تجار.. يتبنون “التقية" ويطلّقون السياسة إلى حين دورات تكوينية في المنهج السلفي تحت غطاء الحج والعمرة عندما يخرج وزير الشؤون الدينية والأوقاف ويقول إن الدولة لم تعد قادرة على السيطرة على مساجد الجمهورية لأن الخطاب السلفي تغلغل فيها، وعندما يرفض الأئمة السلفيون الوقوف للنشيد الوطني ويحدث ذلك طوارئ في الجهاز الديني للبلاد، وعندما يحدث كل هذا في حين ترفع السلطة شعار المرجعية الجزائرية دون أن يكون لتلك المرجعية المزعومة أي أثر ملموس على واقع الناس، فمعناه أن هناك مشكلا حقيقيا في الخطاب الديني عندنا، بين ذلك الذي ترفعه السلطة وذاك الذي ينتج داخل أروقة الجامعات بطريقة غير رسمية لكنها منظمة وبين ما يسوق على منابر المساجد. بعد التجربة المريرة التي مر بها المجتمع الجزائري في التسعينيات وفشل السلفية الجهادية والسياسية في الوصول إلى السلطة، تبنى أتباع التيار السلفي في الجزائر أسلوبا جديدا “للدعوة”، حيث يترك “جيل الإرهاب” كما يسمى للممارسة عملية الرفض لبعض مظاهر التغريب في المجتمع الجزائري، لكن دون مواجهة أو نقد علني للنظام الحاكم، فأتباع السلفية العلمية لا يجيزون الخروج عن الحاكم، ولا ينشغلون بأمور السياسة. وقد رسم أتباع هذا التيار هذه القناعة في 2003 بعد اجتماع عقدوه بالعاصمة وأيدوا من خلاله ترشح بوتفليقة لكرسي الرئاسة. وهكذا أعاد أتباع هذا التيار حساباتهم مع المحيط، وحسموا أمر المشاركة السياسية إلى حين تشكيل المجتمع الإسلامي المثالي الذي يطمحون إلى العيش فيه. يحصي المتتبعون حالياً ثلاثة أنواع من السلفية في الجزائر، التيار الأول يمثل السلفية السياسية (أوالسلفية الحركية)؛ والثاني السلفية الجهادية التي تتبنى الجهاد؛ والسلفية العلمية أي السلفية القائمة على المعرفة الدينية.. وهي سلفية مكرّسة لعلماء الإسلام أوالحركة الوهابية، وذلك في إشارة إلى تأثير المرجعيات السعودية عليها، وهي المسيطرة حاليا على كثير من المنابر، منها كلية العلوم الإسلامية بالخروبة. من منابر السياسة إلى عوالم التجارة، السلفية تغير الاستراتجية السلفية العلمية، حسب المتتبعين، تعمل على استيعاب الشباب التابع لها وتوفر لهم الاندماج في المجتمع.. حيث تنشأ بين هؤلاء شبكات صداقة متينة تبدأ من المسجد والمواقع الالكترونية. أتباع هذا التيار يساعد بعضهم البعض في الزواج والحصول على منصب عمل وإيجاد السكن. يحدث هذا ليس على أساس الانتماء السياسي المشترك، كما كان حاصلا في الأحزاب الإسلامية التقليدية لكن على أساس الولاء لنفس المسجد أو الحلقة أوالجمعية. لذلك لا نجد أتباع هذا التيار يمارسون الدعوة من أجل الانتماء إلى مجموعاتهم، لكن في المقابل لا ينتقدون علنا المجتمع الذي يعيشون فيه ولا ينخرطون في الجمعيات الخيرية ولا يشاركون في حلقات إبداء الرأي علنا إلا في الحلقات الضيقة فيما بينهم، من بينها المساجد التي يتكفلون بتسييرها ودفع نفقات إنشائها وصيانتها وتعيين أتباعهم للإشراف عليها. وهكذا تخلى السلفيون عن خيار السلاح في بداية تطبيق الوئام المدني ليهتموا بالأعمال التجارية وشبكة العلاقات والمصالح المادية، وهذا عن طريق التسهيلات التي منحتها الدولة لبعض التائبين وفقا لبنود وقوانين مواثيق المصالحة الوطنية، خاصة الارتباطات التي توفرت لبعض أقطاب السلفية الذين لهم علاقات مباشرة مع زعماء الخليج، وقد ساعدت تلك العلاقات بعض الشباب السلفي في الجزائر ممن يتقنون الفرنسية التواصل مع غيرهم في أروبا وفرنسا خاصة. فتوسعت دائرة أعمالهم حيث صارت لهم اليد الطولى في كثير من أعمال الاستيراد والتصدير في مجال الكتاب والألبسة والافرشة والأثاث، وهم يستندون في ذلك إلى حادثة أحد الصحابة بعد هجرة الرسول “ص” الذي قال “دلوني على سوق المدينة”، وهذا حتى لا تبقى التجارة بيد اليهود. لهذا يرى البعض أن أقدم أحد أقطاب السلفية في الجزائر، الشيخ فركوس، بإصدار فتاوى تجيز إعطاء عمولة أوبقشيش لأعوان الجمارك قياسا على أنهم قطاع طرق، أوإجازة القروض الاستهلاكية يسير في خدمة هذا الاتجاه. كما يربط البعض الآخر بين فتوى الشيخ في ضحايا أحداث الربيع العربي الذين اعتبروا قتلى، قتلهم الجاهلون وليسوا شهداء تسير في إطار مراجعة هذا التيار لمواقفه السياسية السابقة، وأن أوان اقتحام العمل السياسي لم يحن بعد، حيث يرى الباحث الزبير عروس أن هذا الموقف يعتبر تكتيكيا في التعاطي مع الأحداث أكثر منه “مراجعة فكرية جادة للمواقف”. رغم أن الكثير من الدارسين يرجعون جذور التيار السلفي في الجزائر إلى حركة أئمة الإصلاح منذ عهد الإمام ابن باديس والشيخ مبارك الميلي، غير أن السلفية في أشكالها الحالية يرجعها البعض إلى مطلع الثمانينيات، وهو الاتجاه الذي وفد إلى الجزائر وانتشر عن طريق الشباب الذي اتخذ من الحجاز قبلة لطلب العلم “الشرعي” كما يقال، ومنهم الجماعة التي درست في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة التي تشكل معقلا ل”التيار السلفي”، ومنها تخرج الكثير من المشايخ الذين صاروا فيما بعد أقطابا للتيار السلفي الجديد في الجزائر، حيث صارت لهم مواقع على الأنترنت تشرح وجهات نظرهم وصار لهم أتباع وأشياع، خاصة أن أغلبهم أيضا لهم حلقات في المساجد التي يؤمون فيها المصلين، ونذكر منهم الشيخ محمد علي فركوس (إمام مسجد الهداية الإسلامية)، والعيد شريفي (أستاذ بكلية العلوم الإسلامية بالخروبة)، الشيخ عبد الغني عويسات، الشيخ لزهر سنيقرة، والشيخ عبد المالك رمضاني، أحد أقطاب السلفية العلمية في السنوات الأخيرة، ومؤسس جماعة “لاكولون“ التي من بين أهدافها الرئيسية الاهتمام بالعلم الشرعي الذي لا يُؤخذ حسب رأيهم إلا من أفواه “العلماء”، وترك السياسة للساسة. وكان عبد المالك رمضاني، إمام مسجد البدر بحيدرة سابقا، وأحد منتقدي علي بلحاج، قد أمضى فترة في السعودية إماما خطيبا في أحد مساجدها. وقد سبق أن هدد بالقتل من طرف جماعات اتهمته هو وكل من يحمل أفكاره بتضليل علماء الحجاز من خلال إعطائهم صورا مزيفة عن الوضع الجزائري والسلطة، ما جعلهم يفتون بعدم جواز مناهضتها وإعلان الجهاد عليها. كان للأزمة السياسية التي مرت بها البلاد دور في بروز مطلع التسعينيات نوع جديد من التيار السلفي غير الحركي “السلفية العلمية”، التي يحاول قادتها التموقع وتشكيل البديل للإسلام الحركي. وقد تزامن ظهور هذا الاتجاه في الجزائر مع تطور اتجاه جديد داخل الحركات الإسلامية في المشرق العربي يقدم نفسه بديلا “أكثر إسلامية”، ووريثا للحركات الإسلامية التقليدية، مثل الإخوان المسلمون، وحزب التحرير وجماعة التبليغ. وكانت هذه الاتجاهات تتفق كلها على اتخاذ مشايخ الحجاز مرجعا دينيا و روحيا لها، وعلي رأسهم الشيخ محمد ناصر الدين الألباني. السلفيون الجدد يسيطرون على الجامعة تشكل كلية الخروبة صورة مصغرة لانتشار التيار السلفي الجديد وتغلغله في المجتمع الجزائري، حيث يضم المعهد أتباع التيار السلفي الجديد في الجزائر، إذ تكفي جولة في المعهد والتردد عليه لأيام والحديث مع الطلبة أو حضور دروس بعض الأساتذة لتوضيح الصورة. كما أن الحديث إلى مقربين من هذا التيار يمكنها أن تعطينا أيضا فكرة عن الاتجاهات التي يمكن لهذا التيار أن يسلكها. ولعل أول شيء يمكن أن يلاحظه المتردد على المعهد أن قلة قليلة جدا من الأساتذة من يحترمون المقررات الدراسية، بينما يعمل الأغلبية على الترويج لقناعاتهم الشخصية وللمبادئ السلفية، ليس فقط في التدريس وطريقة تلقين المعلومة، لكن حتى في الترويج للسلوكات وطريقة اللباس وطريقة النقاش. فأغلب الطلبة في الأحياء الجامعية مثلا يقصرون في الصلاة بدعوة أنهم غير مقيمين. وقد صار أتباع الاتجاه السلفي يشكلون لوبي هنا حتى أن الأساتذة الذين لا يمشون في هذا الخط تتم محاصرتهم إداريا ويتحالف الجميع ضدهم، حيث قال أحد المارين من هذا المعهد إن من لا يمشي في خط السلفية، سواء كان في طريقة التدريس أو اللباس أو حتى ممارسة طقوس الحياة اليومية، يتم إدراجه في خانة معينة و يعامل بحذر و ربما يُنبذ. كما يمكن أن يتعرض لمضايقات في كل شيء، وحتى طريقة توزيع حصصه التدريسية، وهذا لممارسة الضغط على الأساتذة الخارجين عن الخط. وحسب من تحدثنا إليهم هنا فإن التحايل قد يمتد أيضا إلى المجلس العلمي للكلية الذين يسطر عليه السلفية، والأساتذة غير المنتمين لأي تيار سياسي يتم إقصاؤهم من التواجد داخل المجلس. يعتمد أتباع التيار السلفي الجديد على الانتشار الجماعي واللوبي في كل شيء، بما في ذلك العلاقات الشخصية والخاصة، فبعض الشيوخ ينظمون حلقات دروس في بيوتهم أو في أماكن أخرى خارج الجامعة، والبعض الآخر يلعبون دور الولي للطلبات والطلبة ويعقدون الزيجات، حيث ينتشر هنا الزواج المسيار بكثرة ويعدونه حلالا وزواجا شرعيا، فيما يكّفر البعض الآخر كل من يرتدي اللباس الأروبي المتمثل في البذلة وربطة العنق، وفي أقل الأضرار فإنهم يقاطعون صاحب الهيئة ويصنفونه، كما كان في السابق بعض الشيوخ هنا يحرمون قراءة الجرائد والتعامل مع الإعلام وحتى مشاهدة التلفزيون وارتداء الساعة في اليد اليسرى. كما سبق أيضا أن كانوا يحرمون الاختلاط و بعض العلوم والتخصصات التي يضطر فيها الطلبة للاختلاط مع الطالبات، فأحدهم سبق أن طرح سؤالا على أحد الشيوخ وقال له أن المجتمع الإسلامي يقتضي أن أتخصص في الطب لكن المفاسد تمنعني من ابتغاء غير العلم الشرعي، فأجابه الشيخ “فليهلك الناس ولتنقذ نفسك”!. تحت هذا الشعار، حسب المتتبعين لتفاصيل الحياة داخل الكلية، يقولون إن هناك تيارات سياسية مسيطرة هنا ظاهريا على الأقل، ومنها حماس والنهضة. ولكن التيار السلفي يعيد مراجعة نفسه بتبني أسلوب التقية بالامتناع عن الخلط في السياسة بعدم إجازة الخروج عن الحاكم، غير أن البعض يرى فيها قناعات مرحلية ناجمة عن فشل تجربة “الفيس” التي قادت الحركة إلى مراجعة جد واسعة في المنهج والمعتقد، حيث نجد ممارسات في هذا الاتجاه تصل إلى حد استحداث فتوى “تجيز الوشاية للحاكم” تماهيا مع التيار الجديد الذي صار يهتم أكثر وأكثر بما يطلقون عليه “أسلمة المجتمع” بدل اتباع الغوغاء للتفرقة بين المسلمين ويقصدون طبعا السياسيين. تلعب كتيبات الجيب التي توزع مجانا، دورا حاسما في إفراز ظاهرة السلفيين الجدد، فأغلب الطلبة هنا يستمدون قراءاتهم من هذه الكتيبات التي تقام لها معارض دائمة أو شبه دائمة، مع العلم أن “مانيفستو” هذه الكتيبات بعيدة كل البعد عن الثقافة الدينية العميقة التي تعلم الإنسان النقد والتفكير الحر، لكنها حشد من الأحكام و الآراء النقلية وليست العقلية لمجموعة أشخاص تطبعها دول وسفارات، ومنها سفارة السعودي، وتوزعها بالمجان لحشد الدعم لإيديولوجيا يراد لها أن تكون مذهبا، ربما هذا ما يفسر أن بعض الأساتذة يأتون بكتب ويوزعونها على الطلبة بالمجان. وقد ساهمت السفريات أو رحلات “طلاب العلم” الجدد إلى مراكز الدعوة السلفية، وخاصة إلى السعودية، في تكوين القيادات الجديدة التي تأثرت بما وجدته في المملكة.. فبعض الطلبة يحجون أكثر من مرة ويعتمرون أكثر من مرة، وتكون تلك البعثات غطاء للتكوين في السلفية العلمية، وهي لا تقلق السلطة طالما أنها لا تجيز الخروج عن الحاكم. فلأصحاب هذا الاتجاه “كوطة” دائمة في قوائم الحج والعمرة، مع العلم أنه ليس كل طالب مقبول، فيجب أن تمنح له تزكية من طرف شيوخ السلفية هنا في الجزائر، والذين بدورهم يكونون محل ثقة وتزكية من طرف المرجعيات السعودية. فالتزكية من طرف علم من أعلام السلفية هي التي تحدد مكانة الطالب ومدى صلاحيته، والكثيرون هنا يرون تجارب أناس تم رفضهم هناك لأنهم “طرقيون” وليسوا من جماعة أهل السلفية. وعلى أساس التزكية يذهب الطالب إلى السعودية من أجل الحصول على تربص بشقيه الكتابي والشفوي ينتهي بشهادة تؤهله مستقبلا ليكون بدوره مرجعا. وطبعا التزكية التي تمنحها هذه الجامعات والمرجعيات الخارجية بإمكانها في أي لحظة أن تنزعها عن الشخص المعني، مثلما حدث مع أحد الشيوخ النافذين سابقا في المعهد قبل أن يتم تحييده وتقليص نفوذه. عملية التزكية من طرف المراجع السلفية تتغير تبعا لدرجة تغير خطاب المعني، وكذا تبعا لتغيير استراتيجية وأساليب عمل الجماعة. فإلى عهد قريب مثلا كانت سفارة السعودية تدفع ألف دولار لكل طالب يقوم بتقديم تقارير صحفية وأدبية ترصد حركية المجتمع في محيطه، ونوعية النقاشات التي تدور فيها ووفق هذه التقارير تبني الجهات المعنية استراتيجياتها. زهية منصر عمر بن عيشة، باحث في التصوف والمعتقد الشعبي ل”الفجر” الخطاب المسجدي أمي وساذج والخطاب الرسمي التقليدي ساعد على انتشاره بعض التيارات الدينية ظواهر شكلية لعصابات تختبئ تحت غطاء الدين لتحقيق مآرب آنية وشخصية أئمة مطرودون من المدارس يصلّون بدكاترة في الجامعة وآخرون يحفظون القرآن بدون فهم
قال عمر بن عيشة، الباحث في التصوف والمعتقد الشعبي، إن إشكالية الخطاب الديني اليوم في الجزائر هي عدم وضوح المرجعية المسوقة على المنابر، وتلك التي يتم الترويج لها من على مقاعد الدراسة. وأضاف بن عيشة، في لقاء مع “الفجر”، أن الخطاب العلمي في الجامعات خليط بين مرجعيات يتم التسويق لها في كثير من الأحيان حتى دون معرفة كافية بتفاصيلها والباحث المحايد، عادة ما يجد صعوبة كبيرة حيالها في الفهم و الاستيعاب. أما الخطاب المسجدي المنبري الذي له تأثير كبير على الناس فهو خطاب أمي ساذج. ومن بين العوامل التي شجعت الناس على الاستماع والتفاعل مع هذا النوع من الخطاب، حسب بن عيشة، هو النفور الشعبي من الخطاب الديني الرسمي التقليدي. لكن المتحدث ذاته يستبعد أن يكون لخطباء ودعاة الفضائيات - كما يسميهم - في المستقبل أي تأثير عميق على البنية الدينية والعقائدية للمجتمع الجزائري، لأن هذه التيارات هي عبارة عن ظواهر شكلية لعصابات تختبئ تحت غطاء الدين لتحقيق مآرب آنية وشخصية. وقد ربط المتحدث بين وجود مخطط للإدارة الأمريكية منذ سبعينيات القرن الماضي وبين الآلة المثيرة من الأقطار العربية، حيث قال بن عيشة إن أمريكا خططت لاستعمال الدين لاستغلال الشعوب العربية بنشر بدع جديدة ونحل وإديولوجيات تتخذ من الدين وسيلة أوعنوانا لاتجاهاتها. وأغلب هذه الاتجاهات لا تشتغل بالسياسة والشأن العام، لكنها تحكم السيطرة على أنساق المجتمع وتنشر الفكر البدعي والظلامي الذي يبقى المجتمع دائما لعبة في أيدي الغرب، وهكذا يمكن لأمريكا أن تسيطر على هذه المجتمعات بأقل التكاليف. وقد اعتبر بن عيشة أن الخطاب المسجدي الحالي في الجزائر اليوم يعاني من مشاكل عدة، تعود كلها إلى انعدام الثقافة والكفاءة في من يتولون الإشراف على هذه المساجد، حيث قال المتحدث إنه صادف في أحد مساجد العاصمة خطيب الجمعة مطرودا من السنة التاسعة يصلي بدكاترة في الجامعة. فأغلب خطباء المساجد ليست لهم ثقافة دينية متخصصة “ليسانس في الآداب والحقوق”، وأغلبهم يحفظ القرآن بدون فهم، والكارثة أن أمثال هؤلاء يتعاملون بشكل مباشر ويومي مع الناس وربما يفتوهم في أمورهم الخاصة ويستشيرونهم. وحسب بن عيشة فإنه من المستعجل أن نعيد النظر في المنظومة الدينية من ناحية التعليم وتكوين الإطارات، لأننا لا نملك قادة دينيين قادرين على مواجهة الأساليب العصرية للسيطرة على أفكار الناس. زهية.م اعترفت بسيطرتها على الحياة الروحية في الجزائر وزارة غلام الله تواجه التيار السلفي بمراكز ثقافية ميتة
أوضح مدير الإعلام بوزارة الشؤون الدنية والأوقاف، عدة فلاحي، أن التيار السلفي يريد السيطرة على مجمل الحياة الروحية بالجزائر وفي غير الجزائر، وهو من أجل ذلك يسخر إمكانيات هائلة مادية ومعنوية، وما يسهل عليه العملية أنه خطاب بدوي بسيط يستهوي الأميين وذوي المستوى العلمي المحدود والبسطاء من الناس، كما أنه يريد أن يبسط نفوذه على الجامعة والمسجد. وفي مقابل ذلك قال فلاحي إن الوزارة واعية تماما بهذا، وهي تبذل كل جهدها لربط المواطن الجزائري بمرجعيته الدينية الوطنية، من خلال برامج التدريس المخصصة لتخريج الأئمة والسلك الديني عموما بمعاهد تكوين الإطارات الدينية. أما بخصوص برامج التدريس، فقد أكد فلاحي أنها تراعي دائما المرجعية التاريخية الوطنية الجزائرية من خلال برامج تكوين الأئمة. الوزارة توظف خريجي الجامعات، حسب فلاحي، بهدف الرفع من مستوى الخطاب المسجدي لكن من الضروري لهؤلاء الطلبة من خريجي الجامعات حفظ القرآن والإلمام ولو بصفة عامة باب الفقه وأصول الشريعة، ومهمتهم بالأساس تثقيفية حتى يكمل لخطاب المسجدي بعضه بعضا.. وقد اعترف فلاحي بوجود “متطوعين يؤمون الناس قد لا تكون لهم مؤهلات أو شهادات”، غير أنه عاد وربط الأمر بضرورة وجود رخصة من المجلس العلمي بالولاية، وبعلم وموافقة مدير الشؤون الدينية بالولاية التي يحق لها سحب الرخصة من الإمام إذا ثبت أنه “غير كفؤ أو يدعو لمرجعية غير وطنية تتسبب في إذكاء الفتنة والفرقة”. فلاحي الذي رفض الاعتراف بغياب استراتيجية واضحة من قبل الوزارة لمواجهة أخطار التيار السلفي الجديد في الجزائر، لخص تلك “الإستراتيجية” في تنظيم الدورات التدريبية والتربصات لطلبة ما بعد التدرج والأئمة، وكذا تنظيم قوافل علمية إلى الولايات، مهمتها الترويج للأعلام الجزائريين والتعريف بهم. وفي هذا الصدد قال فلاحي إن وزير الشؤون الدنية قد أعطى تعليمات لمديري المراكز الثقافية الإسلامية لبذل الجهد والتحرك للتواصل مع النخب العلمية والثقافية وتنظيم نشاطات ثقافية تدخل في إطار خدمة المرجعية الدينية الوطنية وكل ما له علاقة بالهوية الوطنية. غير أن الشيء الذي غاب ربما على وزارة غلام الله أن المراكز الثقافية الإسلامية التي تحدث عنها المكلف بالإعلام، التي لا يتعدى عددها 5 مراكز عبر الوطن، أحدها شيدته السعودية في الشلف بعد زلزال الأصنام، وأحدها في طور الإنجاز ولم يفتح بعد أبوابه بوهران، والثلاثة الباقية خاملة وتفتقر إلى برنامج عملي، فضلا على أن يكون ذو مستوى فكيف يمكنها لهذه البرامج أن تواجه لوبيا منظما ويشتغل وفق استراتيجية تمتد إلى خارج الحدود؟. زهية.م الدكتور الزبير عروس، رئيس مخبر علم الاجتماع والظاهرة الدينية "مراجعات التيار السلفي في الجزائر سياسية وليست فكرية " بعض أساتذة الشريعة لا يفرقون بين الجامعة والسوق الشعبي المجتمع الجزائري قائم على الوهم الديني القاتل يرى الزبير عروس، المختص في علم الاجتماع الديني، أن المراجعات التي عرفها التيار السلفي والاخواني في الجزائر هي مراجعات سياسية وليست فكرية، حيث أكد رئيس مخبر الدين والظاهرة الاجتماعية، في هذا الحوار مع “الفجر”، أن الممارسات التي ينتهجها التيار السلفي الجديد في الجزائر والمتغلغلة في كافة انساق المجتمع من شأنها أن تؤدي إلى إنتاج عنف اكبر من ذلك الذي شهدته الجزائر خلال التسعينيات، وهذا بالنظر إلى قابلية المجتمع لتقبل الأفكار الدخيلة في ظل انعدام الأطر الفكرية والأنساق العلمية الكافية لتحصن جسد الأمة. ولا يستبعد عروس أن لا تكون هناك مواجهات بين أنصار وأتباع والمتعاطفين مع هذا التيار لأن المراجعات المذكورة سياسية قائمة على المصلحة الآنية والظرفية. بعد هزيمة التيارات الإسلامية التي جنحت إلى العنف في بداية التسعينيات، والتي كانت نتائجها وخيمة على كل الأصعدة بما في ذلك انحصار أتباع هؤلاء في المجتمع، طرح أصحاب الفكر السلفي، ما صار يعرف اليوم بالمراجعات هل تتوقع أن تشكل تلك المراجعات تحولا في توجهات التيارات الإسلامية في الجزائر؟ المراجعات تقليد معروف، خاصة بين نشطاء الحركة الإسلامية سواء كانوا سلفيين أو إخوانيين، وأهم المراجعات الكبرى التي حدثت كانت تلك التي عرفها التيار الإخواني في مصر عندما راجع تيار الهجرة و التكفير نفسه في السجون، وتلك التي حدثت أيضا في ليبيا ووقعت أيضا في المغرب وصدرت في كتاب “العقارب السبع”. في الجزائر أيضا حدثت مراجعات للتيار الإسلامي، بما في ذلك التيار الاخواني الذي دعا إلى مراجعة كل الإرث المعرفي والاديولوجي والفكري للإخوان في الجزائر. التيار السلفي أيضا يقوم بمراجعات وانقسمت إلى اتجاهات وفروع. وحتى من ناحية التقييم هناك من يسميها مخادعات ويعتبرها التفافا على حركة التاريخ، بدعوى أن أتباع هذا التيار لم يتغيروا لكن أرادوا أن يتأقلموا مؤقتا مع الظروف الجديدة. في الجزائر المراجعات لها واقعها فالتيار السلفي وانقساماته بين السلفية الجهادية والحركية والعلمية التي تركز على الدعوة كوسيلة للنفاذ في المجتمع وإحداث تغيير في نمط التفكير، أوما يعرف ب”أسلمة المجتمع” من خلال التوعية قبل ممارسته السياسية. وقد بينت بعض المراجعات التي تمت في التيار السلفي، على رأسها مثلا حركة الشيخ سحنون وبعض قياديي الفيس. وحتى ما عرف بالجيش الإسلامي للإنقاذ لم يكن يمثل تيارا فكريا واضحا بل كانوا خليطا، وقد تراجعوا عن ممارسة السياسة والوصول إلى السلطة بالعنف. ولكن مراجعتهم هي مراجعة سياسية وليست فكرية، و هذا ما أدى إلى نشوب خلاف عميق بين رموز التيار الإسلامي، مثلا مزراق يريد التحدث بصفته جامع لكل التيارات، حيث كان يقدم خطابا سياسيا يحاول أن يستحوذ به على الجميع. لكن التيار الإخواني بوجمعة عياد مثلا، صرح سابقا قال لجماعة الرابطة الإسلامية.. لم تكن لكم لكن حاولتم الاستحواذ عليها. وهذا يدل على محاولة الاستفراد بالخطاب. في نظري أهم مراجعة وقعت في الجزائر هي مراجعة التيار الاخواني لذاته، حيث بدأ يتخلص من امتداده التاريخي المشرقي في مصر ورفع خطابا وطنيا جزائريا. و بدأ هذا الاتجاه مع جاب الله وانتقل إلى قيادات حركة حمس التي رفعت تيار المراجعة، بحجة أن واقعنا وظروفنا السياسية تختلف عن المشرق ولا زالت قائمة. وأتوقع ألا تكون سهلة لأن فيها الكثير من المراوغات لأنها بالأساس سياسية، وهي تؤدي إلى تصادم في الأفكار والمصالح. هل تعتقد أن هذا التيار لديه كل تلك القوة حتي يتغلغل في المجتمع؟ القضية في الدولة التي تعجز عن فرض خطابها، لكن المشكلة أن بعض المدرسين هناك ليسوا أساتذة جامعة لكنهم أتباع تيار السلفية العلمية الذين يعتبرون أن حقل الدعوة لا توجد له حدود، وهم في ذلك لا يفرقون بين الحي والمسجد و السوق . وطريقة التدريس تدخل في نظرهم في صلب العمل الدعوي فحولوا جامعة الخروبة إلى مجال خصب للنشاط الدعوى وفق رؤيتهم وليس جامعة للتدريس، فصاروا يلعبون دور الوعاظ وليس المدرسين للفكر الإسلامي، لا يفرقون بين الجامعة كممارسة منضبطة وبين ساحة الدعوة والتي بالنسبة لهم هي مساحة مفتوحة على كافة أشكال الممارسة. وهذا أمر خطير لأنه ينتقل بالجامعة من حالة إلى حالة أخرى، أي من مكان لإنتاج الأفكار الواعية بقضايا المجتمع إلى مكان لتلقين الفكر الإيديولوجي، لأن الحركة السلفية تاريخيا وما تفرع عنها من اتجاهات مثل السلفية الحركية والعليمة والجهادية، هي إيديولوجيا وليست عقيدة. في رأيك إلى ماذا يمكن أن تؤول مثل هذه الممارسات مستقبلا، خاصة على المستوى الفكري للأجيال الجديدة؟ صراحة أنا خائف على ما ينتج عن هذه الممارسات، لأن الإنسان لا تستطيع أن يتحكم في الأفكار التي يطلقها، لكن الأفكار تفلت من أصحابها والتغلغل المفرط وتوزيع التيار السلفي في كل أنسجة المجتمع سيؤدي إلى إنتاج فكر جامد قد يصل إلى درجة التطرف، وقد نعود إلى نفس حالة التسعينيات. في المخبر الذي ترأسه، ما هي القضايا التي تشكل لكم أولويات للدراسة؟ كل الظواهر وكل قضايا المجتمع الجزائري هي قضايا دينية. ولكن صراحة المجتمع الجزائري ليس مجتمعا متدينا ولكنه قائم على الوهم الديني القاتل. التفسير الديني موجود في كل قطاعات المجتمع الجزائري بدون استثناء، بما في ذلك المنظومة الصحية والاقتصادية. فالمجتمع له وظيفية أساسية وهي التماثلات التي يعطيها الأفراد للتدين، وهذا يحتاج إلى دراسات متعددة الأنساق والاتجاهات مثل سيكولوجية الدين. في مجتمع مثل المجتمع الجزائري الدين حقل متشعب ومركب في النوع من الدراسات، لا نتحدث عن عقائد الناس بقدر ما نحاول تفسير السلوك الديني في إطاره الاجتماعي، ولدينا في هذا الصدد عدة مشاريع دراسية مثل القيم الدينية والأسرة وكل ما تعلق بقيم الزواج والميراث والعلاقات الأسرية ومكانة المرأة و غيرها. وموضوع آخر عن إشكالية التحول الديني وأسبابه، حيث صرنا نقدم منطقة معينة كأنها كافرة وخارج المجتمع، وهذا خطاب سياسي وإعلامي ملعون يريد تكفير منطقة بأكملها، ومشروع ثالث حول أشكال التدين لدى الشباب والخلفية الانثربولوجية لكافة أشكال التدين في المجتمع الجزائري والمقاربة السوسيولوجية، والبعد التأسيسي للوعي الديني، لأن الوعي الديني لدينا وعي مركب تاريخيا يتكون مع عدة طبقات. مثل هذه الإشكاليات تحتاج إلى تعمق لأن هذا يساعدنا على بناء مشروع قائم على التسامح وقبول الآخر، لأن هذا الآخر الذي نعاديه هو جزء من تاريخنا. هل تعتقد أن مثل هذه المشاريع بالإمكان تحقيقها في ظل غياب استراتيجية واضحة وواعية لتسويق مرجعيتنا؟ مع الأسف نتكلم عن عقيدتنا الاشعرية وتبنينا للمذهب المالكي دون طرح الأسباب التي جعلتنا نتبناه؟ المذهب الملكي يتماشى مع خصائص المنطقة المغاربية من ليبيا إلى المغرب والجزائر مع عقل ونمط معيشي بسيط، لكن اليوم انتقلنا إلى مرحلة مركبة تركيبا خطيرا، ونحن لا نملك أدوات لصد التيارات الفكرية العنيفة، لأن بنيتنا الاجتماعية قابلة لتلقي مثل هذا الخطاب، لا نجد تحصينا سواء فكريا أو في الجامعات، لا نملك وسائل حماية الذات، ومآسي الناس أنهم يتقبلون بسهولة الفكر البسيط و هو اخطر أنواع الفكر. وما رأيك في من يطرح فكرة المؤامرة الخارجية، وبالتحديد دور أمريكا في السيطرة على هذه المجتمعات؟ هذا يعود بنا إلى فترة الخمسينيات والصراع بين الحركة القومية والحركة الإسلامية، صحيح هناك أيادي خارجية لكن ليست كلها وراء كوارثنا، لكن خطاب المؤامرة “عامل الاقزوجان” (الرهاب من الآخرين) يقدم كأنه ينفي على شعوب المنطقة إمكانية التحرك الذاتي، وهذا أمر خطير من حيث المقاربة. شعوب المنطقة العربية تعيش اليوم مرحلة مبهمة قائمة على عزل الآخر والتكفير، وهذه ليست ثورة لكهنا ثوران شعبي لا يكتسي صفة العقلانية، لأن الخطاب الذي يقول بالمؤامرة هو في حد ذاته مؤامرة على القوى الحية للشعوب، لكن هذا لا ينفي وجود سايكس بيكو جديد أخطر يريد تقسيم المنطقة على أساس إثني ثقافي وعرقي، وهذا مخطط موجود وقائم وتم الحديث عنه بصراحة، لكن ثمة ظروف طبيعية وموضوعية داخلية ساعدت على هذا. أهم مراجعة وقعت في الجزائر هي مراجعة التيار الاخواني لذاته، حيث بدأ يتخلص من امتداده التاريخي المشرقي في مصر ورفع خطابا وطنيا جزائريا. و بدأ هذا الاتجاه مع جاب الله وانتقل إلى قيادات حركة حمس التي رفعت تيار المراجعة، بحجة أن واقعنا وظروفنا السياسية تختلف عن المشرق المجتمع الجزائري ليس مجتمعا متدينا ولكنه قائم على الوهم الديني القاتل. التفسير الديني موجود في كل قطاعات المجتمع الجزائري بدون استثناء