ها هو يرحل آخر عمالقة الطرب العربي، وديع الصافي، وإن كانت ما تزال بعض بلابل الفن العربي الأصيل أمثال؛ صباح فخري، فيروز وكاظم الساهر تغرد على أدواح الموصلي وزرياب، وتستحضر روائع الأصوات التي شكلت معها جوقة الفن الخالد أمثال؛ ناظم الغزالي، أم كلثوم، فريد الأطرش، محمد عبد الوهاب، نجاة الصغيرة، وردة الجزائرية، أحمد وهبي وغيرهم ممن جمعوا بين الوتر الناغم والصوت الناعم، وتركوا بصمات لا يمكن أن تمحى مع تقادم الزمن. وديع الصافي، وهو وديع فرنسيس، ولد في 01 نوفمبر 1921 في قرية نيحا الشوف، وهو الرقم الثاني في ترتيب العائلة المكونة من ثمانية أولاد لبشارة يوسف جبرائيل فرنسيس، رقيب في الدرك اللبناني. لم تكن عائلة وديع الصافي بالعائلة الميسورة، لهذا كانت طفولته بسيطة يغلب عليها طابع الفقر، مما دفعها سنة 1930 للنزوح إلى بيروت، وفيها دخل وديع مدرسة دير المخلص الكاثوليكية، فكان المنشد الأول فيها، ونظرا لتعلقه بالموسيقى توقف عن الدراسة بعد ثلاث سنوات، لمساعدة والده في إعالة العائلة كثيرة الأفراد. كان وديع الصافي منذ طفولته ذا صوت قوي، مذهل وماسي، وهو مالمسه خاله نمر العجيل فيه، إذ كان يجول به في أحياء بلدة نيحا، وعندما يسمع صياح الديك كان وديع يقلده ويصيح مثله ببراعة، فيعجب به خاله ويصيح “ميش معقول ولد بها العمر بيملك ها الصوت” جملة ذاتها رددها محمد عبد الوهاب عندما سمعه يغني في أوائل الخمسينات من القرن الماضي” ولو “فشكلت هذه الأغنية الانطلاقة في مسيرته الفنية التي تصدر من خلالها عرش الغناء العربي، ليلقب بصاحب الحنجرة الذهبية ومبتكر “المدرسة الصافية”، وأصبح في صدارة الطرب العربي من خلال تسجيله للأغاني والأفلام، كما توج “ملك الغناء”. في بيروت بدأ وديع الصافي طريقه إلى الغناء، وصدفة من خلال قصاصة يحملها شقيقه توفيق فيها إعلان لمسابقة غنائية تنظمها إذاعة لبنان وإذاعة الشرق الأدنى، حيث شارك في المسابقة وتحصل على الجائزة الأولى من بين أربعين متسابقا، إذ أعجبت لجنة التحكيم التي كان يترأسها أميل الخياط وطلبت منه رسميا الانتساب إلى الإذاعة وأطلقت عليه اسم وديع الصافي بدل وديع فرنسيس نظرا لصفاء صوته، فغنى للشاعر أسعد السبعلي أغانيه التي كانت جسرا للعبور به إلى خارج لبنان، منها “طل الصباح” و«تكتك العصفور” سنة 1940. قام وديع الصافي في بداية مشواره الفني أثناء الحرب العالمية الثانية بجولة فنية في دول أمريكا اللاتينية واستقر في البرازيل، ثم عاد إلى لبنان ليكتشف أن الأغنية اللبنانية مازالت في بدايتها لتنتشر في العالم العربي، وعندما عرف بالنجاح الكبير الذي حققته أغنية فريد الأطرش “ياعوزل فلفلو”، خرج وديع بأغنية من نوعها “عللوما”، فذاع صيته بسبب هذه الأغنية التي صارت تتردد عل كل لسان. في الستينات، انتقل وديع الصافي إلى مصر وتعرف فيها على ملحنين وممثلين مصريين، حيث مكث بها سنة، ثم عاد إلى لبنان. وكان أول لقاء له مع محمد عبد الوهاب سنة 1944، وعمل على تطوير الأغنية اللبنانية انطلاقا من أصولها الفلكلورية، تم تكريمه بالمعهد العربي في باريس بمناسبة “البوبيل الذهبي”، كما شارك في أكثر من فيلم سينمائي منها «الخمسة الجنية”، “غزل البنات”، “موال” و«نار الشوق”، وغنى للعديد من الشعراء والملحنين، أشهرهم الأخوان الرحباني، زكي نصيف، فيلمون وهبي، عفيف رضوان، محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، كان يلحن أغانيه بنفسه، وتم تكريمه في أكثر من بلد بأكثر من وسام، منها خمسة لبنانية، كما منح وسام “الأرز” برتبة “فارس” منحته جامعة الروح القدس في المكسيك الدكتوراة الفخرية عام 1991، كما قام بإحياء الحفلات في شتى البلدان العربية، منها الجزائر التي زارها في منتصف ثمانينات القرن الماضي وغنى فيها أغنيته المشهورة “ الليل يا ليلى يعاتبني ويقول لي سلم على ليلى”، وقد أعجب بالرطب(التمر) الجزائري، خاصة “دقلة نور”، عندما زارها وأكل منها رغم منعه من قبل الطبيب بسبب السكري، إلا أنه قال لابنه عندما نهاه عن الأكل؛ “دعني أأكل ثم أموت”، كما كان يضحك كثيرا من اسم الأكلة الجزائرية “الشخشوخة” لأنها عندهم في لبنان تعني اسما لايطلق على الأكل. صمتت أوتار عود وديع الصافي أول أمس الجمعة عن عمر يناهز 92 سنة، وتقام له اليوم مراسم دفن في كنيسة “مار جرجس” وسط بيروت. ووديع الصافي الصوت العذب الأصيل الذي أطرب المطربين وزرع الفرح في قلوب الملايين من العرب في زمن الدخان، البكاء، الحزن والرعب، وبهذا يعد وديع من آخر عمالقة الطرب العربي الذين ملئوا الأصقاع والأسماع.