لقرونٍ تعايشت في العراق كل الأديان والطوائف والمذاهب والأعراق والقبائل، وكان حكّامها المستبدون عادلين في شيءٍ واحدٍ، هو توزيع الظلم بالتساوي على الجميع، وآخرهم صدّام حسين، ومن ثم دخل العراق في دوّامة الطائفية التي تزيد ولا تنقص. بعد 2003 اتضح لاحقًا أن دخول الولاياتالمتحدة للعراق كان تقديم العراق على طبقٍ من ذهبٍ للجمهورية الإسلامية في إيران كما صرّح الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي. (توثيق تصريح الفيصل). بعد الأحداث الأخيرة في العراق وسقوط مدينة الموصل ومحافظة نينوى وغيرها من المحافظات على يد مجموعاتٍ مسلحة فيها بعض بقايا العسكريين من حزب البعث والحراك القبلي السني المستمر منذ عدة سنوات و{تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام} المعروفة بداعش، أصدر مجلس الوزراء السعودي بيانًا جاء فيه أن الأحداث الأخيرة في العراق ”لم تكن لتقوم لولا السياسات الطائفية والإقصائية التي مورست في العراق خلال الأعوام الماضية التي هددت أمنه واستقراره وسيادته”، والإشارة واضحة لحكم المالكي الطائفي الممتد لثماني سنواتٍ، وقد قام رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي المنتهية ولايته بالهجوم على المملكة العربية السعودية واتهامها بأنها وراء الصراع الطائفي بالعراق، وقد ردّ عليه سعود الفيصل من جدة أثناء انعقاد اجتماعات وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي بالقول إن ”سياسات المالكي الطائفية هي سبب تدهور الوضع في العراق، إذ تعاملت حكومته بشكل سيئ مع بعض المناطق، واحتفاظ المالكي بكافة المناصب قوض قدرة الجيش العراقي”. وهو أكد أن اتهام المالكي للسعودية بدعم الإرهاب ”مدعاة للسخرية”. دول الطوائف في العراق ثلاثٌ، الأم هي دولة إيران وابنتاها هما ”دولة القانون” برئاسة نوري المالكي و”الدولة الإسلامية في العراق والشام” المعروفة بداعش، وقد حكم المالكي العراق بطريقة طائفية صارخة في السياسات العامة كما مؤسسات الدولة، كما في التعامل مع الشعب العراقي، وهو أبان عن طائفيته بتصريحاتٍ مباشرة منه صبّت زيت الطائفية على نار الاضطراب والفوضى حتى انفجر المكوّن السني بأجمعه في وجهه بالتدريج من احتجاجاتٍ سلمية إلى قتالٍ مسلحٍ. أما تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) فهو تنظيمٌ تمّ خلقه على يد الدولة الإسلامية في إيران منذ بداياته المبكرة في العراق كتنظيم ل”القاعدة” وصولا لتحوله لشكله الجديد، وقد استخدمته إيران ببراعة في تفكيك المعارضة المسلحة لنظام بشار الأسد في سوريا، ولئن كان التنظيم مفاجئًا بانقلابه على راعيته الإيرانية في العراق فإن ذلك يرجع في جزء منه للفصام الذي حدث في سوريا بين جبهة النصرة التابعة كليًّا لتنظيم القاعدة وتنظيم داعش المنشق عنها. الجمهورية الإسلامية في إيران تمثل التحول النظري والسياسي والحركي ضمن المذهب الشيعي لتأسيس دولة حديثة مستفيدة من الأدبيات السنية العتيقة ومن التأويلات السنية الحديثة، لتؤسس لمشروعية سياسية جديدة هي ”ولاية الفقيه” كما صاغها المرشد الأول للثورة الإسلامية في إيران الخميني، كما تمثل ”داعش” التحول النظري والسياسي والحركي لتنظيمات العنف الديني السنية من مبدأ ”النكاية” إلى مبدأ ”الدولة الآيديولوجية” التي وجدت في الذهن عبر تنظيرات الإسلام السياسي ويراد تحقيقها على الواقع. كما جرى في دولة ملوك الطوائف في الأندلس وفي بعض الصراعات الآيديولوجية في التراث الإسلامي، بل وفي صراعات الأفكار أحيانًا، فإن صراع الدولتين هو صراعٌ قاد إليه التشابه أكثر مما ساق إليه الاختلاف، فالمفاهيم السائدة كتوظيف الطائفية سلاحا سياسيا، والأساليب المستخدمة التي تستهين بالدماء شبه متطابقة، والهدف هو السلطة في الدولتين مع التباين في الحجم والتناقض في المحرّك الطائفي. والخلفية التاريخية لما يجري اليوم بدأت مع جمال الدين الأفغاني الذي يرى بعض المؤرخين أنه من أصولٍ شيعية إما إيرانية أو أفغانية، ثم انتقل ليطرح نفسه بوصفه مصلحا سياسيا ودينيا، فهو أول من حاول الاستفادة من الغرب في بناء جماعة سياسية - دينية تهدف للسلطة والاستحواذ على الدولة وتستخدم العنف تنظيرًا وتنظيمًا لخدمة ذلك الهدف، وقد ورثت عنه هذا التوجه جهتان: مجموعاتٌ إيرانية تابعة للأفغاني قام واحدٌ منهم باغتيال الشاه وقام آخرون باغتيال عددٍ من رجالات البلاط الشاهنشاهي، وهو حاول مع محمد عبده تدبير اغتيال للخديوي توفيق بمصر. ورثت جماعة الإخوان المسلمين أفكار الأفغاني في هذا المجال وطبقتها ووسعتها تنظيميًّا وفكريًّا وعنفيًّا، وكانت أسبق لهذا من الجهة الإيرانية، والمعلومات التاريخية المتعددة تثبت أن الجماعة بعدما اكتمل نموّها كانت على تواصلٍ مع بعض رجال الدين الإيرانيين المسيسين، وقد كتب أعضاء الجماعة عبارات التمجيد ومقالات الثناء على آية الله الكاشاني رجل الدين المعارض للشاه، وقد أسبغ عليه سيد قطب آيات المديح على صفحات مجلة ”الرسالة” في ذلك الحين، وامتد الأمر للتواصل المباشر بين الجانبين عبر نوّاب صفوي الذي أسس جماعة ”فدائيان إسلام” بعد عودته لإيران، وانتهى الأمر به للإعدام، ومن يقرأ كتابات الخميني بشكلٍ عامٍ منذ بداياته وتنظيره لولاية الفقيه يجد الأمر ظاهرًا في محاولته لتسنين التشيع عبر صياغة آيديولوجيا الإخوان من مرجعياتٍ شيعية. وقد تشبّع المرشد الأعلى الحالي من خطاب الإخوان المسلمين وقام بنفسه بترجمة كتاب سيد قطب ”معالم في الطريق”، كما تشبع رفسنجاني بحركية الإخوان المسلمين، ومن يقرأ كتابه ”حياتي” لا تخطئ عينه حجم التأثر بأساليب وطرائق الإخوان في تهييج العوام وخلق الفوضى، وغيرها كثير. حتى لا يستغرقنا البحث في التاريخ فإن المقصود هو أن الدولتين تنهلان من ذات المنهل، وتصدران عن ذات النبع، نبع الأصولية الحركية العنفيّة الإسلامية، وقد تجاهلت الكثير من التفاصيل واكتفيت بالكليات التي تثبت الفكرة. السعودية مع استقرار العراق ووحدة أراضيه واستقلاله عن أي تدخلاتٍ خارجية في ذات الوقت الذي ترفض فيه وبكل حزمٍ حركات الإرهاب الشيعية والسنية داخل العراق وخارجه، وترفض حكم الطائفية ونهج الإقصاء الذي يمثله نوري المالكي. أخيرًا، فإن ضرر المالكي بمستقبل العراق ربما يفوق ضرر بشار الأسد بمستقبل سوريا؛ ذلك أن الطائفية في العراق أوسع وأعمق وأخطر من سوريا، وليت المالكي يسمع نصيحة الفيصل باتباع نهج المملكة في محاربة الإرهاب والطائفية. ولكن ما الرابط بين الدولتين؟ إنها جماعة الإخوان المسلمين وخطاب الإسلام السياسي: 1 - كنظرية تبيح تطبيق مفاهيم الدولة التراثية على جماعة معينة، حيث تحضر البيعة والسلاح والمال والأممية وغيرها. 2 - كتنظيم بحيث كيف يبنى؟ وكيف يدار؟ وكيف يتأقلم؟ وكيف يطوّر نفسه؟