قال الوزير الأول عبد المالك سلال، في إحدى خرجاته الأخيرة، لمن سأله عن دور الزوايا في المرحلة القادمة ”ناناك لي تروح ماشي الزوايا”.. وكانت هذه أول مرة يعبر فيها مسؤول سياسي رفيع المستوى بصفة علنية عن الدور المنوط بالزوايا والطرق الصوفية في الحياة السياسية. عرفت الجزائر، في السنوات الأخيرة، إعادة بعث قوي للزوايا والحركات الصوفية حيث تحولت إلى ”منظمات للاستقطاب السياسي”، وجمعيات شبيهة بالأحزاب، إذ صار الولاء السياسي يمرعبرها أكثر مما يمر عبر الحزب، حيث قام بعض نواب المجلس الشعبي الوطني بإنشاء زوايا، وانخرطوا في موجة ما صار يعرف اليوم إعلاميا ”بالتصوف السياسي”، فانتقلت بذلك الزوايا من منظمات مطاردة في عهد الحزب الواحد إلى أكبر رهان سياسي، حزبي يعوّل عليه في المواعيد الانتخابية المختلفة لجلب الأصوات وحشد الدعم. ولعل ما دعم موقف الزوايا وعودتها إلى النشاط بقوة هو الدور الذي لعبته إبان العشرية السوداء في مواجهة التيارات المتطرفة. وتدعم هذا الحضور بدعم من الرئيس نفسه الذي يحفظ له التاريخ أنه كان أول مسئول يدافع عن الزوايا في بداية الاستقلال، حيث دعا في 1967 الرئيس الراحل هواري بومدين إلى استغلال التيجانية لدخول إفريقيا، نظرا لكون أغلب القادة الأفارقة ينضوون تحت قيادة التيجانية. وظهر هذا التأثير عند وفاة أحد شيوخ التيجانية في السنغال عام 1983، وهو جزائري شيّع ودُفن في الجزائر في جنازة كبيرة حضرها أكثر من 3 آلاف إفريقي، جاؤوا خصيصا لأجل هذا الغرض، فوقع يومها نقاش في كيفية الاستفادة من هذا الإرث والتراث، ليعقد اجتماع بهذا الشأن جمع كلا من الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد والجنرال لكحل عياظ والعربي بلخير.. واتفق فيما بعد على العمل على استغلال هذا الإرث. وقد سعت حتى القيادات الإسلامية في الحزب المحظور إلى كسب ود شيوخ الزوايا عندما قام زعيم الفيس السابق، عباسي مدني، بزيارة إلى زاوية بالكبير للحصول على بركة ودعم الشيخ. لكن حمروش كان سباقا إلى قطع الطريق عليه عن طريق شيخ زاوية أخرى بوهران، وكانت النتيجة أن امتنع شيخ زاوية بلكبير عن استقبال عباسي مدني. وقد بلغت درجة تأثير الزوايا على صناعة القرار السياسي في البلاد أنها هي التي حسمت انتخابات 2008، حس ما أشارت إليها سابقا وثيقة نشرتها جريدة لكسبريس الفرنسية، التي أكدت أن الزوايا لعبت دورا كبيرا في حسم سباق المرادية أكثر من الأجهزة الخاصة. وقد برز هذا الدور منذ ما عرف باجتماع درارية عام 2004، حيث جدد قادة الزوايا دعمهم للسلطة القائمة في البلاد وشكلوا بذلك وعاء جديدا لتمرير الولاءات السياسية أكثر فعالية من الأحزاب. ونتيجة للنفوذ المتعاظم للزوايا الذي دعمه القاضي الأول في البلاد، صار كل السياسيين تقريبا يتفننون في إظهار علاقاتهم الوثيقة مع الزوايا والشيوخ، حيث صار هؤلاء ضيوف ونزلاء مكرّمين في كل التظاهرات التي تشهدها البلاد حتى لولم تكن لها أي علاقة بالمجال. ولم يعد مستغربا أن يظهر الوزراء والمسؤولين في التلفزيون وهم يشعلون الشموع في هذا الضريح أوذاك، أو يمرون بمحراب أو زاوية شيخ في أي زيارة تقودهم إلى الولايات، وهناك من يمعن في إظهار نسبه إلى هذه الزاوية أوتلك. قرارات سياسية تحسم في دهاليز المقابر لم تعد فقط الزوايا وأضرحة الأولياء وحدها النافذة في صناعة القرار السياسي في البلاد، بل امتد هذا الدور أيضا ليشمل المقابر والمطاعم، حتى أن القرارات الكبرى لم تعد تتخذ في مكاتب وأروقة المؤسسات السياسية بقدر ما صارت تحسم في دهاليز المقابر وفوق طاولات المطاعم الراقية. وبرز مصطلح جديدة عرف ب”دبلوماسية الجنائز”، حيث صار مثلا حضور هذا السياسي أوذاك في جنازة أحدهم كفيلا برسم تأويلات وتحالفات سياسية، وكأن المقبرة صارت حزبا أو مؤسسة دستورية قائمة بذاتها. كادت دبلوماسية المقابر وسياسية الأضرحة في كل مرة أن تفجر فضائح في مكاتب المسؤولين، حيث نشرت مثلا الصحف قبيل التعديل الحكومي ما قبل الأخير، تقارير منسوبة للدرك الوطني تحدثت عن مسؤولي رفيعي المستوى ضبطوا في مقابر بوشاوي وهم بصدد دفن بعض الأشياء التي يعتقد أنها كانت كفيلة بجلب الحظ لهم، حتى يجدد الرئيس فيهم الثقة في مكاتب الوزارة. وتقارير أخرى تحدثت عن بعض المسؤولين الذي صاروا زبائن لدى ”الشوّافات” والمشعوذين لقراءة الغيب والتكهن بمستقبلهم السياسي. ولعل أصدق مثال على دبلوماسية المقابر ما طرأ على مقبرة بن عكنون من تحول خارجي وداخلي أيضا، فمنذ أن رقدت بها والدة الرئيس بوتفليقة والجنرال العربي بلخير، تغير مظهر تلك المقبرة التي كانت في السابق هادئة، وتكاد تكون مهملة ولا أحد يعيره اهتمام قبل أن تتحول بين عشية وضحاها إلى ”مقبرة خمسة نجوم”، حيث أعيد طلاؤها ووضعت على جدرانها لوحة رخامية تثبت اسمها وتاريخ إنشائها ”مقبرة زدك 1929”. وعلى الجانب الآخر لوحة رخامية كتب عليها دعاء دخول المقابر. وصار أيضا للمقبرة حارس يرتدي سترة سوداء تشبه تلك التي يرتديها رجال الأمن والحراسة المكلفين بضمان أمن وسلامة المؤسسات الرسمية. وحتى المتسولون الذين يقفون كل يوم جمعة على أبوابها صاروا يتكاثرون لأن نوعية الزوار أيضا صارت رفيعة، حيث تصطف السيارات الجديدة عند باب المقبرة كل يوم جمعة راسمة خطا طويلا ومحدثة ازدحاما في حركة المرور. بعض الشهود هنا يتحدثون عن الزيارات المتكررة لأقارب بعض المسؤولين الرفيعي المستوى الذين يقصدون شيخا راقيا يحدث أن يمر بالمقبرة يوم الجمعة ويمنحهم ”رقية مباركة” تصلح طبعا لجلب الحظ السياسي.. بسطاء يكتبون رسائل مفتوحة من هناك كما يتحدث البعض أيضا عن الرسائل المفتوحة التي تكتب من قبل أناس بسطاء وتجلب إلى هنا، أملا في لقاء أحد المهمين الذين قد يزرون المقبرة فيوصلون أصواتهم لمن يهمهم الأمر. وفي نفس الإطار سبق أن بزغ نجم ضريح سيدي عبد الرحمان كمكان يقصده بعض المسؤولين والشخصيات السياسية لجلب البركة، وبعضهم لم يكن يمارس هذا الفعل خفية لكن أمام الكاميرات وعدسات المصورين. ويعتبر ذلك جزءا من الخط الافتتاحي للمرحلة من إمكانه أن يسجل هذا المسؤول في خانة الساعين للحفاظ على مرجعية البلد. في زيارة خاطفة لهذا الضريح أخبرنا القائم على الضريح، والذي بدا متحفظا جدا في حديثه معنا، أن كل الشرائح تقصد سيدي عبد الرحمان للزيارة والتبرك بما في ذلك بعض الإطارات والمسئولين، خاصة في المواعيد الدينية والوطنية. وقد رفض القائم على الضريح الحديث معنا في أي تفاصيل أخرى تخص الأسماء بالتحديد، غير تلك التي اعتدنا رؤيتها أمام كاميرات التلفزيون في بعض المناسبات. مطاعم ومقاهي.. أماكن لعقد التحالفات السياسية ليست المقابر والجنائز فقط هي التي صارت أماكن لصناعة السياسة، فقد برزت أيضا المطاعم والمقاهي في بعض الأحياء الهادئة مثل سيدي يحيى، قبل أن تنتقل أيضا إلى بن عكنون كأماكن لصناعة الرأي وعقد التحالفات السياسية. فالزهرة ظريف بيطاط، مثلا، سبق أن أكدت في إحدى تصريحاتها الإعلامية تعليقا عن المشاركة السياسية للمرأة، أن المرأة لا يمكنها أن تلعب دورا فاعلا في صناعة القرار طالما أن القرارات والنقاشات المهمة لا تحسم في المجالس، لكن تتواصل إلى خارج القاعات الرسمية.. ما يعني أن المقاهي والمطاعم أيضا صارت أكثر فاعلية من الأحزاب. إلى وقت قريب كان الكثير مما يكتب في صحافتنا تحت عبارة ”قالت مصادر عليمة وأكيدة ومطلعة ورسمية” ليست في حقيقية الأمر أكثر من بعض ثرثرة مقاهي ومطاعم سيدي يحيى وبن عكنون، حيث بزغ مؤخرا مثلا نجم مطعم صغير وهادئ جدا في بن عكنون يقدم وجبات إيطالية ويقع في مكان منزوي في بن عكنون، صارت تقصده الكثير من الأسماء الإعلامية والسياسية، لأن قريبا لشخصية مهمة جدا يقصده هو الآخر رفقة أصدقائه وصديقاته. وصار البعض يذهب فقط طمعا في لقاء هذا الاسم المهم والفوز بقربه، أوربما حتي يقال فلان أنه يرتاد نفس المكان الذي يرتاده ”السي فلان” الآخر، وهذا طبعا من شأنه أن يرفع أسهم هذه الأسماء في سوق التحالفات التي تشهدها دهاليز الأحزاب والمكاتب الرفيعة غداة كل موعد مهم!. لا يختلف حال مطعم بن عكنون هذا عن مطاعم ومقاهي سيدي يحيى وبعض مطاعم الدرارية للشواء، حيث يلتقي عادة بعض ”المهمين” لمناقشة التحالفات والقرارات التي تفرضها الساحة السياسية، وكثيرا ما وصل إلى تلك المطاعم خبر تعيين الوزراء والمسؤولين حتى قبل أن يسمع بها أصحابها، أو قبل أن تنزل بيانات رئاسة الجمهورية في قاعات التحرير، حتى أن مقاهي سيدي يحيى تنصب فيها حكومة في الصباح وتقال في المساء، خاصة في المواعيد التي يكثر فيها الحديث عن تعديل حكومي والإشاعات التي تروج في هذه الأجواء ما تلبث عن تنتقل إلى واجهات الجرائد التي تعكس التخبط وعدم وضوح الرؤية التي يعيشها الشارع السياسي..الذي نقل مركز قراراته من دهاليز الأحزاب والمؤسسات الدستورية إلى طاولات المقاهي وأحجار المقابر!. حتى المتسولون الذين يقفون كل يوم جمعة على أبوابها صاروا يتكاثرون لأن نوعية الزوار أيضا صارت رفيعة، حيث تصطف السيارات الجديدة عند باب المقبرة كل يوم جمعة.