عاد السهل الممتنع كي يتسلل، ينتشر في الأرجاء وبينها، ويتحبب إلى الأسماء، لم تنقطع عنا فيروز لحظة واحدة في مشوارها، لم تنقطع عن الحياة العربية كاملة، بل كانت العنوان ومضمونه، المفاهيم والمرجعيات، الخطاب وحجاباته، النص وطبائعه، فقط مع فيروز يمكن القول ذلك الكلام من نوع المشروع الفيروزي، اللغة الفيروزية، الحكاية الفيروزية والحب على طريقة فيروز.. رافقتنا فيروز مذ مقاعد الدراسة، منذ الزمن الطفولي الأول إلى حياتنا وخياراتنا واشتباكاتنا، كانت صورتنا التي لا نكونها، حلمنا الذي لم ندركه، حبنا الذي لم نستكمل مشاويره. لا يملك كاتب عربي إلا حبره وأغاني فيروز، لا تملك طالبة عربية في الأقسام الإعدادية أو الثانوية إلا أمشاطها وشرائط فيروز، لا يملك الجندي العربي المرابط على خنادق ما قبل القتال إلا بارودته وأغنيته الفيروزية.. تذكر فيروز مع الرحابنة دائما، منصور وعاصي وزياد وهم الكثرة الغالبة من عائلة تمتد ولا تتوقف وتصل عند ريما والياس ولا تنتهي، وهؤلاء نحوا مع المطربة مناحي مختلفة وعبروا بها مسارات مشتبكة ووعرة إلى غاية الشجار الأخير الذي حصل، وقد جسد الوعكة الأولى في سلسلة عطاءات وتناغمات لم تنفك ولم تتحلل إلا من نفس شرقي طويل، أشبه بالأبدي، وقد هام به الناس وشغفوا به واستسلموا لروحيته. في المسار ونهايته خاض العالم وهاج، لكن الطبيعة شاءت أن يشغل المكان الفيروزي بأي شيء، بالحدث، بأقاويل الصحافة، بما تمتلئ به الآذان وتتساكن له، تلوكه، الانفصام الرحباني، الفيروزي كان كالفصام في العرى وكالطلاق بعد حب تتبعته قوافل العذال، الغيورين من صورتهم التي لن يكونونها، غيورين من أشياء كثيرة غنتها فيروز، ومن وصالات مطلوبة كانوا غيورين، ومن ذا الذي سيبلغ يوما مراد وصاله، حيرة عمت، غرابة، ضبابية، غيرة، حسد، لعب إعلامي طائش عام وفيروز لا تتحدث، لا تداخل، لا تخرج إلى الصحافة كما هو عهد أية امرأة عربية تذكر سيرتها بسوء وبغير سوء، سهلة كانت وممتنعة كانت.. إن التجربة الفيروزية لا يجب أن تحمل خارج إطارها، فهي تجربة في الوجدان العربي ومن داخله، ليست هي ثورة النغم والأسلوب والحداثة والتطوير، بل هي الإطار نفسه على تمام اكتماله وريعان تجربته.. وإذا كان منصور وعاصي متسيدان للتجربة هذه وأطوارها حتى مبلغ النضج، فإن زياد تقدم من الخلف حاملا معه زاده المعرفي بالموسيقى الغربية وبهاراتها على الرغم مما يقوله الناقد الياس سحاب عنه كونه غرف من الينابيع الأولى للرحابنة، وهو نتاج صرف للذائقة الرحبانية، لكن زياد خطا خطوته الواثقة نحو فيروز بيساريته الراديكالية، بمذهبه الاستثنائي في الشكل والتعبير والكلمات، وقد ألهم المغنية تأثيراته ومصادره التي تجلت واضحة في أوائل منتصف السبعينات ''نطرونا كثير'' و''حبو بعضن'' وحتى نهاية هذه الأعوام تطعمت الفيروزية بالنكهة الزيادية، نكهة على مذاقات جاز هفيف، خفيف، ''أنا كان عندي حنين، ما بعرف لمين'' و''بعتلك'' و''حبيتك تنسيت النوم''.. لقد كانت رائعة ''حبيتك تانسيت النوم، يا خوفي تنساني'' شغلا مضبوطا، عالي المزاج، وبدت مزاجيته كعمل غنائي لحني، زيادي، موفورة النجاح في عالم عربي ضحل وغث ومنكوب، وبذلك التوصيل الذي اجتهد فيه زياد وداوم عليه مذ دخوله على الخط الفيروزي أي مذ رائعة ''سألوني الناس عنك يا حبيبي''. ومن حيث المنحنيات والخرائط، يبدو زياد الرحباني أوفرهم بصمة وجدالية، إذ أنه ظل ينشز ويتمرد ويحرق في المسافات ويضفي للحن حداثته الممكنة التي تتهجن بروحية الغرب.. إلى درجة المبالغة يشيد النقاد والأصدقاء والمغرومين بالرحابنة، أبناء موسيقى، أبناء شرق، أبناء فضيلة خاصة وهم علامة من علامات بني عبقر، لكن زياد جاءهم من خلفهم وخلف فيروز، ملحن سافر، حداثي، ساخر في تحديه وفي تراكيبه الموسيقية ويتمايز عنهم بظروف منشئه وغلبته التشيغيفارية، انوجد بمزاجه الساخر وحكيه المتعثر حتى في عمق اللحظة الموسيقية ولطالما امتعض منه العالم وجمهور فيروز خصوصا، فعندهم هذا النسر المتوثب سرق منهم فيروزهم، كما ينقل لنا الناقد الموسيقي شهادته عن التجربة المزدوجة في ثنائية لا تبرح ميديا العرب وجمهورها، فيروز والرحابنة.. إنني اخترت آخر ما في الفاكهة، آخر ما في التعبير، وآخر ما في المزاج، ففيروز ظاهرة كونية كبرى أكبر من الكلام المنمق، المزوق وهي لم تكن وردة من وردات السيلكون في الزمن العربي الآني الآهل بالسيليكونات، إن آخر ما في ظاهرتها ما يتجاوز حكاية الإرث المادي وشواغله وعقود المعاملات وبنودها، إنها في زياد ذاته الغاوي، الغازي، الواثق من عصرنة فيروز وإبقائها على عرشنا. سيدة صمتنا والليل، سيدة الوشاحات والحب، سيدة بيروت والضوء عرفت كيف تخلد في عصرنا وتستمر فيه وتوزع أغانيها على كل الأجيال العربية قاطبة. ظلت التماعاتها مستمرة في الدواخل، ظل الوجدان العربي يتحرق شوقا وحنينا يكابد، يجيش بصوتها وفي صوتها... وكانت فيروز مع رحابنتها الشجن كله، الفرح الخبيء، بياض ثلج صنين وكل تلوح لبنان المرئية وغير المرئية.. لكن الرحباني الأخير كان حساسيتها الجديدة ثورتها في الهوى وسخريتها في الغناء، لأن فيروز لا تسخر في الحيلة، لا تخابر الصحافة ولا تظهر إلا في القلوب..