل هذه اللهجة النابية من عبان، يرد عليها خيضر بدبلوماسية واضحة .. ففي رده الأول يخاطبه قائلا: “الجميع هنا ايفكر فيكم، وفي صعوباتكم وبطولاتكم” ..(4) وبخصوص قيادة الوفد ودوره يوضح في رد لاحق: “تصورنا أن القيادة جماعية، ولن يكون بن بلة لا في رأس القائمة ولا في ذيلها”.. “إذا كانت ميادين أداء مسؤولياتنا مختلفة (الخارج والداخل)، فإنها متساوية من حيث القيمة، ومتكاملة فيما بينها”. تصريحاتنا لفائدة القضية، لا بد أن تكون مرتبطة بصفة العضو الممثل لجبهة وجيش التحرير” ( تفويض لجنة الستة). ونلمس في رد لاحق من خيضر، أنه ينطلق من اعتبار “أولوية الداخل” تحصيل حاصل، ومن ثمة قبول توجيهات السلطة الفعلية - التي يتحدث عبان بإسمها - بدون حرج ، فهو يقول مثلا: “لا تتحرجوا من إرسال ما أمكن من تعليمات، حتى نظل دائما على نفس الخط السياسي”.. في رسالة بتاريخ 21 فبراير 1956 يشير خيضر إلى ما نقل إليهم بن مهيدي (حكيم)، حول اقتناع عبان بوجود “خلافات” مع الوفد الخارجي” .. ويعلق على ذلك مستغربا استمرار هذا الإقتناع لدى السلطة الفعلية بالداخل، رغم أنه يحاول منذ 5 أشهر تبديد مثل هذا الإنطباع الخاطئ في نظره. وتطرق في نفس الرسالة إلى تصريح لعبان، كان أدلى به لأسبوعية “فرانس أوبسرفتور”، مبديا الملاحظات التالية: مضمون التصريح جيد، لكن شكله لا يخلو من نقائص منها: “أن لهجته حادة مضطربة، غير مهذبة”. - أن التصريح ( الصحفي) ليس منشورا، وهو ذو طابع سياسي وموجه لقراء مختلفين، ومن ثمة فالنبرة ينبغي أن تكون سياسية بالدرجة الأولى. ويختم رسالته بالدرس التالي: “بوسعنا التصريح بأشد الأفكار تطرفا، لكن بطريقة تبين أن قادة جبهة التحرير أناس مسؤولون”. مشروع”واجهة شرعية” لجبهة التحرير في رسالة من رمضان عبان إلى محمد خيضر بتاريخ 8 أكتوبر 1955، أشار إلى لقاء جمع أحمد بن بلة بكل من بن يوسف بن خدة وصالح الوانشي من قيادة حركة انتصار الحريات الديمقراطية (المحظورة)، كان موضوعه اقتراح من بن خدة، يتعلق بمشروع تأسيس ائتلاف سياسي من حزب البيان وجمعية العلماء وجناح المركزيين في حركة الإنتصار، فضلا عن شخصيات مستقلة. ويكشف أنه ورفاقه بالداخل وافقوا على المشروع شريطة أن يكون واجهة شرعية للجبهة، يمكن أن تفاوض السلطات الفرنسية نيابة عنها.. ويحدد الموقف في الختام قائلا: أن جبهة التحرير لا تشارك في هذا التجمع ولا تندد به. وجاء رد خيضر في 19 من نفس الشهر متحفظا، مسندا ذلك بالتبريرات التالية: أن الأولوية الآن هي لدعم سمعة جيش وجبهة التحرير أن تعدد الواجهات السياسية يمكن أن يسيء إلى جبهة التحرير.. أن التجمع قد يفشل في فرض نفسه كمنظمة جماهيرية شرعية التخوف من تجدد الإنقسامات الإستعراضية الشبيهة بتلك التي عرفتها الحركة الوطنية مع تجربة “أحباب البيان والحرية“ (1944 1945). وفي رسالة لاحقة (4 نوفمبر)، أخبر عبان مراسله بالعدول عن هذا المشروع.. أرضية لم ترسل: في رسالة 6 يناير 1956، “أخبر عبان خيضر أن جماعة العاصمة بصدد إعداد أرضية سياسية، سترسل إلى الوفد الخارجي لإبداء رأيه فيها قبل نشرها.. وعاد إلى الموضوع في مراسلة 20 من نفس الشهر، ليخبره بتشكيل لجنة مكلفة بإعداد مشروع الأرضية، مؤكدا عزمه ورفاقه على معرفة رأي جماعة القاهرة قبل نشرها.. وطلب بالمقابل من الجماعة ألا تنشر شيئا من هذا القبيل قبل الإتفاق مع الداخل.. وجاء رد خيضر في 15 فبراير الموالي كما يلي: عجلوا بإرسال الأرضية السياسية، لأن ذلك يساعدنا كثيرا.. لقد امتثلنا لتعليماتكم بعدم الإدلاء بتصريحات في انتظار أرضيتكم.. عاد عبان إلى موضوع الأرضية في رسالتين: رسالة 10 أبريل، حيث أشار إلى أن “الأرضية ستناقش في الإجتماع الذي نعقده معا في عمالة قسنطينة (5) رسالة 15 مايو، حيث كتب “أن الأرضية جاهزة (من 30 صفحة)، وسترسل إليكم وشيكا في عدد من الرسائل” في 16 يونيو الموالي ذكر خيضر مراسلة، بأن الجماعة بالقاهرة ما تزال تنتظر الأرضية السياسية الموعودة.. وعاد إلى الموضوع عشية انعقاد مؤتمر الصومام، ليقول بأنه ورفاقه لم يتلقوا بعد شيئا منها (6)!
توحيد القيادة العليا كان الوفد الخارجي منشغلا بتوحيد قيادة الثورة.. ورفع مستوى التمثيل الخارجي، وكان يفكر في هذا الصدد في تشكيل قيادة عليا مناصفة بين الداخل والخارج، وتأسيس حكومة مؤقتة لتجسيدها.. وقد طرح ذلك خيضر في رسالة 21 فبراير، مشيرا إلى اجتماع عقد بالقاهرة، أواخر 1955، بحضور ثلاثي الوفد وكل من بوضياف وبن مهيدي.. والدباغين، وكان في جدول أعمال الإجتماع قضايا ثلاث: التوجيه السياسي التنسيق بين الداخل والخارج، وإنشاء قيادة موحدة. ويرطح إشكالية الإجتماع بصيغة إيجاد حل عبر سلطة سياسية ناطقة باسم جبهة التحرير، وتجسيد ذلك في “لجنة عليا لقيادة المقاومة”، من 12 عضوا، يتمثلون التساوي والتكامل بين الداخل والخارج أي السلطة الفعلية القائمة بالداخل (عبان + قادة المناطق الخمسة)، وثلاثي الوفد الخارجي الموسع إلى بوضياف وبن مهيدي والدباغين. كان رد عبان عنيفا على هذا الإقتراح في رسالة 13مارس، حيث كتب بشأن القيادة متساوية الأعضاء: “كفانا ثرثرة حول الموضوع! سنوافيكم بجوابنا في رسالة لاحقة”! وبعد يومين جاء جوابه بصيغة أعنف: “الحكومة المؤقتة ستكون بالجزائر أولا تكون! تشكيل حكومة بالخارج سيضطرنا إلى التنديد كلم علانية، وستكون سببا في القطيعة النهائية بيننا”! هذا العنف لم يمنع خيضر، من إثارة نفس الموضوع عشية مؤتمر الصومام، ففي رسالة 16 أوت إلى عبان، ذكر أن اجتماعا عقد بالقاهرة، حضره إلى جانب بن بلة وبوضياف، درس من جديد مسألة الحكومة المؤقتة التي يراها ورفيقيه مسألة مستعجلة في غاية الأهمية.. ينبغي إيحاد حل لها قبل نهاية أكتوبر..” ويبرر ذلك قائلا “بدون حكومة مؤقتة سنظل مجرد حركة تمرد في نظر الرأي العام الدولي، بينما أمست قضيتنا تكتسي طابعا دوليا بدون جدال”.. ويضيف” نظرا لدقة المسألة علينا بالحصول على موافقة المقاتلين، وعقد اجتماع عام في أحسن الآجال”.. بعد 4 أيام عقد هذا الإجتماع العام الذي اشتهر لاحقا بمؤتمر الصومام في غياب خيضر ورفاقه، وكانت نتائجه مفاجأة غير سارة لهم، عزلهم من القيادة التنفيذية للثورة، المنبثقة عن الإجتماع باسم “لجنة التنسيق والتنفيذ”!
خلاف أم مجرد تباين؟ كان محمد العربي بن مهيدي قد أبلغ الوفد الخارجي لجبهة التحرير الوطني أواخر 1955 بأن جماعة العاصمة بقيادة رمضان عبان مقتنعة بوجود خلافات مع عناصر الوفد.. وقد استغرب ذلك محمد خيضر في رسالة إلى عبان بتاريخ 21 فبراير 1956، معترفا بفشله طيلة 5 أشهر - من الرسائل المتبادلة - في اقناعه بعكس ذلك. لكن عبان أصر على وجود هذه الخلافات السياسية والإستراتيجية، وتطرق اليها في رسالتي 13 و 15 مارس الموالي من هذه الخلافات في تقديره: 1 - النظرة إلى القضية من القاهرة: يعتقد عبان أن وجود عناصر الوفد بالعصامة المصرية، لا يسمح لهم بتكوين نظرة سليمة عن الحالة بكل من الجزائروفرنسا، مؤكدا تأثر نظرتهم “بالصحافة الفرنسية المنحرفة”... 2 - تقدير موقف مصر : يعتقد عبان “أن المصريين يضحكون على عناصر الوفد” مضيفا أن الإنطباع السائد في الجزائر أنهم تابعون للحكومة المصرية”... 3 - اتحادية فرنسا : الإتحادية ينبغي أن تكون تابعة إلى الجزائر، ويتناول بالحديث “بوضياف الذي يريد تسيير الإتحادية من القاهرة (6، وكأن لا هم له غير ذلك “! مضيفا مخاطبا خيض: “أكدوا لبوضياف أنه مكلف بالتسليح، وعليه أن يترك الإتحادية وشأنها!” 4 - تسوية المشكلة الجزائرية: يقول عبان نحن نتحدث عن الإستقلال وإيقاف القتال، بينما تتحدثو ن عن تقرير المصير والتسوية السلمية، مؤكدا: “نحن شطبنا عبارة تقرير المصري من قاموسنا”! ويشمل الخلاف هنا شروط التسوية أيضا، فهي عند جماعة الداخل”الإعتراف بالإستقلال أولا”، في حين يتحدث الوفد الخارجي عن تسوية “على أساس مبدز الإستقلال” 5 - الإستراتيجية المغاربية: يخاطب عبان على هذا الصعيد خيضر ورفاقه قائلا: “كرسوا جهودكم إلى الجزائر! لا تضيعوا وقتكم وطاقاتكم في محاولة جر تونس والمغرب إلى الكفاح معنا”..! هذه الخلافات تناولها بن خدة - الذي خلف عبان عند ذهابه إلى الصومام- في رسالة 24 يونيو إلى خيضر بلغة أخرى تماما، تختزل شقة الخلاف في درجة التشدد والمرونة لا غير. على سبيل المثال: يقول بن خدة أن فرحات عباس يتحدث عن “الإعتراف بالحق في الإستقلال” كشرط لإيقاف القتال، بينما تصر جماعات العاصمة على اشتراط “الاعتراف بالإستقلال” كما حدث بتونس والمغرب. وبخصوص ضمان حرية الإنتخاب، لا يستبعد عباس اللجوء إلى الإشراف الدولي، في حين ترى جماعة العاصمة أن الإنتخاب شأن داخلي، تشرف عليه حكومة جزائري، على غرار ما حدث في تونس. ويقول بن خدة في ختام رسالته، تأكيدا للتبيان فقط في درجة التشدد والمرونة: “موقفكم دون موقفنا، وبودنا أن نكون على موجة واحدة”.. .. (يتبع) (*) مبروك بالحسين، بريد الجزائر - القاهرة 1954 - 1956 دار القصبة الجزاذر (1) نفس المصدر، أسوة بالأحالات اللاحقة (2) رسالة 1955/9/20 (3) رسالة 1955/11/4 (4) رسالة 1955/10/19 ثم رسالة بداية ديسمبر الموالي. (6) رسالة 1956/8/16