يقول ابن عطاء الله السكندري: ”الحقائق ترد في حال التجلي مجلمة، وبعد الوعي يكون البيان (فإذا قَرَأْنَاهُ فاتَّبعْ قُرْآنَه، ثمَّ إنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ)”. قبل أن أشرع في شرح هذه الحكمة، ينبغي أن ألفت نظري ونظرك، إلى أن المراد بالحقائق هنا، تلك التي يتجلى الله بها على أفئدة عباده الذين جاهدوا في الله حق جهاده، فطهرت نفوسهم من الشوائب والأهواء، وصفت قلوبهم من التعلق بالأغيار، وأخلصوا دينهم لله.. فلا يتخذن محترفوا مهنة التوجيه والإرشاد اليوم، موقعا لأنفسهم في النماذج التطبيقية لهذه الحكمة، ولايوهمُنَّ الناس أنهم وأمثالهم المعنيون بها. بعد هذه المقدمة أقول لك وبالله التوفيق: إن من شأن المعارف التي يتلقاها الإنسان عن طريق التعليم، على اختلاف سبله، أن تفد أولاً إلى العقل، وإنما يتلقاها العقل مجّزأة، أي يتقبلها ويفهمها جزءًا إثر جزء، فإذا تكامل فهمه لأجزاء المسألة أو القضية، قام العقل عندئذ بعملية التركيب وتحويل الأجزاء المتفرقة إلى كل واحد تضامّت وتآلفت فيه هذه الأجزاء، والشأن في المعرفة إذا تكاملت في العقل بهذا الشكل، أن تلقي بظلالها وآثارها، جملة واحدة إلى قاع النفس أو إلى مكمن العواطف من القلب، فيحصل من ذلك ما نعبر عنه بتأثير تلك المعارف أو الحقائق العلمية على النفس والقلب.. أما الحقائق التي يكرم الله بها عباده الصالحين المتميزين بالصفات التي شرحتها في فاتحة هذا الشرح، والتي تدخل فيما يسمى بالعلوم اللدنية، أي قفزاً فوق طريق التعلم والتلقي، فإنما يتجلى الله بها على قلب أحدهم نورًا يُقذف به في طواياه، وبتعبير آخر:يرسل الله تعالى ما يشاء من الحقائق إلى فؤاد من قد اصطفاه من عباده، رسالةً مطوية داخل غلاف من نور.وهذا معنى أنها ترد في حال التجلّي مجملةً. وأنت تعلم أن وظيفة القلب (وليس المقصود به هنا العقل والإدراك) الشعور والتأثير الوجداني، أما الوعي وعملية الفهم والإدراك، فإن ذلك من شأن العقل ووظيفته. ثم إن هذه الرسالة المطوية داخل غلاف من النور الذي تتلقاه البصيرة، يتم نشرها والنظر إلى تفاصيلها تحت أشعة العقل، ثم إنها تمرّ تحت رقابة الشريعة ومصدريْها: القرآن والسنة.فإذا تبيّن أنها متفقة معها خاضعة لمصدريها، اطمأن الإنسان الذي تلقاها، إلى أنها حقيقة علوية ربانية، اختصه الله بها لدُنيًا بثه-جل جلاله-في روعة، دون وساطة تعلم أو تلقٍ على نحو ما يتم عادة بين المعلم والمتعلم، أو المرشد والمريد. وإن تبين أنها مخالفة لأحكام الشرع غير متفقة مع نصوص القرآن أو السنة، ألقاها وراءه ظهرياً، و تناساها ولم يلق لها بالاً، ولم يُجْرِ عنها على لسانه أي ذكر. لعلك تقول: فما دام ورود هذه الحقائق العلوية بهذا الشكل خاصاً بالعلماء الصالحين الذين صفت نفوسهم عن الشوائب، وقلوبهم عن الأدران، كما قد ذكرت في مقدمة هذا الشرح، فما الحاجة إلى تمريريها تحت أضواء الكتاب والسنة وضوابطهما؟.. مادام المصدر ربانياً، والمتلقي لها أهلاً، فلعلها تكون بمثابة شرع خاص ميز الله به عبداً من عباده الصالحين كالشرع الذي ميز الله به الخضر، والذي أنكره عليه موسى عليه الصلاة و السلام، في بادئ الأمر، ثم اعتذر إليه في ذلك عندما علم الخصوصية التي ميزه الله بها حتى عن الرسل والأنبياء؟ والجواب أن المكانة التي يتبوؤها الصالحون والمقربون من عباد الله تعالى، تحجزهم عن وساوس الشياطين ولا تخرجهم عن عموم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ”إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم” فكما يكون أحدهم معرضا للنفحات والتجليات العلوية التي قد تحمل في داخلها دقائق العلوم والإلهامات، يكون في الوقت ذاته معرضاً لما قد يلتبس به من وساوس الشياطين وأباطيلهم الكاذبة، فلابدَّ إذن عند تحويلها إلى ملكة العقل وسلطان الوعي من عرضها على ميزان القرآن والسنة، فإما أن يستبين أنها حقائق علوية داخلة تحت مظلة واحدة من هذين الأصلين، فيقبلها العبد الذي تلقاها على العين والرأس، والذي يدعو إليها ويأمر بمقتضياتها، وإما أن يستبين أنها أباطيل وظلالات سفلية تسربت إليه عن طريق بعض شياطين الجن، فيرفضها، ويتجنبها، ويحذر من الانخداع بها و الوقوف عندها. وقد كان سيدي الشيخ عبد القادر الجيلاني من أجلّ من اتفق أجيال العلماء على صلاحه وعلو كعبه في مقام الولاية ومنازل العارفين، ومع ذلك فإن مكانته لم تنجه من تلبيس الشياطين وتزيفهم الباطل أمامه بصورة الحق، ومحاولة إيهامه، بأنها حقيقة علوية ربانية هبطت إلى قلبه خاصة نورًا من لدنه. وإليك ما يرويه في ذلك ابنه الشيخ موسى عنه. يقول: ”سمعت والدي يقول:خرجت في بعض سياحاتي إلى البرية، ومكثت أياما لا أجد ماء، حتى اشتد بي العطش، فأظلتني سحابة ونزل عليَّ منها شيء يشبه الندى فرويت، ثم رأيت نوراً أضاء به الأفق وبدت لي صورة، ونوديت منها:يا عبد القادر أنا ربك وقد أحللت لك ما حرمته على غيرك، فقلت أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إخسأ يا لعين، فإذا ذلك النور ظلام وتلك الصورة دخان، ثم خاطبني وقال:يا عبد القادر نجوت مني بعلمك بحكم ربك، وقوتك في أحوال منازلاتك، ولقد أضللت بهذه الواقعة كثرين من أهل الطريق، فقلت لربي الفضل والمنة” (انظر: شذرات الذهب لابن العماد). وهذا وما أفترض أن يخص الله بعض عباده المقرّبين إليه، بخصوصيات استثنائية مخالفة لعموم ما هو مقرر في القرآن والسنة، على غرار الخصوصيات التي متع الله بها الخضر مما يخالف الشريعة المنزلة على سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام، فالجواب عنه أن ذلك كان سارياً في العصور التي كان يُبعث كل رسول فيها إلى قبيلته أو بلدته التي هو فيها أو إلى قومه الذي ينتمي إليهم، أي قبل بعثة خاتم الرسل والأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعث إلى العالم كافة إلى يوم القيامة. إن شمول الرسالة التي بعث بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، للناس كلهم، على اختلاف أصقاعهم وأزمانهم، يتعارض معارضة حادة مع صحة هذا الافتراض. فالخضر لم يكن بالضرورة واحداً ممن بعث إليهم سيدنا موسى بالشرع الذي أنزل عليه، أما الأولياء الذين قد يكرمهم الله بالحقائق والعوم اللدنية ممن جاؤوا بعد بعثته خاتم الرسل والأنبياء، فهم داخلون يقينا في عموم من بعث إليهم خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فلا تكون معارفهم لدنية إلا بعد التأكد من عدم وجود أي تعارض بينها وبين ما بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم من العقائد والأحكام.فإن ظهر أي تعارض حقيقي بينها وبينه فهي أباطيل سفلية يمخرق بها شياطين الجن على من يسعون إلى تضليلهم والعبث بأفكارهم.. والله عندما يكرم هؤلاء بحقائق من العلوم والإلهمات اللدنية، المطلوب منهم أن لا يستعجلوا في التعامل معها والاستنباط منها، فإنما ترد إليهم مجملةً في غلاف من نور يشِّع في بصيرتهم، فإذا استقرت وانفصل الحال، وعاد فتكامل لديهم الوعي، فليعرضوا ذلك مفصلاً على عقولهم، ولَيزِنُوه بميزان القرآن والسنة.فإن كان موافقاً لهما فذاك، وإلا فليضربوا به عرض الحائط. المرحوم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي