أغنية هبة طوجي وطنيةٌ وملتزمةٌ حتى الثمالة، لكنها تتفادى حدّة ماجدة الرومي وقسوتها، ولا تذهب إلى المغامرة بكلمتها درجة تمجيد المقاومة، وقسمة الناس من حولها، إلى فريقين لا يلتقيان، كما تفعل جوليا بطرس. وفقًا للنهج الرحباني، التوفيقي الجامع، والحذر من الانزلاق إلى تيار سياسي أو حزبي، تغني هبة طوجي، لكل اللبنانيين وخلفهم العرب. لم ينتبه كثيرون بعد إلى ظاهرة تنمو بسرعة، لكن بهدوء من دون ”ماركيتنغ” صاخب أو توظيف أموال فاجر. انشغل الناس بتقييم مشاركتها في ”ذا فويس”، المخصص للهواة المبتدئين، بطبعته الفرنسية، الأسبوع الماضي، وهي المحترفة صاحبة الألبومات، وبطلة المسرحيات الغنائية الرحبانية الشهيرة. ربما أن الأمر لا يعدو طموحًا بمزيد من الانتشار الجغرافي، لكن الصبية العشرينية، تسجل في لبنان ما هو أهم بكثير مما يمكن أن يمنحه لها برنامج ترويجي عابر. للمرة الأولى بعد فيروز يحصل، في السنتين الأخيرتين، أن يتقاطر ويتزاحم شبان يافعون وآخرون لا تتعدى غالبيتهم الثلاثين، لحضور حفلات لمغنية تؤدي على المسرح باللغة العربية. كتب أحدهم لهبة طوجي على ”تويتر” قائلاً: ”الجيل الجديد، بحاجة ماسة، لمغنية ملتزمة وجميلة تعبر عما يدور في خوالجه”. أعاد الثنائي غدي وأسامة الرحباني (نجلا منصور) مع كلمات الأول وألحان وتوزيع الثاني، بصحبة صوت هبة طوجي إلى الأغنية بالفصحى والعامية شبابيتها، على ما يبدو، تمكنوا معًا من استقطاب جيل كامل، مفرنج، ما عاد يؤمن أن للغته أغنيات جديرة بأن يصغي إليها. مؤثر أن ترى هؤلاء الصغار الذين أدمنوا أغنيات فرق ”سكوربيون” و”ماسيف أتاك” و”أبيكا” الآتية من غرب لا يشبههم، يرددون بحماسة، وهم الذين يبدون أبعد ما يكونون عن الحدث السياسي، وأقرب إلى اللامبالاة بواقع بائس ومشرذم أغنية طوجي التي أهدتها لمطلق الثورات التونسي محمد بوعزيزي عن ”الربيع العربي” وينشدون، ”عملوها ثورتنا حمرا تقتل باسم الأديان”، أو ”خوفي هالشعب العربي غيرو يحررلو الثورات ويبقى جاهل مثل الصبي يحكم بصفوف الروضات”. بالتعاون الذي لا ينقطع مع الثنائي الرحباني الجديد غنت في هجاء ”المرتزقة” و”الديكتاتوريات” و”النهب”، وضد ”الإرهاب” ولحرية ”المرأة العربية” تستنهضها من السبات والغفلة، و”غيفارا” و”المدن الحزينة” و”الفقراء” وانتقدت ”الزعماء والوزراء والمدراء والسفراء” الذين اختلفوا ”حتّى عالموال” وتركوا شعبهم ”مديون وطفران”. لا تزال التجربة الثلاثية السلسة، ابنة السبع سنوات، موضع استخفاف، ومكان جدل وانتقاد، وهي التي بدأت في ظلال منصور الرحباني، وباستمرارها بكلمات غدي وفي كنف أسامة الذي تبنى الصوت، وأخذ ينحته كما فنان مجنون ومرهف يريد أن يجعل من تحفته حياة نابضة لا شيء يوقف هديرها. شغف أسامة غريب بإمكانات هبة، هو الذي ينهل بحب من الموسيقى الغربية، ويبقى أمينًا لإرث والده وعمه، عندما يرافق مغنيته ويعزف بمهارة ناقرًا على أصابع البيانو. شيء يذكر، رغم الاختلاف البيّن بين التجربتين، والزمنين كما النمطين الموسيقيين، بإيمان عاصي الذي لا يحيد، بقدرات حنجرة فيروز وملاءمتها لصدى رؤاه. قد لا يكون المسار المقبل واحدًا، وهذا تقرره الأيام والظروف، وجمهور يعرف ما يريد. قد لا يبقى غدي شريكًا في الكلمة على منوال ”منصور وعاصي”. لكن ثمة شرارة لا بد من التقاطها، حكاية جميلة تبدأ يصعب تحديد خواتيمها. هناك رغبة دفينة على ما يبدو بعدم التخلي عن تقليد عائلي صنع مجدًا، وإن كانت ذكراه مشوبة رغم الأرشيف البديع المجنح، بدراما عائلية حزينة. لا تشبه مشاركة هبة طوجي في ”ذا فويس”، حتى وإن انتهت إلى خروج مبكر، من سبقها من اللبنانيين، أي تلك التي رأيناها للشاب جوني معلوف في الموسم الأول، وأنطوني توما في الموسم الثاني، وألين لحود في الموسم الثالث. فالفنانة التي تغني بالعربية بلدها وجيشها والعرب، وبلغات متعددة، تذهب في وقت حرج، حيث سمعة العرب في الحضيض، وهي حاملة تاريخها الصغير المفعم بالحماس الوطني، وطلتها الرومانسية المحببة. قد تكون أغنياتها هناك، مجرد أنغام حب عاطفية، مسايرة لفرانكوفونية لا تستسيغ الكلام السياسي، ولو كانت نكهته إنسانية تعلن حياديتها وتشرّع سلميتها، لكنها تبقى محاولة قد تعود منها الصبية خائبة دون أن تخسر الكثير، أو تضيف إلى رصيدها ما يستحق عناء السفر. أراد أسامة الرحباني، إذن، أن تكون موسيقاه، محمولة بأوتار حنجرة هبة طوجي وهو يطوعها ويثقفها، ويطلقها مشكّلة على طريقته، دون أن تخلو هذه الشراكة الفنية المنطلقة كسهم ناري، من مشروع، يبدو في جوهره استكمالاً لرسالة العائلة الرحبانية الممتدة على مدى زمن عربي صعب ومليء بالحفر المفخخة. من يعتقد أن الرحابنة بأجنحتهم المتمردة، هم مجرد ماضٍ انقضى، لعله لا يريد أن يصدق بأن زياد لا يزال قادرًا على إدهاشنا بمجرد أن يطل على المسرح، وأن في منزل منصور هناك من يحلم ويكتب عن بلد مسيج بالورد والياسمين، في حمى جنود ”في زوايا الوطن الأربع مثل الشجر مزروعين”، وعن بلدان عربية تنتظر ”شتاء يغسل أراضيها الحمراء”.