تريد الدوحة أن تضع نفسها على خارطة الفن العالمية، وربما أنها نجحت لغاية اللحظة في قطع شوط يحسب لها. لكن الطموح القطري الذي يتجاوز السياسة ليطال الرياضة، وتجسد ذلك في معركة ضارية من أجل انتزاع مونديال 2022 ومن ثم المحافظة على هذا الملف الرياضي المضني، لا يشغل الدولة الصغيرة عن مجال الفنون الذي تسعى لأن تكون رائدة فيه عربيا، وعالميا إن أمكن، وهو أمر دونه عقبات كثيرة جدا. ما الذي تريده قطر بالتحديد؟ ولماذا تنفق مليارات الدولارات على الفنون بأنواعها، وبشكل خاص الفن التشكيلي والسينما؟ وهل لقطر رؤية واضحة وخطة محكمة لتصل لغاياتها؟ بات نقاد الفن الغربيون شغوفين باكتشاف ما تنجزه هذه الدولة الصغيرة، وهم يزورون الدوحة، لأن صيت ”متحف الفن الإسلامي”، الفريد من نوعه في المنطقة، وكذلك ”متحف الفن العربي الحديث”، الذي يمتلك أكبر مجموعة تشكيلية عربية معاصرة، لم يعد قليلا. وقطر التي أقامت خلال سنوات محدودة معارض لفنانين عالميين كبار مثل الصيني ساي جوو تشانغ، والياباني ياكاشي موراكامي، والإنجليزي داميان هيرست، هي اليوم موضع اهتمام الإعلام الفني الغربي الذي يتعقب مشاهيره، ويحلو له أن يقتفي خطاهم. قبل أيام افتتحت في الدوحة مجموعة من المعارض، لكن العروض في الأماكن المغلقة التي لا تجتذب كثيرين لم تعد تشفي غليل القيمين على المتاحف، فبدأ العمل على إخراج الإبداعات إلى الأماكن العامة. ومنذ أيام تزين الكورنيش البحري بمنحوتة جميلة للفرنسي جزائري الأصول عادل عبد الصمد، تمثل لاعب المنتخب الفرنسي زين الدين زيدان وهو يسدد تلك ”النطحة” الشهيرة بالرأس ضد لاعب المنتخب الإيطالي ماتيرازي، إثر مشادة بينهما، في نهاية مونديال 2006. هذه المنحوتة التي وضعت نسخة منها أمام مركز ”جورج بومبيدو” في باريس، وأثارت جدلا واسعا هناك، لأن ما فعله زيدان أمام الكاميرات يومها، بحسب محبي الكرة، لا يتناسب والروح الرياضية التي يفترض أن تقدم نموذجا للجمهور. هذه المنحوتة أثارت استفهامات من نوع آخر في قطر، وعما إذا كانت تتناسب وتقاليد البلد. وهو أمر في حد ذاته إيجابي، ويدل على تفاعل حقيقي مع جمهور، يقول القيمون على المشاريع الفنية إن علاقته بالفن لا تزال فاترة، ويجب العمل على مدها بالحرارة. ولتمتين العلاقة فإن الشوارع والساحات القطرية ستكون مكانا لمنحوتات وأعمال فنية تتكلف عليها الدولة القطرية ملايين الدولارات، رغبة منها في تثقيف الذوق العام، وتنبيه حساسية المارة إلى جماليات الإبداع. وقد كتبت ”نيويورك تايمز” أن المنحوتات الأربع عشرة البرونزية التي تمثل تطور الجنين في بطن أمه ومراحل نموه، وأسدل عنها الستار في الدوحة أمام مركز السدرة الطبي قبل أيام، بلغت تكلفتها 20 مليون دولار. هذه المنحوتات التي صممها الفنان الإنجليزي داميان هيرست خصيصا للدوحة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، فقد أنجز قبله الفنان الأميركي ريتشارد سيرت منحوتة من الحديد الصلب تحمل اسم ”7” تزين اليوم حديقة متحف الفن الإسلامي. وبحسب مدير الفن العام، في هيئة المتاحف القطرية، الهولندي بول انجلين، فإن ”الذهاب إلى الناس هو اليوم الهم الأساسي، ما داموا هم لا يتخذون المبادرة لزيارة المعارض والمتاحف، بالقدر الكافي”. السعي جاد لتحفيز الذائقة الفنية، من خلال تنظيم ورش عمل للطلاب، وتشجيع المواهب وتمويل مشاريعها، وكذلك افتتاح معاهد فنية في الجامعات، وتنظيم زيارات دائمة من المدارس إلى المتاحف. وما إن تسير في شوارع الدوحة حتى ترى الإعلانات والملصقات التي تروج لزيارة المعارض، هذا غير السيارات الجوالة التي تجوب المناطق برسومها وعباراتها المشوقة، لحث الفضول على اكتشاف الأعمال الفنية. الطموح القطري كبير حقا، والجهود حثيثة ومتواصلة. في قطر اليوم خبراء غربيون محنكون، بعضهم لهم تجربة طويلة مع ”كريستيز”، وآخرون آتون من ”اللوفر” ومتاحف أخرى لا تقل أهمية. تبقى المشكلة الأساسية هي ضمور التواصل بين كل هذه الحركة ومحيطها، ليس فقط محيطها القطري الذي تعمل هيئة المتاحف بجد على حل مشكلته، ولكن أيضا مع البيئة العربية المحيطة. ”متحف الفن العربي الحديث” من المفترض أن يكون صدى ومرآة لفورة تشكيلية هائلة تغلي اليوم على مدى المنطقة العربية، وهذا ما بقي بعيد المنال. لكن المدير الجديد للمتحف عبد الله كروم، الآتي من أصول مغربية، يبدو عازما على إنعاش الحيوية وتفعيلها ومد الجسور. والأمر عينه بالنسبة لمتحف الفن الإسلامي الذي ينتظر أن يجد أبعاده بتعاون أكبر مع دول إسلامية. الخبراء الغربيون يحملون تجربتهم الثرية إلى قطر، وهذا جيد، بعضهم متحمسون إلى حد مذهل، ومنهم من يقولون إن حظهم كبير أن يعملوا في بلد يبني أسس نهضته الفنية الأولى، وأن يكونوا مشاركين في هذا البناء. لكن هؤلاء تنقصهم العين العربية، ويلزمهم الحس بالهوية. أحد هؤلاء قال لي صراحة ونحن نتحدث معا ”ليتني كنت أتكلم العربية، أو أعرف ما يدور في ذهن الإنسان العربي الذي أتوجه له، عندها كنت سأقوم بعملي بشكل أفضل”. ثمة ما لا يزال ناقصا في المشروع الفني القطري. الرؤية موجودة، لكنها تفتقد لعمقها الذاتي، وهويتها الخاصة. وهو ما ينتظر أن تبلوره السنين المقبلة. فالفن لا يصير فنا، ولا يمكنه أن يصبح عالميا، من دون أن يكون ضمير أمته وحامل هواجسها.