يقول ابن عطاء الله السكندري: ”لا تستغرب وقوع الأكدار، ما دُمت في هذه الدار،فإنَّها ما أبرزت إلاَّ ما هو مستحَقُ وصفِها وواجبُ نَعْتِها”. هذه الحكمة تقرر واقعًا مشاهدًا، توالت على تأكيدِه الأَجيال، وعبَّر عنه الحُكَماء والشعراء، إذن فليس هناك ما يدعو إلى حَشْدِ البراهين على هذا الذي يُقرره ابن عطاء الله. ولكن لماذا قضى الله أن تكون دارنا الدنيوية مَشُوبَة بالأكدار، وأن يكون نعيمها ممزوجًا بالغُصَص، وأن تكون ليالي السُّرور فيها مُهددة بالمصائب التي قد تكمن ورائها؟ والجواب أنَّ لله تعالى في ذلك حكمة باهرة تتجلى في حقيقتين اثنين: 1 - الحقيقة الأولى:أن الله جعل من هذه الدنيا دار تكليف، بل جعل منها قاعة امتحان إن جاز التعبير، وذلك بأن يُمارس الإنسان عبوديته لله عز وجل بالسلوك الإختياري، كما قد خُلِق عبدًا له بالواقع الاضطراري.. فإذا فرضنا أنَّ الحياة التي أقام الله فيها الإنسان ليس فيها إلا النَّعيم الصافي من الأَكْدَار، إذن فمن خلال أي سلوك أو من خلال أي استجابة لأوامر الله تتجلى عبودية الإنسان هذه، أي عبوديته لله بسلوكه الاختياري؟! ممارسة العبودية ثمرة للتكليف، والتكليفُ لا يسمى تكليفًا إلا إن كان مُلاحقةً للمُكَلَّفِ بما فيه كُلْفةٌ أي مشقة. عندما يرى الإنسان نفسه مُعَافَى في بدنه لا يَتهدده مرض، مُسْتقراً في عهد شبابه لا يُعاني من نذير كهولة ولا مَشِيب، قد حماه الله أفواه الشَّامِتين والسّاخِرين ومن أيدي الظالمين وفجور الطاغين، غارقا في بحر من النعيم وأسبابه فلا يهدده فقر ولا تدنو إليه فَاقَة ولا عَوز.. ثم تأتي التكاليف الإلهية مُتَساوِقَةً ومُسَايِرة لرغائبه و أحلامه، فكيف يُسمَى ذلك تكليفا والكُلفة لم توجد، بل كيف يسمى ذلك ممارسة للعبودية وسط مناخ لا مُوجِب فيه للتذلل ولا انكسار، لا افتقار فيه لحاجة أو التجاء؟. ولقد مر معنا أن الدعاء هو العبادة، كما عَلِمت أيضا أن الدعاء ثمرة الحاجة والفاقة والخوف من الآلام والمصائب. فمن المعلوم أن لُحْمة التكاليف الإلهية هما الصبر والشكر فمن خلالهما تستبين العبودية الطّوعِية لله عز وجل. قال تعالى:{لَتُبلَوُنَّ في أموالكُم وأنفسكُم ولَتَسمَعُنَّ مِن الذين أّتُوا الكتاب من قبلِكُم ومن الذين أشرَكُوا أذىً كَثِيراً وإن تصبِرُا وتَتّقوا فإنَّ ذّلَكَ مِن عَزْم الأُمورج. (آل عمران). وقال أيضا:وجَعَلنا بعَضُكُم لبَعضٍ فتنةً أَتصبرِون وكانَ ربُكَ بصيرًا. (الفرقان). وفتنة الناس لبعضهم البعض تتمثل في الخصومات والأذى الذي يَنالُ بعضهم من بعض.. وقال: ونَبْلُوكُمْ بالشِّرِّ والخير فِتنةً وإلينا تُرْجعُونَ. (الأنبياء). 2 - الحقيقة الثانية: أن الشأن في الحياة الدنيا إذن، أن تكون مَحدُودة بميقات معين، هو مِيقاَت الامتحان الذي قضى به الله عز وجل لعباده فيها. فالموت هو عاقبة كل حي في هذه الحياة الدنيا، وقد علمت أن الموت ليس عَدَمًا كما يتوهم بعضهم، وإنّما هو انتقال من حياة إلى حياة أخرى. أَفَتَرى أنه من الحِّكمة أن يجعل الله من هذه الحياة الدنيا التي هي مِيقاتُ الامتحان، صافيةً عن الشوائب والكَدُورات؟.. كل شيء في كيانك سيكون متعلقا بالحياة التي عشقتها وبالدنيا التي استهوتك الإقامة الدائمة فيها، ولن يكون لديك أي استعداد لفراقها!.. فكان من عظيم لطف الله بعباده أن جعل نعيم الناس في دنياهم بمقدار احتياجهم إليه على طريق تحقيق المهام التي كُلَّفوا بها، فسخَّر لهم ما يُمَكَّنُهم من إنجاز الوظيفة التي أقامهم عليها. ومن هذا المنطلق بإمكانك التمييز بين أسلوب المؤمن والكافر في التعامل معها. فالمؤمن يبتلى بالنعمة فيشكر ولا يطغى، ويُبتلى بالمصيبة فيصبر ويحتسب الأجر من الله فلا يضجر منها. وهو في كلا الحالتين يمارس عبوديته لله تعالى بصدق. فلا يُخدع بالنَّعم ولا يجزع من المصائب ويشقى بسببها،لأنه يعلم أنها ابتلاءات يُمتحن بها، قال تعالى:{قُل متاعُ الدُّنيا قليلٌ والآخِرَةُ خيْرٌ لِمَن اتَّقَى ولا تُظْلَمُونَ فَتِيلا. النساء. أما الكافر وبعبارة أشمل: غير المؤمن فهو إنسان وفد إلى هذه الدنيا وتعرَّف إليها من خلال غرائزه ومُشْتهياته، فهو يريدها كما يهوى ويتمنى، ويصرّ إِصراره على أن يكافح ويناضل ليُخضِعها لما يشتهي ويريد، فهي حظه الأوحد.. لكنه سيفاجأ بأن هذه الدنيا ما كانت ولن تكون كما يريد،بل لابدّ أن يكون هو- شاء أم أبى- كما تريد!.. فما يكاد يفرح بساعات من لهوه الذي يطوف به، حتى تغيب عنه، وتتحول الدنيا من حوله إلى نقيض هذا الذي كان يمرح فيه.. المرحوم الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي (بتصرف)