المدارس الحرة كانت مختلطة والعربي التبسي شجعنا على تعلم اللغات المجاهدة صفية بالماضي الملقبة بصفية بالمهدي من مواليد 5 أفريل 1931، من الرعيل الأول لمجاهدات حرب التحرير، ابنة المدارس الحرة بالعاصمة، تعرضت للتعذيب في سجون الاستعمار وهي شابة في أول الطريق، حيث أجبرت على تناول الملح بالفلفل الأسود حتى انفجرت شرايين قلبها، أجرت أكثر من عملية جراحية لكن أقدار الله جعلتها تشهد الاستقلال وتساهم في مسار عدة أحداث، خاصة ما تعلق بالاتحاد النسائي الذي كانت أمينته المكلفة بالتنظيم في 1966، ثم انتخبت أمينة عامة في 1969 حتى 1974. ورغم تحفظها إزاء الظهور الإعلامي تستعيد في هذا اللقاء مع ”الفجر” جزءا من ذكرياتها في حرب التحرير ومع أولى سنوات الاستقلال في النضال النسوية رفقة الرعيل الأول من المناضلات، أمثال مامية شنتوف، نفسية حمود فاطمة زكال، زليخة بالقدور وغيرهن. بداية كيف تعرضت للتوقيف من طرف سلطات الاستعمار؟ تم توقيفي في فبراير 1958 بعد إضراب الثمانية أيام في منتصف الليل بعد أن ”وقعت بيعة” لأنني كنت مكلفة بضمان ربط الاتصال بين مجموعة الفدائيين في ”صالومبي” عن طريق مسؤولي المباشر إبراهيم فردي في بلوزداد، و هو الذي كان مدير مدرسة الصديقية، ومحمد سيواني وأخوه الهاشمي، وكان مقررا أن يلتحقوا بالثوار في الجبال ذاك اليوم على الخامسة صباحا في سيارة من نوع سيترويان، وكنت قد ذهبت صباح ذلك اليوم إلى منزل محمد سيواني من أجل جلب ملابس أخيه الهاشمي. محمد تعرض لأبشع أنواع التعذيب لدرجة لم أتعرف عليه عندما رأيته، ساقاه كانت مثقوبة بالكامل، وأنا تم توقيفي رفقة باية سلاماني. وقد جاءت العساكر في تلك الليلة بعربات مدججة بالجنود المسلحين من أجل توقيف فتاتين.. باية سلاماني عذبت بحزام الكهرباء في رأسها مازالت آثاره ماثلة إلى اليوم، وأنا تم إجباري على أكل الملح بالفلفل الأسود حتى انفجرت رئتاي وأجريت أكثر من عملية على القلب. وكنت قبلها أعاني من مرض القلب وتعرضت لسلسة من الأزمات القلبية التي استدعت نقلي إلى المستشفى، وبسببها أطلق سراحي لاحقا. بينما بقيت باية سلاماني في السجن لعامين آخرين. وتعرضت أيضا للتوقيف بعد مظاهرات 11 ديسمبر بالعاصمة، فقد تم توقيف العديد من الأشخاص لكن الذين طلبوا العفو تم إطلاق سراحهم، وأنا هربت إلى منزل صديقتي، وكان الجنود كل يوم يأتون إلى بيتنا بحثا عني، وفي المرة الأخيرة هددوا والدي إذا لم يرافقني إلى مقر الشرطة فسيأخذونه مكاني، وهكذا ذهبت رفقة والدي إلى مقر الدرك حيث وجدت صورتي فوق مكتب الضابط وأنا فوق عربة النقل حاملة العلم الجزائري، وقد سجل اسمي فوق الصورة. خاطبني الجندي الفرنسي من هذه؟ قلت لقد وضعتم اسمي فوق الصورة، قال مشيرا إلى العلم: ما هذا، قلت إنه علم جبهة التحرير، فاستشاط الجندي غضبا وقال لوالدي بإمكانك المغادرة، رأيت والدي يغادر منكسرا نظراته ثابتة لكنه لم يطلب مني طلب العفو أبدا. من بعيد رأيت والدتي بالحايك وهي تروح وتجيئ. في تلك الليلة بت في مقر الدرك ثم أخذوني معصوبة العينين إلى فيلا لا أذكر مكانها لكن أعتقد أنها كانت في حيدرة، وهناك أُعيد استجوابي وأصررت على أقوالي ثم وضعوني في قبو، لم يعذبوني لكن كنت معزولة، لاحقا جاءني شخص كان يتعاون مع الادارة الفرنسية اسمه محمد، جاءني ببعض الأغراض التي أرسلتها والدتي ونصحني بتغيير أقوالي وسيتم الافراج عني، وكان قد وعد الادارة الفرنسية بذلك لكن في صباح اليوم التالي أعيد تسجيل المحضر وثبت أنا على أقوالي، فتم عقابي بغسل ملابس الجنود الفرنسيين وتمت إعادتي إلى الحبس. لاحقا تم نقلي إلى سجن بني مسوس، وفي الطريق فكرت أن أقفز من عربة الجنود، لكن أدركت أن ذلك لن يجدي نفعا وقد أتعرض لأذى دون فائدة فقط. هل تذكرين شيئا من أول اجتماع عقدته النساء الجزائريات في 1947 بالعاصمة؟ كنت حينها لا أتجاوز 15 سنة، وأذكر أننا كنا نرافق مامية شنتوف ونفيسة قايد حمود وأخريات. كانت مامية شنتوف تقول لي يجب أن ترافقي الجمعيات حتى تتعرفي على النضال، كانت أول مرة أتعرف فيها على نفيسة حمود، كانت سيدة رائعة الجمال وذات شخصية قوية جدا وحضور طاغي، قبل هذا الاجتماع كان اجتماع آخر عقد في فرنسا مع بعض النساء الفرنسيات، لكنه فشل لأن الجزائريات رفضن الانضواء تحت اسم اتحاد النساء الفرنسيات، فكان اجتماع 1947 أول لقاء للنساء الجزائريات الذي سطر أرضية للنضال النسوي الجزائري أثناء وبعد الثورة، ورغم تباين التكوين والخط الأيديولوجي بين نفيسة حمود ومامية شنتوف لكنهن بقيا وفيات لبعضهن وللنضال من أجل الوطن. كيف تشكل الاتحاد النسائي الجزائري، وكيف تم الاحتفال بأول 8 مارس؟ قبل تشكل أول اتحاد نسائي، أرسل بعض الإخوة المناضلون بوعلام أوصديق ويحيى بريكي ومحند أوكيد وعلي لونيسي، في طلب للمجاهدات، خاصة بنات بلكور بشارع كويري وصالومبي، رسالة مع عبد القادر طلبا للقاء في بلكور أياما قبل الإعلان عن الاستقلال، حيث تشكلت أول نواة للاتحاد النسائي الجزائري في ماي 1962، وضمت النواة أسماء نسائية معروفة في النضال والجهاد، أمثال زهور زيراري ولويزات اغيل أحريز و زهور بعزيز، فاطمة زكال، شامة بوفجي، والممرضة سكينة آيت سعادة. وهكذا كان ميلاد أول اتحاد نسائي جزائري على أبواب الاستقلال، حيث دخلت النساء مباشرة من النضال والجهاد في الجبال إلى نضال من نوع آخر.. نضال من أجل انتزاع حقوق النساء في التعليم، خاصة في الأرياف والمدن الداخلية، حيث وجدنا أن البنات لا يذهبن إلى المدارس، كما رافعنا لحقوق النساء السياسية والاجتماعية وعلى رأسها الحق في العمل، وقد خضنا من أجل ذلك معارك عدة مثل معركة قانون الأسرة، لأننا كنا نؤمن أن البلاد التي حاربت من أجلها النساء والرجال تبنيها أيضا النساء والرجال. لهذا فأول احتفال بثامن مارس في الجزائر كان في 8 مارس 1965، حيث تطوعت فيه نساء الجزائر لتنظيف شوارع العاصمة من الزبالة بعد انسحاب الموظفين الفرنسيين. يومها خرجت المجاهدات والمناضلات والمسبلات والمعلمات الشابات والعجائز، ولم يتخلف أحد يومها عن شن أكبر حملة في تنظيف شوارع العاصمة، بداية من بلكور إلى ساحة الشهداء، وجهوا نداء لسكان العاصمة.. كل من كان يملك سيارة أو شاحنة أوعربة للنقل سخرها في ذاك اليوم لحملة التنظيف، الحملة بدأت من مقر دار الشعب ”الاتحاد العام للعمال حاليا” يومين قبل الثامن مارس، حيث لبست النساء المآزر البيضاء وشمرن على سواعدهن في الطواف بالمكانس ودلاء الماء على شوارع العاصمة، حيث تم يومها دمج وفود الاتحاد النسائي مع اتحاد العمال، وصبيحة يوم الثامن مارس 1965 قطعنا المسافة بين دار الشعب وقاعة الماجستيك ”الأطلس حاليا” مشيا على الأقدام، وقبلها قمنا بتدشين أول روضة للأطفال قرب دار الشعب ما زالت إلى اليوم، حيث قامت فاطمة زكال بإزالة الستارة عن اللوحة التي تحمل اسم أصغر شهيدة قتلت في مظاهرات 11 ديسمبر، صليحة فرحات. بعدها انطلق الوفد مشيا على الأقدام إلى قاعة الماجستيك، باستثنائي أنا التي ذهبت راكبة لأنني كنت قد أجريت عملية جراحية حديثة. وبعد إصرار الأخوات على ذلك إصرارا كبيرا، وقد رافقتني يومها زهية تغليت، وضم الوفد أسماء مثل زهية تغليت، وحسيبة تغليت، عضو المنظمة السرية، وزليخة بلقدور أول سكرتيرة للاتحاد، وفاطمة زكال. وقد تقرر أن يمنح لي شرف إلقاء أول كلمة باسم الاتحاد النسائي واتحاد العمال، وهذا باقتراح من فاطمة زكال التي سبق أن اشتغلتُ معها كمترجمة خلال ملتقى في دار المعلمين لبوزريعة ”ليكول نورمال”، لا أذكر كل تفاصيل الكلمة لكن في مجملها كانت عن فرحة الاستقلال ودور النساء في معركة بناء البلد. وللتاريخ فإن صاحبة فكرة الاحتفال بالثامن مارس كانت المجاهدة وطبيبة الثورة نفيسة قايد حمود، المعروفة بنفيسة لليام زوجة الطبيب لليام، الذي كان في الولاية الثالثة، والتي مثلت الجزائر في احتفال بالثامن مارس في ألمانيا، وبقيت في رأسها تجسيد الفكرة في الجزائر، وكانت هي أول رئيسة للاتحاد بعد إنشائه. كيف استقبل مجتمع حديث العهد بالاستقلال وجود نساء يطالبن بحقهن في العمل والاختلاط بالفضاء العام؟ لم يكن الأمر سهلا، لكن إرادة النساء كانت أقوى لأنهن في الحقيقية كن عفويات ويعتقدن أن وجودهن يعني الاستمرار في أدوارهن التي بدأت في الجبال وميادين النضال والقتال ضد الاستعمار، فقاعة الأطلس التي كانت تتسع ل3500 ولم تجد أزيد من 5 آلاف امرأة، سوى اقتحام النوافذ للظفر بأماكن. أذكر مثلا أن إحداهن كانت على وشك الوضع لكن لم يمنعها هذا من الحضور ونقلت مباشرة إلى المستشفى من طرف زهور زيراري وحسبية تغليت، حيث استقبلتها جانين بلخوجة، طبيبة الثورة التي كانت يومها تشتغل في عيادة باب الوادي. في صباح اليوم التالي كتبت الصحف عن الحدث، حيث شنت هجوما على النساء وذهب البعض لإطلاق الإشاعات كون كل النساء اللواتي ذهبن إلى ”الماجستيك” طلقهن أزواجهن، وطبعا هذا لم يحدث بل كانت مجرد إشاعة. أغلب المجاهدات والمناضلات مثقفات ومتعلمات باللغتين، ما يعني أن الآباء يومها كانوا متفتحين بما يكفي للسماح لفتاة بارتياد المدارس؟ درست في البيت على يد صديق لأبي ثم المدرسة الفرنسية إلى الشهادة الابتدائية ”السيزيام”، ثم دخلت المدرسة الحرة في المدنية في سنة 1943. بعد الاستقلال واصلت تعلمي في الجامعة الليلية من السادسة مساء إلى التاسعة ليلا، وقد بقيت في الجامعة من 1964 إلى غاية 1966. نعم كان الآباء لا يشجعون فقط تعليم البنات بل كانوا يساهمون في مصاريف المدارس الحرة، أنا مثلا وأخوات بنات المدارس الحرة التي أسستها جمعية العلماء المسلمين في مختلف ربوع الوطن، أنا درست في صالومبي وكان والدي كغيره يدفع اشتراكاته لتسيير المدارس، بل ويتكفل كغيره أيضا بمصاريف بعض أبناء الفقراء في هذه المدارس وحتى مسجد مدرسة الصديقية بصالومبي، بنيت بسواعد سكان المنطقة، وأذكر أنني كنت طفلة أرافق بنات الحي ونساء يأخذن الأكل للرجال وهم منهمكون في عملهم. درست عند الأستاذ محمد الطاهر فضلاء، ولم يكن أبدا الاختلاط في الأقسام مشكلة. لا أذكر أن هناك من الشيوخ أوالأساتذة عارض رغم أن ابن الشيخ الإبراهيمي الدكتور أحمد طالب وقف لاحقا ضد فكرة الاختلاط في المدارس عندما كان وزيرا للتربية، فالبشير الإبراهيمي كان عندما يأتي ليخطب في الناس يخطب في الهواء الطلق، وكان يحدث أن يمر على بيتنا ويتفقد المدارس الحرة التي تشرف عليها الجمعية، ولم يسبق له أن عارض الاختلاط في الأقسام. وأذكر أن في عام 1945 جاء الشيخ العربي التبسي للمشاركة في احتفال أقامته المدرسة في قاعة الماجستيك، وأختي راضية شاركت في مسرحية بلال بن رباح، وكان أبي يقدمها للشيخ في نهاية الحفل وإذا بأستاذ يقول للشيخ التبسي يا شيخ هذا الرجل يشجع ابنته على تعلم الانجليزية، وفعلا كانت أختي تتابع دروسا في الانجليزية، فالتفت الشيخ التبسي إلى والدي وقال له لو استطعت أن تعلم ابنتك العبرية فافعل لأنه سيأتي يوما نحتاجها، لا تفرطوا في اللغات، وفعلا نحن أخرجنا فرنسا من الجزائر بلغتها.