لطف الله في ألم المصيبة يقول ابن عطاء الله السكندري:”لا يؤلمك المنع لعدم فهمك عن الله فيه” هذه الحكمة تتمة للتي قبلها، وقد عرفت من قبل معنى كلمة العطاء والمنع. وليس المراد بالألم هنا الألم الجسمي مما قد يصيبه من الأوجاع والأسقام، وإنما المراد به الألم النفسي، إذ الجسم يتألم مما من شأنه أن يبعث ألماً فيه،سواء فهم صاحبه الحكمة من المنع أو لم يفهم، وسواء فهم عن الله أو لم يفهم. ولكن علمت في شرحنا للحكمة السابقة أن ألطاف الله لا تنقطع عن عباده لا في حالة السراء ولا الضراء. إن ابن عطاء يضيف هنا فيقول: ونظراً إلى أنك لا تتبين هذه الألطاف في حالة الضراء، أي لدى نزول المصائب، فإنها تؤلمك وتضيق ذرعاً بها، ولو تبينتها وفهمت أسبابها وآثارها لما تألمت نفسك منها وإن نال منك الوجع الجسمي بسببها. ومما يتمم فهمنا عن الله أمر المصائب والابتلاءات التي يعبر عنها ابن عطاء الله في بالمنع. - أولاً: متى تتجلى قيمة النعم التي يكرم الله بها عباده،من عافية ورزق وأمن وسكن ورغد عيش؟ إنما تتجلى قيمتها للإنسان بظهور نقائصها وآثار حرمان أصحابها منها، ولو أن نعمة دامت دون انقطاع لذابت قيمتها شيئاً فشيئاً في نفوس الذين يتمتعون بها، إذ أن قيمة الشيء، أي شيء، لا تبدو إلا لدى مقارنة وجوده بفقده، فذاك هو الذي يحدد قيمته ويبرز أهميته. إذ يجب أن يوضع الناس من النعم التي يتمتعون بها أمام نقائصها، كي لا يغفلوا عن قيمتها فيعرفوا فضل الله عليهم في إكرامه لهم بها. وإنما يتم ذلك بأن يسلب عنهم هذه النعم بين الحين والآخر، ريثما يستيقظون من غفلة النسيان لها ويتلهفون للبحث عنها. فهل أنت في شك أن هذا منهج تربوي يفيض باللطف الإلهي بالعبد، ويحميه من جريرة الاستهتار والطغيان؟ - ثانيا: علمت مما ذكرته لك في شرح حكة سلفت أن الله عز وجل قضى أن تكون حياتنا الدنيا هذه ممراً إلى مقر، وأن لا يستقر للإنسان أياً كان عيش فيها، وأن تكون الدار الآخرة هي المقر الذي لا تحوّل عنه.. تُرى كيف تكون حالك لو فاجأك داعي الرحيل عن الدنيا إلى المقر الذي ينتظرك، وأنت تتقلب منها في ألوان من النعم والمتع الصافية عن الآلام والشوائب، ما جعلك من طول التنعم بها تتعشقها ولا تملك فطاماً عنها؟ إن مما لا ريب فيه أن هذه الابتلاءات الجزئية التي يعوّدك الله عليها متفرقة، آتية وذاهبة، خلال أيام حياتك، كي لا تأسى على الدنيا وأيامك فيها إذا حانت ساعة رحيلك عنها، أقل قساوة من الآلام التي ستأخذ بمجامع نفسك وتسيطر على كل كيانك. - ثالثا: لقد علمت أن هوية الإنسان أياً كان تتلخص في كونه عبدًا لله عز وجل. وما لا ريب فيه أن من خُلق عبدًا لله عز وجل في واقعه وكينونته الاضطرارية، يجبُ أن يُمارس عبوديته لله في سلوكه الاختياري، وإنما هي الحكمة من خلق الله للإنسان، وصدق الله القائل:{وما خلقت الجنَّ والإِنْس إلاّ ليعْبدُون}. (الذاريات) ولا تتجلى عبودية الإنسان لله في شيء أجلى من افتقاره إليه، فهو مادة عبوديته السلوكية لله وأساس تبتله وتذللِه بين يديه. ولا شك أن الإنسان فقير إلى الله في كل أحواله، سواء أقبلت النعم إليه أم أدبر أم أدبرت عنه، إذ أنه لا يملك من أمر نفسه شيئا. وصدق الله القائل:{ياأيُّها النّاس أنتُمُ الفُقَراءُ إلى اللَّهِ والله هُوَ الغَنيُّ الحَمِيدُ}. (فاطر) ولكن هيهات أن يشعر بشيء من فقره فضلا عن أن تسوقه مشاعر الفقر إلى الاستجداء من الله ومد يد الحاجة والافتقار إليه، مَن كانت حياته كلها فياضة بالنعم والرغائب التامة ورغد العيش. إذ الشعور بالفقر أو الحاجة لا يأتي بالافتراض وعن طريق التخيل والوهم، وإنما يأتي مع ظهور الحاجة فعلا، ولا تظهر الحاجة أو الافتقار إلا عند وقوع الخطر ومداهمة الابتلاء. الأمر الذي يجعلك تقبل على الدعاء ،قال تعالى:{وقال ربُّكم ادعونِي اسْتجِبْ لكُمْ}، ما يعني أن الدعاء هو العبادة كما قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم. أخي لا تكن كالقزم الذي نسي حجمه فأصرَّ على أن يرتدي ثياب المردة الطوال، ودع الاستكبار عن عبوديته لأنها محض منفعة لك فهو الغني الذي لا يحتاج إلى شيء.. المرحوم الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي (بتصرف)