الدكتور يوسف القرضاوي في سعيه الدؤوب لتدشين نفسه ”بابا” الإسلام السياسي يسقط ورقة التوت الأخيرة بوقوفه ضد التحالف الدولي في الحرب على ”داعش”، وهو الذي قال سابقا في الأزمة الليبية ”لو بعث محمد من جديد لوضع يده بيد الناتو”، واستقوى بعد ثورة 30 يونيو التصحيحية في مصر بالقوى الغربية مطالبا إياها بالتدخل لوقف الاحتلال لمصر! وبإزاء هذا الموقف عبّر بشكل أقل جرأة عدد من رموز الإسلام السياسي في الخليج عن رفضهم على خجل للحرب المقبلة على الإرهاب، وهو الأمر الذي يبعثنا على التساؤل عن هذه المواقف الحادّة تجاه الحرب على ”داعش” في مقابل صمت رهيب يقترب من حدود الابتهاج بفتوحات ”داعش” مع التحفظ على تكنيك ”ذبح” الرقاب أو المطالبة بعدم نشره كما قال أحد الدعاة من فئة السوبر ستار. ”داعش” والإسلام السياسي متحالفان ضد عدو واحد وهو الاستقرار للأنظمة العربية وخروج الإخوان من المشهد السياسي إلى آماد بعيدة تلامس حدود الاستحالة في الرجوع إلى أيام الدلال السياسي في مقاعد المعارضة الوثيرة، بل والتحالف مع الأنظمة ثم الانقلاب الناعم عليها عبر تكنيك ”الدولة” داخل ”الدولة” الذي نجح فيه حزب الله والحوثيون النسخة الشيعية من الإسلام السياسي بينما أخفقت النسخة السنية لأسباب تتصل بالمرجعية الدينية وتراتبية الفعالية السياسية داخل تلك الجماعات وعلاقتها بالمركز، إضافة إلى وجود تيارات مضادة ومناوئة من داخل البيت السني تفوق عددا وإن كانت بحكم أنها غير منظمة تقل فاعلية، وتلك قصة أخرى. ”بابا” الإسلام السياسي والمتعاطفون معه يدشنون بداية عصر ”ولاية الفقيه السنية” الذي يتوسل السياسة ويتمثلها، حيث بات من الصعب الآن فصل المواقف السياسية المتحركة في عالم المرجعيات الدينية الذي تجاوز طرح رؤى شرعية تجاه المستجدات إلى الانغماس في وحل الموقف السياسي اليومي، بل والتحول إلى منصة تحريض آيديولوجي دون مبالاة في ظل الأوضاع المتردية في هذا الجزء من العالم بتبعات هذه التوجهات الانقلابية التي أطلت برأسها مع أول فرصة ربيع لحريات سياسية جرت صناعاتها خارج مطبخ ”الإسلام السياسي” الذي ظل منذ النكسة ”نجم” المشهد السياسي العربي. يحاول القرضاوي وأتباعه جاهدين إبقاء أنفسهم مرجعية سنية تعتمد على الحشد وتكنيك ”التجميع” الأثير لدى جماعات الإسلام السياسي رغم تراجع دور الاتحاد العالمي الذي يرأسه والذي كان يهدف إلى سحب البساط من المؤسسات الدينية العريقة التي يتهمها بالانحياز إلى السلطة، كالأزهر، ويرشق الحكومة المصرية التي غيرت معادلة الإسلام السياسي في المنطقة بسهام الإدانة على خلفية سياسية محضة. الجديد واللافت في التفاعل مع ”داعش” بعد أن تحول إلى ”خلافة” و”دولة” هو تحرّك وتفاعل الإسلام السياسي برموزه وإعلامه وامتداداته العميقة داخل الدول هو محاولة سحب الشرعية من ”داعش” باعتباره صنيعة الأنظمة ذاتها أو تحولا طبيعيا لمسار العنف بعد التضييق على جماعة الإخوان وما شابهها باعتبارها سدا منيعا للاعتدال كما كانت تقدم حتى من قبل حليفة الأمس الولاياتالمتحدة التي يبدو أنها بدأت تراجع مواقفها من الملف برمته على اعتبار حالة التقاطع السياسي والفكري بين الإسلام السياسي والإرهاب. الموجة الجديدة هي هذا الكم من المقالات والأبحاث عن ”داعش” ومحاولة البحث في مناهجه الكلامية العقائدية عن جذور سلفية وهي محاولة بائسة جدا ومغرضة إذا ما علمنا أن تلك الأصولية العقائدية هي الجذر المشترك لكل الحالة الدينية المعاصرة التي هي حالة سلفية بامتياز، لكن ”تثوير” الحالة السلفية وتحويلها إلى حركية تنظيمية هو فعل الإسلام السياسي منذ الثمانينات، فمن يهمل ”الدافع” والمحرك ويلتقط السياق النظري المنهجي يحاول أن يشتت الأنظار عن نقطة التحول، وهي متى بالضبط جرى تثوير الحالة السلفية من داخلها وإنتاج نسخ جديدة من سلفيات مقطوعة الصلة عن الامتداد التاريخي لها؟ الإجابة عن هذا السؤال المعقد غير ممكنة في عجالة، لكن من المهم التأكيد على أن كل تثوير السلفية كان عملا ممنهجا وطويلا يختلف من منطقة إلى أخرى، فالتحالف مع السلفية العلمية في السعودية يختلف عن الحرب عليها في اليمن لتأليب السلطة، عن اعتبارها أقلية ناشزة كما في السودان وغزة التي تمسك حماس بزمامها، إضافة إلى أن ثمة شخصيات من داخل الإسلام السياسي أو منظرين لجماعات العنف جاءوا من خلفيات إخوانية ساهموا في إعادة تثوير التراث السلفي باعتباره يشكل مرجعية لا يمكن تجاوزها، ويمكن القياس على مسألة صغيرة وهي ”الحاكمية” التي لا تجد لها ذكرا إلا في السلفية المسيّسة المستحدثة مقطوعة الصلة عن امتدادها التاريخي الذي ظل عامل استقرار برافعة دينية مجتمعية لكن بخيارات فقهية متشددة بسبب إهمال الأنظمة لتطوير المؤسسات الدينية التقليدية والانشغال بالتصدي للإسلام السياسي والانشقاقات العنفية الصادرة عنه، وهو الأمر الذي جعل المجتمعات لقمة سائغة فلا هي بالمدنية المبنية على فكرة المواطنة ولا هي أنتجت خطابات دينية متصالحة ومتعايشة مع التحديات الجديدة، وساهمت قوى علمانية وليبرالية وقومية في الاستفادة من هذه الهوة لاستنبات تيارات هجينة عززت من تعملق الإسلام السياسي الذي استفاد من الأعداء الوهميين واعتاش على تبني فكرة الحفاظ على هويّة المجتمعات وهو دور من شأن الدول. الأزمات الكبرى في المنطقة لا يمكن تجاوزها دون التفكير الجاد والحقيقي حول ملف الإصلاح الديني قبل أي شيء آخر، فهي أزمات مفاهيمية يغلفها الشكل السياسي والحقوقي وتلبس أقنعة العدالة الاجتماعية والديمقراطية بينما لا تتجاوز أحلامها الخلافة ووعد التمكين في الأرض!