3 أشهر قبل الانتخابات العامة في بريطانيا، أهدت الصحافة اليسارية زعيم المعارضة العمالية سلاحا سياسيا مزج الاقتصاد بالقانون بالانطباعية العامة والعواطف الشعبية: سلاح الضرائب. ولشرح الأمر للقراء المحظوظين من بلدان لا تثقل عاهل مواطنها بالضرائب، فإن دخل الخزانة البريطانية مصدره الضرائب؛ لأن ديمقراطيات السوق المفتوحة لا تمتلك دولها وسائل إنتاج تدر دخلا، لكنها تمول خدمات الصحة والتعليم والمواصلات من الخزانة العامة ومصدرها الضرائب: ضريبة الدخل على الأفراد، وهي تصاعدية تبدأ بما فوق المبلغ المعفى (نحو 11 ألف جنيه سنويا) ثم تتصاعد النسبة حسب ارتفاع الدخول من 40 في المائة إلى 50 في المائة أو أكثر، وضرائب التمغة مثلا على بيع وشراء العقارات والأسهم، وضرائب القيمة المضافة (20 في المائة على السلع والخدمات)، وضرائب مرتفعة كضريبة القيمة المكتسبة لرأس المال أو الأصل الثابت، وضرائب على الميراث ب40 في المائة من قيمة التركة، وضرائب وقود السيارة، وعلى السيارة نفسها، وضريبة العقار. وهناك دخل الخزانة من الضرائب على أرباح الشركات ومبيعاتها وعلى الاستثمارات وحركة المال في السوق. التهرب من دفع الضرائب tax evasion جريمة (من الفعل to evade يعني الزوغان) أما تجنب دفع ضرائب (بلا ”أل” التعريف) tax avoidance فليست مخالفة يعاقب عليها القانون. بل هناك حوافز لتقليل دفع ضرائب إذا كان ذلك في صالح الأمة على المدى الطويل. وزير المالية المحافظ جورج أوزبورن مثلا رفع سقف معدل الادخار في استثمار المعاش، فمثلا ادخار 10 آلاف جنيه سنويا في استثمار للمعاش تخصم من المطلوب للضرائب؛ لأن ادخار المواطن للمعاش سيقلل من تحمل الخزانة أعباء معاشه في سن التقاعد. مرونة سياسة ضرائبية توفر للمستثمرين فائضا يمكن استغلاله للإنتاج ولخلق وظائف توفر بدورها دخلا لفئة جديدة تساعد في تحريك السوق ويدفع الموظف ضرائب دخل للخزانة. تقنين الاستثمارات بالسياسة الضرائبية وتحفيز الاستثمار يحرك الاقتصاد ويساعد على نموه. الضرائب التصاعدية يجب أن تكون قاعدة للعدالة الاجتماعية وليس إجراء ظاهريا للتخفيف من حدة الحقد الطبقي. اليسار يريد استبدال السياسة الضرائبية بتأميم الاستثمارات ووسائل الإنتاج، وبروباغندا الاشتراكيين لا تفرق بين تجنب دفع المزيد من الضرائب عبر مرونة اللوائح وبين التهرب من الضرائب، ويحاول اليساريون الماركسيون ترويج كراهية المرونة الضرائبية كممارسة لا أخلاقية بأسلوب دعائي يشبه التبشير الديني. ظهر تحالف صحافي اشتراكي بين أقطاب اليسار، ال”بي بي سي” و”الغارديان” وال”لوموند” الفرنسية استثمروا الوقت والجهد في تحقيقات صحافية عبر تسريبات من البنوك وسجلات ”مصرفية مسروقة” (ويذكر القراء كيف قادت ال”بي بي سي” و”الغارديان” حملة إدانة زملاء صحافيين بتهم التجسس على المكالمات وسرقة رسائل الساسة كجريمة لا أخلاقية). حسابات الناس المسروقة من HSBC وهو بنك عالمي من أعمدة المؤسسة المالية البريطانية، كشفت أن له فرعا للحسابات السرية الخاصة في سويسرا لإيداعات مشاهير بريطانيا، أحدهم، وهو لورد في مجلس الشيوخ، كان رئيس صندوق دعم حزب المحافظين. توقيت نشر المعلومات - التي تخصص لها ال”بي بي سي” نصيب الأسد من نشرات الراديو والتلفزيون والبرامج الحوارية طوال الأسبوع - عشية الانتخابات يطرح تساؤلات. وظف زعيم المعارضة العمالية إدوارد ميليباند الموضوع في المناظرة البرلمانية الأسبوعية ليتهم حكومة المحافظين بتآمرها مع الأثرياء للتهرب من الضرائب. الحملة التي روجت لها ال”بي بي سي” أدت لتأجيج الحقد الشعبي على أصحاب الثروة (لم يتوقف أحد ليفكر في أن محاصرة المستثمرين لاقتناص بضعة ملايين دخل ضريبي قد تدفعهم للانسحاب من السوق إلى ركود وبطالة العاملين لديهم وخسارة مليارات) والانطباع العام public perception في الحياة السياسية يفوق المعلومات الحقيقية تأثيرا عند الناخب. الأموال التي يهدرها القطاع العام ومؤسسات الخدمات التابعة للدولة تبلغ أضعاف ما تخسره الخزانة من متجنبي دفع الضرائب عبر الحسابات السرية في سويسرا (مثلا جهاز كومبيوتر شخصي يكلف الشخص العادي - حسب مستواه، ما بين 300 جنيه لجهاز عادي إلى 900 جنيه، ومثيله يكلف البلدية المحلية أو وزارة الصحة ما بين 2000 و3 آلاف جنيه) أو مثلا دعم ما يسمى بالطاقة الخضراء من الطاقة الشمسية أو طواحين الهواء وصلت العام الماضي إلى مليونين من الجنيهات يتحملها المواطنون عبر إضافتها على فواتير الكهرباء للمنازل. لكن تحالف الصحافة الاشتراكية لم يستثمر وقتا أو جهدا في التحقيق في إهدار المال العام؛ لأن اليسار يتجاهل إخفاقات القطاع العام ويستهدف المستثمر الخاص. وحتى في إطار تحقيق أرقام الضرائب، فإن هذه الصحف تجاهلت أكبر تهرب من الضرائب يكلف الخزانة البريطانية ما يفوق 8 مليارات جنيه إسترليني سنويا، وهي الأعمال العامة والخدمات التي يقوم بها المهاجرون، من الاتحاد الأوروبي أو خارجه. مربيات الأطفال، أو خدم المنازل، أو السائقون أو عمال الإصلاح والبناء، يفضلون الحصول على أجورهم نقدا. مربية أطفال أو سائق من رومانيا أو بلغاريا، إذا تقاضى الأجر نقدا مثلا 120 جنيها أسبوعيا سيوفر لمخدومه 80 جنيها لو تعامل بعقد. العامل لا يسجل الدخل في مصلحة الضرائب، ويوفر 35 جنيها كان سيدفعها ضرائب. مهندس التدفئة البولندي إذا أصلح أجهزة التدفئة المركزية بفاتورة رسمية وتلقى الأجر بشيك أو تحويل بنكي قد يكلفك 7 آلاف جنيه، لكن أي صاحب دار سيدفع 5 آلاف فقط نقدا، ويوفر على نفسه ألفي جنيه. الخزانة خسرت 1300 جنيه ضريبة القيمة المضافة على الفاتورة إلى جانب 1113 جنيها ضريبة دخل يفترض أن يدفعها المهندس لمصلحة الضرائب. لكن تحالف ال”بي بي سي” و”الغارديان” وال”لوموند” لم يذكر ذلك، بل ولم يفكر في الأمر كتهرب من الضرائب. ليس فقط لأن الاشتراكيين يدعمون فكرة الهجرة، بل لأن ذكر هذه الحقائق يضر بالعمال انتخابيا وهم يستهدفون المحافظين لهزيمتهم. ومن المتوقع أن ترد صحافة اليمين في الأسابيع القادمة بتحقيقات تضر بسمعة العمال وتكشف برنامجهم كتخريب للاقتصاد، وستثير قضايا تهم الناخب الذي يصوت تقليديا للمحافظين كقضايا الهجرة، وإهدار المال العام فيما يسمى بالطاقة الخضراء، وتسلط الاتحاد الأوروبي على حياة المواطن البريطاني... لكن تبقى القضية المحورية التي نريد أن ننبه القراء لها، وهي أن تحقيقات اليسار أو اليمين للأضرار بالخصم انتخابيا (سواء حول الضرائب، أو الاتحاد الأوروبي أو تدفق المهاجرين) ترتبط دائما بقضية محورية، وهي الاقتصاد وماذا تعنيه نتائج الانتخابات، هل الحكومة الجديدة التي ستنتخب في 7 مايو (أيار) لها سياسة تعني المزيد أو الإنقاص من الجنيهات في جيب المواطن بعد أن يوازن دخله الأسبوعي أو الشهري بما ينفقه على أسرته وحاجاته؟