نادرا ما تجد تلميذا في معظم بلدان العالم لا يعرف الماغنا كارتا؛ نقطة انطلاق في محطات تطور الإنسانية، كمعجزة بناء الهرم الأكبر، وتأسيس بطليموس لمكتبة الإسكندرية؛ وأسرة ميدتشي للأكاديمية اللاتينية في فلورنسا لبداية عصر النهضة، واكتشاف إسحق نيوتن قانون الجاذبية. الأمم المتفاخرة بمساهمتها في تطوير الديمقراطية (كقيمة عالمية تجاوز الحدود والعرقيات والثقافات، فمن في أي ثقافة لا يريد حقوقا متساوية، وعادلة قانونية، وصوتا في صياغة سياسات تمس حياته؟).. أمم كفرنسا بمبادئ الحرية والإخاء والمساواة؛ وأميركا بدستور مادته الأولى تقدس حرية التعبير بما فيها حرق علم البلاد، مادة لا يمكن تغييرها أو إصدار قانون يناقضها. معلمو هذه الأمم يقدمون الماغنا كارتا لتلاميذهم كأول نموذج للديمقراطية. لم يسبق الماغنا كارتا توثيق للعلاقة القانونية للمواطنين مع حاكميهم، وخضوع الجميع للقانون بلا استثناءات، متساوين حكاما ومحكومين، وعدم مشروعية توقيف أو حبس إنسان بلا أدلة أمام محكمة عادلة مستقلة. الصحافة ومؤسسات التعليم والمؤرخون يعدون البرامج عام 2015 لعيد ميلاد الماغنا كارتا ال800. الاسم من اللاتينية Magna Carta أو الوثيقة العظمى. وكانت اللاتينية، في القرن الثالث عشر، لغة التوثيق والمراسم الرسمية وشهادات الدفن والميلاد وعقود الزواج وليست لغة العامة الأميين. احتكر رجال الدين التوثيق والتقنين (وكانوا موالين للفاتيكان فإنجلترا لم تتحول من الكاثوليكية إلى الإنجليكية إلا في منتصف القرن السادس عشر كمشروع هنري الثامن؛ وترجم الملك جيمس الإنجيل إلى الإنجليزية في مطلع القرن السابع عشر ليفهم عامة الشعب تفاصيل دينهم التي احتكر القساوسة تفسيرها من اللاتينية أو الإغريقية). سميت الوثيقة العظمى لأنها أكبر من الجميع وتشملهم، الحاكم (الملك جون الذي بعث برسائل للفاتيكان لاستمالة البابوية إلى جانبه فيما اعتبرته روما كفرا بالخروج على طاعة الحاكم) والمحكومين. ولم تكن هناك طبقة وسطى؛ فقد ظهرت الأخيرة في عصور الثورة الصناعية، لأن قبلها لم تكن العلاقة بين أصحاب الأراضي من الإقطاعيين الأرستقراطيين والفلاحين علاقة تعاقد بين صاحب أرض ومستأجر، فتقنين التعاقد واستغلال الأصول assets كرأسمال مستثمر (أراض أو غابات أو مناجم في بطن الأرض) مقابل فائدة تعود للمالك وأرباح للمستأجر أو أجر للعامل أو عمولة للوسيط، كلها من نتائج الثورة الصناعية. وظهور هذه القوانين والعقود، وتقنينها في البرلمان المنتخب في وستمنستر كان في الإطار العام الذي رسمته الماغنا كارتا في العقود والقرون التالية. ومقابل الطبقة الوسطى (محرك الثقافة وإدارة الأعمال التي تدير عجلة الاقتصاد وحركة المال ومؤسسات المعرفة والتعبير في العصور الحديثة) لم تكن في القرن الثالث عشر إلا طبقة النبلاء التي حاولت الحد من سلطات القوتين الأخريين، الكنيسة والمؤسسة الحاكمة أي الملك جون والبلاط. طبعا المصلحة الذاتية للنبلاء كانت محورية، لأنهم رأوا في حماية رعاياهم أو مزارعيهم أو سكان مقاطعاتهم من تجاوزات البلاط والكنيسة سواء بالضرائب أو التجنيد للجيش أو سيطرة روحية تعوقهم عن العمل أو تقلل إنتاجيتهم. أي أن المصلحة المشتركة بين الطبقات الفقيرة الأمية التي لا صوت لها، والنبلاء (الطبقات الأرستقراطية) كانت دافعا لتوقيع الماغنا كارتا كنواة أقدم الديمقراطيات. وقعت النسخة الأولى من الماغنا كارتا (عدة نسخ تبعتها في السنوات التالية بصراعات ومعارك، بتعديلات متراجعة وأخرى أكثر تقدما) في 15 يونيو (حزيران) 1215 من صياغة ستيفن لانغتون، كبير أساقفة كانتربري (ممثل الفاتيكان ورئيس كنائس إنجلترا. وبعد تأسيس الكنيسة الإنجليزية أصبح المنصب رأس الكنيسة الإنجليكية وتوابعها حول العالم) كمعاهدة تصالح وسلام بين الملك جون (1166 - 1216)، الذي تدهورت شعبيته، ومجموعة من البارونات (النبلاء المتمردون عليه). ما وقع عليه جون (وتأمينها بخاتم ديني مقدس من قبل كبير الأساقفة الذي صاغها)، واعتبره مجرد ورقة سلام مؤقتة حتى تهدأ العاصفة، تحول إلى الدعامة الأساسية في صرح كل الديمقراطيات الحديثة، وهي سيادة القانون والجميع سواسية أمامه حاكما ومحكوما. بل إن تعديلها بضع مرات (1216، 1225، 1227) أصبح سابقة، بتطوير التفاصيل لتلائم العصر والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وهو سر قوة المنظومة الدستورية البريطانية. فلا يوجد في بريطانيا دستور مكتوب، أو قوانين مكتوبة كحال فرنسا (والبلدان التي سارت في اتجاه النظام الجمهوري، كأميركا وبلدان أفريقية كمصر وجيرانها في شمال القارة)، لكن القانون العرفي، والأساس القانوني العام (الماغنا كارتا) وحزمة مستمرة التطور من التفعيلات البرلمانية Acts of Parliament التي تنظم الممارسات الديمقراطية وحرية واستقلالية الصحافة الخاصة أو المدعومة من الشعب مباشرة (كالمرسوم الملكي ل”بي بي سي”) وعريضة الحقوق المدنية لعام 1689 التي ضمنت الحقوق الأساسية للمواطنين البريطانيين ونظام التوريث الملكي، والقانون التفعيلي للانتخابات البرلمانية 1831، وقوانين منح المرأة حق التصويت.. والأهم الحرية الكاملة للصحافة، ووجود المجموعة الصحافية البرلمانية (قانون رئيس البرلمان آبوت لعام 1801) كلها تمثل المنظومة الدستورية.. وليست دستورا. لكنها تركت الباب مفتوحا أمام تعديلات وتطويرات وإصلاحات مستمرة. تحتدم المعركة اليوم بين الصحافة التلفزيونية في ناحية (بي بي سي، سكاي، آي تي إن المستقلة) وفي الأخرى رئيس الوزراء ديفيد كاميرون والليبرتاريون التقليديون (ليس الليبراليين) كحال كاتب السطور. المجموعة الأولى تريد تكرار مناظرة انتخابات 2010 التلفزيونية بين قادة الأحزاب الثلاثة (محافظون وعمال وديمقراطيون أحرار) ومعهم النجم الصاعد نايغل فاراغ زعيم حزب استقلال المملكة المتحدة، ومجموعة الشيوخ والعجائز يدعمون كاميرون في رفض الظاهرة الغوغائية المستوردة من أميركا (وجد كاميرون حجة ممتازة، وهي إما إشراك جميع الأحزاب التي لها أعضاء في البرلمان، مثل الخضر وهم منافس يشارك العمال والديمقراطيين الأحرار في الأصوات، أو قصرها على الزعيمين الوحيدين اللذين يمكن لأحدهما فقط تشكيل حكومة، أي بينه وبين زعيم المعارضة العمالية إدوارد ميلباند). الواقع أنه في العام ال800 للماغنا كارتا، فإن نموذج المناظرة التلفزيونية الجمهوري الغوغائي لا يناسبنا. فنظامنا برلماني. والمناظرات الانتخابية تقع في 650 دائرة، ولسنا نظاما جمهوريا كأميركا حيث يخاطب المرشح شعبا ينتخبه مباشرة. الماغنا كارتا أساس التركيز على حقوق الفرد المواطن، والدعاية الانتخابية بالتحاور على عتبات البيوت والأسواق ومناقشة الناخب وجها لوجه. لكن للصحافة التلفزيونية حساباتها؛ فالمناظرة أقل تكلفة من إرسال كاميرات لمئات الدوائر. دغدغة عواطف الملايين عبر الشاشات الصغيرة يصاحبها تدفق الملايين من الإعلانات. فهل ينتصر أحفاد من دعموا الماغنا كارتا على مفهوم استغلال اقتصاد التلفزيون المستورد من المستعمرات القديمة، أميركا؟