وكأنما أصاب أدمغتنا الخدر، وأخيلتنا الشلل لفظاعة ما سمعناه عن انتهاكات مروّعة بحق النساء في سوريا والعراق. الاغتصابات لم تتوقف، رغم خفوت وهجها الإعلامي، بل هي إلى تصاعد، بحسب كل التقارير الدولية. ليس الجديد هو دفع ”داعش” بكتيبة ”الخنساء” النسائية إلى ساحة الوغى، وتوزيع صورها التي شغلت الرأي العام، بل الإمعان المتنامي والمدوّي في التنكيل بمزيد من النساء، وإخضاعهن لإذلال لم يعد العالم يعرف له مثيلاً. لعل الجديد فعلاً هو الصمت المتمادي والمريب الذي يلتزمه العرب، أصحاب الشهامة والنخوة، حيال ما يحدث لنسائهم، وكأنما هذه الفضائح المستمرة من بيع للمرأة في أسواق النخاسة واستعبادها جسديًا إلى تزويجها قسريًا، وتداولها بين المقاتلين، هي من مستلزمات الحرب وجزء من ضريبة على الأضعف أن يدفعها صاغرًا وسط تواطؤ الأقوى وربما تورطه. الأممالمتحدة تتحرك، تحت وطأة الأخبار المتعاظمة، وتوفد مبعوثتها للتحقيق في جرائم جنسية ملأت أخبارها الصحف تجري في البلدين. ”هيومن رايتس واتش” لم تستسلم بعد، وتقاريرها المخيفة حول السبي والاغتصاب تتوالى بانتظام وتحذر من أن الضحايا، حتى اللواتي هربن من جلاديهن وتحدثن عن مآسيهن، بقين متروكات لقهرهن ولا من يعنى بهن. الاتحاد الأوروبي يدرس برنامجًا لحماية شبانه وشاباته من إغراءات الانخراط، في جماعات متطرفة صارت تعرف كيف تصطاد طرائدها بمهارة أكبر، بعد أن صارت فتيات صغيرات في الثالثة عشرة، وأخريات جامعيات وميسورات، من بين المغرر بهن للالتحاق بخدمة المقاتلين الأشاوس. جمعيات وهيئات أميركية تدرس الظاهرة، وتوثق الجرائم، من أجل محاكمة المعتدين. أما تونس، البلد الذي جند منه العدد الأكبر من الفتيات، لا يبدو أنه يحرك ساكنًا. ومن عجائب هذا الزمن العربي الذي لم يعد فيه من مقياس ولا ناموس، أن ”جمعيات حقوق المرأة” التي تنشط بالعشرات، وتقيم الدنيا ولا تقعدها من أجل سيدة واحدة معنفة أو في سبيل إعطاء المرأة جنسيتها لأولادها، لم ترفع صوتًا أو تبدي احتجاجًا، للتضامن ولو لفظيًا، مع آلاف البريئات في الأسر اللواتي يغتصبن ويوزعن كهدايا على المقاتلين. يسجل للأزهر أنه من بين المؤسسات القليلة التي التفتت إلى مأساة النساء، بعد أن صدر تقرير من دار الإفتاء المصرية يظهر أن 10 في المائة من الانتحاريين بتن إناثًا، وأن الجريمة وصلت حد غسل الأدمغة والدفع بهن إلى الانتحار، وأنهن سيكن أول المستخدمات في الموجة الإرهابية المقبلة الموجهة إلى أوروبا. يسجل للأزهر قيامه بإنشاء مرصد إلكتروني، لمتابعة ما يبثه ”داعش” للتغرير بالفتيات والرد عليه، وسعيه لعقد مؤتمر عالمي، لمكافحة تجنيد النساء والزواج بقاصرات عبر ”الفيديو كونفرنس” بعد إصدار فتوى بتحريم هذا الصنف من الزيجات. الأرقام تشهر أنيابها لتفترسنا. أكثر من 7 ملايين امرأة هجّرن من بيوتهن في سوريا وحدها. 38 ألف شخص هم من تمكنوا من إبلاغ الأممالمتحدة عن اعتداءات جنسية تعرضوا لها، فكم يفترض أن يكون العدد الإجمالي، في مثل هذه الأحوال، ما دام البوح بالسر يعاقب عليه المجتمع، وقد تتعرض صاحبته للقتل حتى من أفراد عائلتها؟ كتبت منال عمر، نائبة رئيس ”معهد الشرق الأوسط وأفريقيا للسلام” في الولاياتالمتحدة، بناء على دراسات وشهادات موثقة، أن الحرب الأهلية الدائرة في سوريا باتت ”حربًا معلنة ضد النساء” اللواتي بحسب ما تظهر المؤشرات، ”سيجدن أنفسهن مستقبلاً، في وضع أسوأ مما هن عليه اليوم، أيًا كانت الجهة التي ستنتصر”. وأن الاغتصاب لم يعد أمرًا عرضًا بل إحدى ”الاستراتيجيات الممنهجة والمنظمة” التي تمارس لترويع الآمنين، من قبل الأطراف المتحاربة المختلفة، لا سيما ”النظام” و”داعش”. هذه الجرائم لم تميز فئة أو ملة، وتعرضت لها درزيات وسنيات وعلويات، حتى إن النساء، بمختلف طوائفهن وفقًا لهذه الدراسات، بتن لا يفرقن بين نظام ومعارضة، لما لحقهن من أذى سواء بالسجن أو التعذيب أو حتى الإهانات على حواجز التفتيش. توصف الانتهاكات الفظيعة بحق النساء العربيات أو الإيزيديات، على سبيل المثال، بأنها أكثر من ”جرائم حرب” وتصل إلى حد ال”جرائم ضد الإنسانية”. كتيبة ”الخنساء” النسائية التي يروج لها ”داعش”، ويباهي بصورها في الإعلام، ويفتي بشرعية إرسالها إلى أرض المعارك، ويوظفها لتخويف الناس والتجسس على حرمات العائلات، لا تعني أنه أخرج المرأة من حيز الاستعباد المهين إلى دور القيادة الفعلية. ما يحدث هو رفع مستوى الاستغلال والتوظيف الإجرامي، بعد أن فقد ”داعش” الكثير من مقاتليه وقيادييه، وسقطت ثقته بمحاربيه، الذين فر بعضهم، وخان بعض آخر، تحت وطأة ضربات التحالف. الخنساء التي دفعت بأولادها الأربعة للشهادة في ”معركة القادسية”، من أجل نصرة قضيتها، لم تكن لها أخوات تشهر بوجههن كل أشكال المعايب، ويمارس بحقهن الاستعباد الجنسي بأبشع صوره. كان لتلك الشاعرة المخضرمة جرأة اتخاذ القرار، وحرية القول وبلاغة المعنى. ظلم للخنساء في قبرها أن تشوه سمعتها العطرة، في مهلكة ليس لها اسم سوى ”العار” ووصف غير ”المذلة”.