2025 سنة حاسمة للجزائر    غزّة جائعة!    بنو صهيون يقتلون الصحفيين    التلفزيون الجزائري ينقل جمعة مسجد باريس    براف باق على رأس الهيئة القارية    يوسف بلايلي.. العائد الكبير    شبيبة القبائل تتقدّم وترجي مستغانم يتنفّس    دعوة إلى تسهيل حياة ذوي الاحتياجات الخاصة    والي العاصمة يعاين أشغال إعادة تهيئة حديقة وادي السمار    لِرمضان بدون تبذير..    استحداث 5 ثانويات جهوية للرياضيات    شؤون دينية: تحديد قيمة زكاة الفطر لهذا العام ب150دج    باريس تغرق في شبر من ماضيها الأسود    "بريد الجزائر" يلتزم بخدمة ذوي الاحتياجات الخاصة    مديريات لتسيير الصادرات ومرافقة المتعاملين    "التاس" تصدر قرارها النهائي غير القابل للطعن    الملالي: أحلم بالتتويج بلقب مع المنتخب الوطني    توتنهام الانجليزي يدخل سباق ضم ريان آيت نوري    ملتزمون بدعم آليات التضامن والتكفّل بذوي الهمم    وزير المجاهدين يشرف على إجتماع لمتابعة تحسين وتحديث آليات الإتصال الإداري    تعزيز التعاون الجزائري التونسي في قطاع التضامن    أهمية إرساء قيم الاخلاق التجارية الاسلامية    مساع لإنصاف فئة ذوي الهمم    حجز 6 أطنان مواد استهلاكية فاسدة    أرشيف لأول مرة على التلفزيون الجزائري    الحقن وطب الأسنان لا يفسدان الصيام والمرضع مخيَّرة بين الفداء أو القضاء    الجوية الجزائرية تذكّر بالزامية اختيار رحلة الحج    وقفة إجلال أمام عزيمة ذوي الاحتياجات الخاصة    ليالي أولاد جلال للمديح والإنشاد : الفنان مبارك دخلة يطرب الجمهور بباقة من اغاني المالوف    هنأ رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي.. رئيس الجمهورية يهنئ السيدة حدادي بمناسبة تنصيبها ومباشرة مهامها    لمواكبة التحولات الرقمية.. دعوة إلى عصرنة المركز الوطني للسجل التجاري    طاقات متجددة : المشاريع المشتركة محور لقاء بين السيد ياسع وسفير ألمانيا بالجزائر    ديباجة العدد 99 من مجلته الدورية : مجلس الأمة يجدد التزامه بدعم مشروع بناء "الجزائر المنتصرة"    حج 2025:اختيار رحلة الحج نهائي وغير قابل للتغيير    وزير التربية الوطنية يشرف على الاحتفال باليوم الدولي للرياضيات    العدوان الصهيوني على غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 48543 شهيدا و111981 جريحا    الجمعية العامة العادية ال 22 "للاكنوا" : اعادة انتخاب الجزائري مصطفى براف بالتزكية على رأس الهيئة الرياضية القارية    المسابقة الوطنية في تجويد القرآن "قارئ تلمسان": تكريم الفائزين بالمراتب الأولى    بلمهدي يُرافِع لتكوين مُقرئين ومؤذّنين ببصمة جزائرية    حفاوة جزائرية بالثقافة الفلسطينية    تكريم الفائزات في مسابقة المقاولات الناجحات    هكذا تحارب المعصية بالصيام..    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يدعو إلى تظافر الجهود لمواجهة التحديات التي تعاني منها فئة ذوي الاحتياجات الخاصة    شرفة يترأس اجتماعاً    حج 2025: اختيار رحلة الحج نهائي وغير قابل للتغيير    رمضان : آيت منقلات يحيي حفلا بأوبرا الجزائر    مجمع سونلغاز يكرم عماله من ذوي الاحتياجات الخاصة    الرابطة الأولى: شبيبة القبائل ترتقي الى الوصافة, ترجي مستغانم يغادر منطقة الخطر    الأمم المتحدة تحذر من تزايد حدة الأزمات الإنسانية في قطاع غزة والضفة الغربية    دعوة أطراف النزاع إلى اغتنام رمضان لوقف الاقتتال    "الطيارة الصفراء" تمثّل الجزائر    الدكتور بوزيد بومدين يدعو لفتح نقاش علمي تاريخي اجتماعي    إدراج مكتب أعمال دنماركي في القائمة السوداء    حفظ الجوارح في الصوم    تسويق أقلام الأنسولين المحلية قبل نهاية رمضان    زَكِّ نفسك بهذه العبادة في رمضان    ديوان الحج والعمرة يحذّر من المعلومات المغلوطة    نزول الوحي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحضارة العربية استنفدت أغراضها
نشر في الفجر يوم 06 - 09 - 2015

التنكر لحقائق التاريخ مكابرة قد تفضي إلى الخروج من دائرة التاريخ نفسه. هذا ما يبدو أنه يحصل للعالمين العربي والإسلامي (ماعدا إندونيسيا وماليزيا). فإذا كان العرب بالمجمل يرفضون التفوق الحضاري للغرب، فإنهم إنما يفعلون ذلك بمبررات أخلاقية وسياسية، قد يكون بعضها أو كلها صحيحاً، لكنها في حقيقتها لا علاقة لها بإشكالية التفوق الحضاري. من ناحية ثانية، يتمسك العرب بحضارة عربية إسلامية تسيدت العالم حتى نهاية القرن 7ه/ 13م. في كلا الحالين، يرتكب العرب مكابرة لا مبرر لها. حقائق التاريخ تقول إن الحضارة العربية الإسلامية انتهت واستنفدت أغراضها، وإن الحضارة الغربية هي التي ورثت تلك الحضارة وحلت محلها بتفوق غير مسبوق.
أول شهادة على بداية أفول الحضارة العربية جاءت من أواخر القرن 8ه/ 14م بقلم ابن خلدون الذي عاصر تلك البداية، وذلك في مقدمته الشهيرة. يقول: ”وأما لهذا العهد، وهو آخر المائة الثامنة (الهجرية)، فقد انقلبت أحوال المغرب الذي نحن شاهدوه وتبدلت بالجملة... هذا إلى ما نزل بالعمران شرقاً وغرباً في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف الذي تحيف الأمم وذهب بأهل الجيل وطوى كثيراً من محاسن العمران ومحاها. وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها، فقلص من ظلالها، وفل من حدها، وأوهن من سلطانها، وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أحوالها، وانتقص عمران الأرض بانتقاص البشر، فخربت الأمصار والمصانع، ودرست السبل والمعالم، وخلت الديار والمنازل، وضعفت الدول والقبائل”.
هذا ما كان يحصل للمغرب (العربي) آنذاك. ماذا عن المشرق؟ يقول ابن خلدون: ”وكأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب، لكن على نسبته ومقدار عمرانه. كأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة. والله وارث الأرض ومن عليها” (مقدمة ابن خلدون، ج1، ص 325- 326).
ولو استبعدت الطاعون الذي اجتاح المنطقة آنذاك لبدا لك وكأن صاحب المقدمة يصف ما يحصل للعالم العربي الآن، وتحديداً في العراق، وسورية، ولبنان، وليبيا، واليمن، بل وما يتهدد المنطقة بأسرها. لكن مهلاً. عصرنا يعاني من طواعين عدة، منها التطرف، والطائفية، والديكتاتورية، والفساد، والإرهاب. كأن المشرق والمغرب يستجيب في عصرنا للسان الكون وهو ينادى ”بالخمول والانقباض”، وإنْ لعوامل وأسباب لم يعرفها عصر ابن خلدون. ماذا يعني ذلك؟ يعني أن عملية الأفول التي كان يصفها هذا المؤرخ في عصره أكملت دورتها قبل عصرنا بزمن بعيد. وما يحصل للعالم العربي الآن أنه يعيش آثارها وتداعياتها، ولا يزال يدفع ثمنها. لماذا؟ لأن العربي والمسلم يقاومان حقيقة أن التاريخ تغير، وأن الحضارة العربية وصلت إلى ذروتها قبل القرن 8ه/ 14م، وليس بعد ذلك. وأن التاريخ منذ ذلك الزمن دلف إلى حقبة مختلفة بطبيعتها وسحنتها، ومحركاتها ومتطلباتها، ومتغيراتها. معالم حقبة الأفول لا تزال معنا تحفّنا ذات اليمين وذات الشمال: الفكر الديني ذاته، والطائفية ذاتها، والقبلية نفسها، ومأزق الحكم ذاته، وغياب منطق العلم بلغته وتبريراته. من هذه الزاوية تحديداً يكون الرفض العربي الاعتراف بتفوق الغرب آلية دفاع سيكولوجية خوفاً من هذا التفوق، وليس اقتناعاً بأنه عكس ذلك. لا شك في أن الحروب الصليبية، ومرحلة الاستعمار الغربي بعد ذلك لكثير من الدول العربية، ثم قضية فلسطين صلبت مجتمعة من آلية الدفاع هذه. ومع مشروعية الموقف من هذه الهجمات الغربية، إلا أنه من الغريب حقاً عدم الإدراك بعد قرون من الزمن أن الخوف هو أضعف وأسوأ آليات الدفاع، خصوصاً على مستوى الدول والأمم والحضارات. الخوف رد فعل طبيعي في البداية، لكن كان ينبغي بعد ذلك أن يكون حافزاً لإبداع آلية دفاع حقيقية ترقى لمستوى الحدث، لا أن يكون ويستمر هو هذه الآلية. لكن هذا غير ممكن على الإطلاق من دون أن يكون المنطلق لذلك هو الاعتراف أولاً بحال الأفول، وأن الحضارة العربية قد استنفدت أغراضها، وأن دورة التاريخ أفضت إلى مرحلة مختلفة، انبثقت في إهابها حضارة مختلفة هي مرحلة الحضارة الغربية بقوامها الرأسمالي. والأكثر من ذلك الاعتراف بالتفوق التكنولوجي لهذه الحضارة على المستويين المعرفي والمادي، وبتفوقها الثقافي والأخلاقي أيضاً. لم ولن يجدي كثيراً التمسك بما هو عكس ذلك، وبأن الحضارة الجديدة تعاني من انحلال ثقافي وأخلاقي. وذلك لأن في هذا قياساً للحكم على ثقافة حضارة بمعايير ثقافية تنتمي لحضارة مختلفة انهارت بمنطقها ومعاييرها.
ما هي معالم التفوق الثقافي والأخلاقي لهذه الحضارة؟ تتمثل في كل شيء تقريباً: في الفن بجميع فروعه، وفي الأدب، والفكر السياسي والاجتماعي والفلسفي، والمنهج العلمي. كما تتمثل في سلطة القانون ومرجعيته، وفي استقلال القضاء، وحرمة الدساتير، وفي نظام سياسي يتأسس على مبدأ المشاركة، وأن الحكم ليس امتيازاً بقدر ما أنه خدمة ومسؤولية متاحة نظرياً للجميع. من لا يستطيع رؤية أن التفوق الثقافي والأخلاقي في كل ذلك هو هذا الإطار الذي يجب الحكم من خلاله على الحضارة الغربية كما هي، بمعاييرها وبالمنطق الذي تستند إليه وتنطلق منه، فإنه يحكم عليها بمنطق ومعايير من خارجها. لأنه في هذا الإطار وضعت أسس إنجازات هذه الحضارة في مختلف المجالات تقريباً: في الإدارة، والتعليم، والعمران، والهندسة، والطب، والتكنولوجيا، والفضاء، والفيزياء، والصناعات المدنية والعسكرية... إلخ. الاعتراف بتفوق هذه الحضارة لا يعني بأي حال ضرورة استنساخها، خصوصاً بكل تفاصيلها الثقافية والقيمية، بغرض تطبيقها في إطار تاريخي ثقافي مختلف. هذا غير ممكن في كل الأحوال. لكن الاعتراف هو بداية الوعي الحقيقي بالواقع العربي كما هو، وأنه خرج من إطاره الحضاري، ودخل في إطار حضاري آخر مختلف لم يعد من الحكمة إنكاره. الاعتراف بهذا المعنى هو قبول التحدي المتمثل أولاً بانتهاء الحضارة العربية وخروجها من التاريخ، وثانياً بالإطار الحضاري الجديد بإنجازاته التي لا تتوقف.
المدهش أن العرب تجاهلوا ملاحظة ابن خلدون. اعترف هذا المفكر والمؤرخ والفقيه العربي المسلم قبل أكثر من 700 سنة بأن الحضارة العربية دخلت في زمنه مرحلة الجمود والانهيار. لكن العرب لم يعترفوا بذلك. لم يدركوا دلالة أن تاريخهم استمر منذ ذلك الحين في حال تراجع وانكسار لم يتوقف. هل يستغرب والحال كذلك ما انتهى إليه الوضع العربي بعد ثورات الربيع الآن؟ لم تصل هذه الثورات إلى مبتغاها، وما استطاع مناهضوها وقفها، أو الإتيان ببديل لها يضع حداً لمسبباتها. كل ما هنالك نظريات مؤامرة، وسيناريوات ترسم للمنطقة من خارجها. ترى هل كان المشرق والمغرب في زمن ابن خلدون ضحية للمؤامرات والسيناريوات نفسها؟ لو كان الأمر كذلك لما كانت هناك حضارة عربية من أصلها. مهما يكن، انتهت الحال العربية في زمننا إلى ما يشبه الصورة التي رسمها ابن خلدون في زمنه. وعندما تضع استمرار هذا التراجع العربي أمام بزوغ حضارة جديدة، فإنه لا يعني إلا شيئاً واحداً، وهو أن الحضارة العربية بما كانت عليه قبل القرن 8ه/ 14م دخلت حال أفول وتراجع لم يتوقف، ولم يبق منها إلا ما نشاهده في أيامنا هذه. في المقابل، ومنذ القرن 10ه/ 16م، لم يتوقف الغرب عن النمو والتطور بشكل متواصل. في ذلك القرن كانت بداية الحقبة الحضارية الجديدة التي أخذت في ما بعد اسم ”الحضارة الرأسمالية”.
وعندما لا تدرك هذا التحول، وأن الآخر متفوق عليك، وأنه يبتعد منك تصبح مع الوقت ضحية وهم أنك متساو معه، أو قريب منه في الإنجاز بذريعة التفوق الأخلاقي. والنتيجة أن هذا الوهم يمنع إدراك حقيقة التحدي الذي يمثله تفوق الآخر، وبالتالي يقضي على الدافع الداخلي لمواجهة هذا التحدي والاستجابة له بما يقتضيه. طموح المساواة مع الآخر، ومحاولة السباق معه على الإنجاز هدف سامٍ. لكن عندما يتحول هذا الهدف إلى وهم تبدأ الكارثة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.