نسيمة حبلال رفيقة أمحمد يزيد وعمارة رشيد والكاتبة الشخصية لعبان رمضان ترحل في بيت آيل إلى السقوط ليس فيه ما يحفظ للإنسان كرامته. أول مرة دخلت إلى بيتها صدمت، كيف يمكن لمن دخلت السجون وتعذبت وقدمت أفضل ما تملك من أجل استقلال بلادها أن تعيش في بيت كهذا؟ كانت يومها الحرارة قاتلة وخالتي نسيمة مستلقية في بيتها البسيط. كانت رفقة جارتها السيدة عمراني نورة التي تدعوها إبنتي، خالتي نسيمة تأثرت كثيرا برحيل وحيدها ”لم يكن لها ما يكفي للحب والإنجاب لقد كرست نفسها للوطن ”. منذ ذاك اللقاء الذي كان على هامش الاحتفال بنصف قرن من الإستقلال كنت التقيها في مناسبات متفرقة. أدمنت خالتي نسيمة النكتة والضحك ربما لتغطي على أوجاعها الداخلية وهي في هذه السن وكانت دائما تقول لنا عندما نسألها عن عمرها ”عندي 18 سنة”، كانت تقولها بلغة فرنسية تعيدنا إلى زمن كانت فيه للمدارس صرامتها وهيبتها أيضا وتضحك ونضحك معها. حافظت على صفاء ذهنها ودقت روايتها للأحداث رغم ثقل السنين وذاكرة التعذيب التي ما زالت ماثلة على أجزاء متفرقة من جسمها. كانت من بين القلائل والقليلين الذين رحلوا انقياء وأتقياء. وتكريما لذكرها نعيد نشر جزء من اللقاء الذي جمعنا بها. نسيمة حبلال، مجاهدة لم تعد تذكر متى دخلت دروب النضال... ”مبكرا تزوجت القضية الجزائرية حتى قبل أول نوفمبر 1954”، وحتى بعد الاستقلال انخرطت في معركة البناء، لكنها عاشت مهمشة في بيت آيل إلى السقوط ؛ تابع لمركز التكوين المهني ”كرار مولود” ببئر خادم. وهي في سن 84 تكفل بها جيرانها منذ 30 سنة، عاشت هذه المجاهدة في ظروف صعبة خاصة بعد وفاة ولدها الوحيد يوسف أمين، الذي كان كل زادها في الحياة. جارتها التي قامت على خدمتها أكدت لنا: ”إن وزارة المجاهدين أرسلت إحدى مندوبات الوزارة إلى البيت حيث صورت حالة البيت، لكن لم يتم اتخاذ أي خطوة بعدها. كما أن مديرة المعهد على علم بحالة المنزل المهدد بالسقوط في أية لحظة”. أزقة القصبة، مامية شنتوف وعبان رمضان في1947 لم تكن نسيمة حبلال قد تخطت عامها السادس عشر عندما حسمت في قرار دخول غمار النضال الوطني، كانت الحرب العالمية قد وضعت أوزارها والاستعمار الفرنسي تنصل من وعوده في تحقيق مطالب الجزائريين في الإستقلال وواجههم عوض ذلك بالرصاص. خالتي نسيمة كانت شاهدة على بعض تلك المجازر”أربع شباب تعفنت جثثهم حتى دون أن يكون لهم حق الدفن”. في خلية القصبة كانت رفقة مامية شنتوف وفاطمة زكار ومجموعة أخرى من الطالبات، كانوا مفعمين بالحس الوطني ويبيعون صحف حزب الشعب الجزائري ويجمعون التبرعات لصالح عائلات المناضلين من السجناء، حيث كانت مامية شنتوف وأخريات يتكفلن بتوزيع تلك التبرعات”. قادت مامية شنتوف، أول خلية نسوية تابعة لحزب الشعب الجزائري، عرفت بجمعية النساء المسلمات الجزائريات، كانت تقوم بالتحسيس في أوساط النساء والتجنيد في سبيل القضية الجزائرية ”فمصالي الحاج كان رمزا وطنيا كبيرا لجيلنا خرجنا لاستقباله عندما كان في طريقه إلى المنفى في كونغو برازافيل”، يومها كانت نسيمة حبلال تقيم رفقة أمها في غرفة بفيلا ”لقولوار”، قرب حديقة التجارب بالحامة، التي صارت فيما بعد مكانا لاستقبال المناضلين المتخفين من الملاحقات الإستعمارية، حيث استقبلت في بيتها عبان رمضان بعد خروجه من السجن وأمحمد يزيد وأمحمد بن مهل السكرتير الخاص لمصالي الحاج وغيرهم. كانت نسيمة حبلال السكرتيرة الشخصية لعبان رمضان، كما صارت السكرتيرة الخاصة بلجنة التنظيم والتنفيذ بعد مؤتمر الصومام، وقد ساعدها عملها في مكتب الحاكم العام على تأدية هذه المهمة واستثمار علاقاتها الكبيرة مع محيطها. ”كنت مكلفة بتمثيل الشباب الجزائري في مهرجان عالمي في بوخارست برومانيا وكنت يومها في مطعم رفقة أحد الأصدقاء فجاءني محمد سحنون وعرفني بعمارة رشيد وكان يومها طالبا في 19 سنة من عمره يزاول دراسته، فأخبرني عمارة رشيد أنه سيأتي لي بشخص عندما أعود إلى الجزائر؛ فجاءني بعبان رمضان الذي قضى في السجن 5 سنوات، وهكذا تعرفت عليه، كان شخصا موسوعي الثقافة، حازما، متخلقا ومتواضعا. كان جد مرتاح عندنا في البيت، لأن أمي كانت تتحدث القبائلية بطلاقة لأن أباها كان قاضيا في تيزي وزو. عرفت أن عبان رمضان كان شديد التعلق بأمه عندما خرج من السجن وذهب لزيارتها، قال لرفاقه: ”لا تخبروها أنني ابنها؛ بل قولوا لها إن أحدا ما جاء لزيارتها” لكنها بعد أن رأته شلت هكذا كانت يومها خالتي نسيمة تروي ذكرياتها بدقة وتفصيل وتسلسل مثل عقد دقيق. كانت السيدة حبلال، أول من اشتغل على إصدار العدد الأول من جريدة المجاهد ”ادعى بيار شولي أنه هو الذي أشرف على إصدار ”المجاهد” من تونس وهذا غير صحيح ؛ لأنني أنا من أشرفت على إصدار الأعداد الأولى التي جاءت في أكثر من 70 صفحة، كنا نجمع مادتها من المناضلين وكنت أقوم برقنها وتوضيبها رفقة حمود هاشم المعروف بالسي حسين، كانت الجريدة تعد بصفة سرية عند أحد المناضلين في رويسو، كان يملك مصنعا لتحميص القهوة”.. هذا المناضل منحهم الطابق العلوي ؛ حيث كانت نسيمة تشرف على رقن الجريدة والسي حمود هاشم يقوم بطبعها والمادة التي تصدر في الجريدة ترد من المناضلين من مختلف الجهات ونسيمة حبلال تتلقى التوجيهات من طرف عبان رمضان أو أمحمد يزيد. عملت السيدة حبلال مع عبان رمضان حيث كانت تعد له التقارير وترتب المواعيد، بحيث كان عبان ينظم مواعيده ويدير لقاءاته بصفة سرية من فيلا لقولوار؛ حيث كان يختبئ عند السيدة حبلال، هناك عقد اجتماعات لتنظيم أول منطقة حرة بالعاصمة، بمعية عمارة رشيد ومحمد لونيس ومصطفى صابر. والتحق بهم فيما بعد بن خدة ومحمد بن مقدم الذي صار فيما بعد زوجها والذي لم تتأخر السلطات الفرنسية في توقيفه بعد أن كان سيذهب إلى فرنسا لإعادة تنظيم فيدرالية فرنسا، كما كان عبان سيرسل عمارة رشيد إلى مصر في مهمة قبل أن يتم توقيفه. وكان عبان قد أرسل جواز سفر عمار رشيد لعنوان نسيمة حبلال وهكذا ألقي عليها القبض وحقق معها ضباط الجيش الفرنسي لمدة 3 أيام في مقر الشرطة لكنهم فشلوا في انتزاع أي معلومات منها، ليتم إقتيادها إلى سجن الحراش حيث قضت سنة واحدة ثم أعيد إطلاق سراحها. بعدها رفضت العودة إلى العمل في مكتب الحاكم العام بالجزائر، فقام عبان بإرسالها إلى الإتحاد العام للعمال الجزائريين أين عملت إلى جانب عيسات إدير، هناك كانت لها إتصالات كثيرة ونشاطات متنوعة لم تعد خالتي نسيمة تذكر تفاصيلها ”أذكر فقط أنني نجوت من الموت عدة مرات، مرة أنقذني عبان رمضان من إنفجار عندما بعث لي فاطمة زكال وقالت لي، عبان يقول لك ”أريد علبة ستانسيل” عندما خرجت انفجر المبنى ؛ فاطمة أخبرتني لاحقا أن الستانسيل كان مجرد عذر، عبان كان يعلم أن المبنى مهدد. تحدثت خالتي نسيمة عن حادثة إغتيال عبان رمضان فقالت: ”عندما قتل عبان رمضان، كنت في السجن لكن الذي أعرفه أن بوالصوف هو من أعطى الأمر بتصفيته، لأن عبان، كان يريد العودة إلى الجزائر، كان يقول ”لا يمكن أن نقوم بالثورة من الخارج”. الذين اهتموا بشؤونهم وليس بشؤون الثورة لم يكن هذا القرار يعنيهم كثيرا فقاموا بتصفيته. عندما ذهب إلى الإجتماع في المغرب، لم يراوده حتى في الخيال أن زملاء الثورة سيغدرون به، هناك من حذره ونصحه بعدم الذهاب لكنه رفض أن يصدق أن أصدقاء النضال سيغدرون به.. لقد شنقوه في النهاية”. السجون ورحلة العذاب الطويلة... بعد إطلاق سراحها، لم يعد في إمكانها إستقبال المناضلين في يبتها القديم، لذا تركت لها إحدى قريباتها بيتها في بلكور. كانت تستقبل فيه المناضلين لكن الإستعمار لم يتأخر كثيرا ليعيد إلقاء القبض على نسيمة حبلال في 21 فيفري 1957، حيث تم إقتيادها إلى مقر القبعات الزرق في حسين داي وفيلا سوزوني. وكانت جلسات التعذيب تدوم من الحادية عشرة ليلا إلى السادسة صباحا ”علقوني من قدمي ورأسي إلى الأرض ووضعت لي الكهرباء في أماكن حساسة من جسدي”، لكن المجاهدة نسيمة لم تقرّ ولو بكلمة حول عبان وفضلت أن تتحدث فقط عن علاقتها بعمارة رشيد الذي تعلم أنه كان قد إستشهد أشهرا قبل ذلك. بعدها بدأت رحلة السجون الطويلة حيث شلت يداها جراء التعذيب بالكهرباء وبقيت 3 أشهر في المستشفى. لم تكن خالتي نسيمة تذكر كم مرة سجنت، فقد تنقلت بين خمسة سجون بين الجزائروفرنسا. في السجن جمعها النضال مع الكثير من المناضلات والمناضلين أمثال فاطمة زكال، جميلة بوحيرد، فضيلة مسلي، مريم بلميهوب، باية الكحلة، محمد لونيس، عمارة رشيد، عبان رمضان، أمحمد يزيد حمود هاشم، بن خدة وغيرهم. بعد سجن ”بو” بفرنسا، انتقلت إلى ألمانيا ثم بلجيكا وسويسرا وإيطاليا. وبعدها دخلت إلى تونس، هناك إتصلت بمحمد يزيد وقالت له ”أريد العودة إلى الجزائر”، وعادت في نفس اليوم على متن طائرة توجهت بعدها إلى البليدة إلى بيت عائلة محمد مقدم الذي تزوجها ”أخذني إلى الحمام ومباشرة إلى دار القاضي. بقينا عشر سنوات مع بعض، لا أدري كيف مضت... عام واحد فقط عشناه مع بعض، محمد كان متزوجا بالثورة مثلي، كان يخرج من السجن ليعود إليه، لم يترك لي في الحياة غير ابني يوسف، فقدته هو الآخر. كان زوجي يوزع السكنات على الآخرين لكن لم يترك لنا بيتا يأوينا ؛ فعندما تزوجنا كنت انتقل بين البليدة والعاصمة لأشتغل”. هكذا قالت خالتي نسيمة وهي تروي ذكرياتها مع زوجها الذي كان ضابطا في الثورة. بعد الاستقلال عينت المجاهدة نسيمة كأول مديرة لمركز التكوين المهني ببئر خادم حيث أشرفت على تنظيم عدة مراكز في الأبيار وبوزريعة. قضت آخر أيامها رفقة جارتها نورة أو إبنتها كما تلقبها وهي تردد بعضا من الأناشيد التي كانوا يرددونها في زمن الثورة ”الجزائر أرض أبية وما كانت يوما سوى عربية يا العدو اللعين رغم المدافع والطائرات فلتحيا الجزائر وأرض الجزائر بنو الثائرين على الغاصبين في آخر أيامها لم تكن خالتي نسيمة تنتظر شيئا كانت كل عام تأتيها دعوة لحضور احتفالات أول نوفمبر يحضرها سائق في سيارة رسمية ما يلب ثان يغادر. خالتي نسيمة بعد فقدان ابنها قالت لنا يومها لا تنتظر أكثر من حجة أو عمرة قبل أن تنام بسلام بجوار إابنها، لكن أموال الحج والعمرة والتوبة المجانية التي وزعت على كثير من الفنانين والمثقفين والأسماء لم تكن من نصيبها، رحلت وهي تحلم بلحظة لقاء إبنها وقبر رسول الله (ص) فتحققت لها الأولى دون الثانية.