نشر، أمس، الموقع الإلكتروني لصحيفة ”فورين بوليسي” الأمريكية مقالا تحليليا للوضع في سوريا للكاتب ديفيد ليش، استاذ تاريخ الشرق الأوسط بجامعة ترينيتي تكساس وكاتب ل 14 كتاب عن سوريا، أهمها : سقوط بيت الأسد، وسورياوالولاياتالمتحدة: حرب ايزنهاور الباردة في الشرق الأوسط، قال فيه، إنّ روسا تكرّر نفس الأخطاء التي ارتكبها الاتحاد السوفييتي، إباّن الحرب الباردة. واستهل ليش مقاله بسؤال حاول الاجابة عنه في مقاله، مفاده: في 1957، تدخلت مصر - حليفة الاتحاد السوفياتي سابقا- في سوريا إبّان الفوضى السياسية السائدة آنذاك، ولم تنجح. فلماذا يعتقد بوتين أن الأمر سيكون مختلفا هذه المرة ؟ واستذكر ليش حادثة عايشها خلال زيارته الأولى لسوريا، سنة 1989، عندما كان طالبا حديث التخرج، يحضر لأطروحة موضوعها ”العلاقات الأمريكية السورية خلال خمسينيات القرن الماضي”، فتوقف في اللاذقية في طريقه إلى تركيا. وخلال مكوثه بها شاهد باخرة سوفياتية ترسو في ميناء المدينة. وشاءت الصدف أن يلتقي بعض البحارة السوفييت ويحتسي معهم كؤوس الفودكا في مطعم على شاطئ البحر. وفي صباح اليوم التالي، سمع سلسلة انفجارات بينما كان يستعد لولوج الأراضي التركية ولم يتبين ما إذا كان الأمر يتعلق بهجوم إسرائيلي؟ أو ضربة أمريكية؟ وبعد وصوله إلى تركيا، بلغه أن طائرات هليكوبتر سورية هاجمت سفينة البحارة السوفيات وقتلت اثنين !!! لقد كان أمرا مخيرا فعلا، لأنّ الاتحاد السوفياتي وقتها كان الداعم الأكبر لسوريا. لم يتبين هل كان الأمر يتعلق بطيارين سوريين معتوهين أو غير كفؤين أو ربما كان الأمر رسالة من حافظ الأسد إلى ميخائيل غورباتشوف يخبره فيها أن دمشق غير راضية عن الاتجاه التي تسير فيه العلاقات بين البلدين - خاصة وأن علاقات موسكو مع الغرب عرفت تقاربا في تلك الفترة. وكان الأخير يضغط على دمشق للقيام بسلام استراتيجي مع اسرائيل؟ لم يعرف أحد حقيقة ما حدث يومها، ومهما كان الأمر فإن الحادثة التي أصبحت في طي النسيان تكشف لنا مدى تعقيد العلاقة بين دمشقوموسكو منذعقود. فالروس كانوا يريدون جعل سوريا منطقة عبورهم إلى قلب الشرق الأوسط خلال الحرب الباردة، وكان السوريون وقتها بحاجة إلى الأسلحة الروسية وإلى دعم سياسي لمواجهة إسرائيل وحلفاء الولاياتالمتحدة في المنطقة. التاريخ يعيد نفسه واتسمت العلاقة بين البلدين التي عرفت الكثير من التقلبات بعلاقة راع استراتيجي وزبون. وقال ليش: ”عاد الروس مجددا إلى اللاذقية وحولها بعد الحادثة، وأرسلوا إلى قاعدة تقع عند مخرج المدينة نحو 30 قاذفة صواريخ أرض - جو ومضادة للطائرات لحمايتها، وطائرات بدون طيار ومروحيات الهجوم والنقل، T-90 – وجند يفوق عددهم العدد الرمزي. ويتبين بعدها أن الطائرات المقاتلة الروسية قصفت المعارضة السورية شمال حمص، والتي حققت مكاسب كبيرة ضد القوات الحكومية السورية. وأكد بوتين للبلدان المؤيدة للمعارضة السورية أن روسيا لن نسمح بسقوط النظام السوري، وإن أصرّت أي هذه الدول على دعمها المعارضة السورية، عليها أن تتحمل عواقب ذلك على المدى الطويل”. ونصح بوتين هذه الدول بتحويل جهودها لإنهاء الحرب ودعم الحكومة السورية في مكافحة الإرهاب. وقال ليش ليست هذه المرّة تُلعب فيها هذه الاستراتيجية في اللاذقية. واستدل بحادثة وقعت سنة 1957، عندما نزل نحو 2000 جندي مصري باللاذقية بدعوى حماية سوريا من غزو تركى محتمل. لقد شهدت سوريا خلال هذه الحقبة أعنف الاضطرابات بسبب عدم نضج المؤسسات السياسية، وكذلك تدخل مجموعة من القوى الإقليمية والدولية في شؤونها، سعيا منها للتأثير على دمشق وجعلها تسلك اتجاها آخر، خلال تأزم الحرب الباردة بين الدول العربية، والقوى العالمية. وصولا إلى الرشوة والدعاية والضغط السياسي والتهديد بشن عمل عسكرى. حيث حاولت هذه الأطراف الخارجية الفاعلة التلاعب بنظام حكم هش في سوريا لتحقيق مكاسب استراتيجية. الصراع على سوريا، عربي - غربي يمتد لعقود وكشفت الصحيفة أنّ الصراع على سوريا تفاقم مباشرة بعد الأزمة الأمريكية السورية سنة 1957. ففي أوت من نفس العام، كشفت المخابرات السورية عن مؤامرة أمريكية سرية لإسقاط حكومة دمشق، وكانت إدارة إيزنهاور وقتها تعتقد أن النظام السوري يشكل خطرا بعدما أصبح عميلا للسوفييت في قلب الشرق الاوسط. وتسبّبت الحادثة في جلب قوى إقليمية، ودولية إلي سوريا خلال العقد الإقليمية، وبروز القومية العربية بزعامة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وكذا الصراع على سوريا بين كل من العراق ومصر والسعودية، وتصعيد الحرب الباردة بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي، وتزايد القلق الإسرائيلي. ومنحت الأزمة الأفضلية في سوريا لأعداء واشنطن المفترضين في الشرق الأوسط في تلك الفترة، وهم مصر والاتحاد السوفياتي، واللذان سعيا إلى التدخل في الأزمة السورية بعدائية. كان الروس والمصريون خلال هده الأزمة يدّعون بأنهم ”ينقذون سوريا من شرور الغرب”. لكن الأحداث أظهرت لاحقا أنّ أهدافهما اختلفت. فمصر في عهد عبد الناصر سعت جاهدة ولسنين لإبعاد سوريا عن الانضمام إلى مخطط الغرب في المنطقة (حلف بغداد)، لتتفادى عزلها إقليميا من طرف منافسها الإقليمي في تلك الفترة والمتمثل في العراق. وفازت مصر بسوريا في الأخير وشكلتا معا دولة موحدة: الجمهورية العربية المتحدة، عززت وقتها موسكو وجودها في سوريا، لكنه كانت لعبد الناصر نقاط دخول عديدة إليها منحته أفضلية واضحة على حساب قوة عظمى. وأشار ليش، أنه تبين له من خلال متابعته للأحداث في سوريا على مدى الأسبوعين الماضيين أن بعض ”المستعربين القدامى” ممن شاركوا في عملية إنزال القوات الروسية قبل 58 عاما لازالوا يعملون في الخارجية الروسية على غرار وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف. وأشار ليش أنه تبين له من خلال متابعته للأحداث في سوريا على مدى الاسبوعين الماضيين أن بعض ”المستعربين القدامى” ممن شاركوا في عملية إنزال القوات الروسية قبل 58 عاما، لازالوا يعملون في الخارجية الروسية على غرار وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف. وخلص ليش أن لافروف أو بوتين يكونان قد ارتأيا بأنه ينبغي على القيادة الروسية ”القيام بما فعله عبد الناصر، حتى لا يُكرر الخطأ مرتين”. واغتنام نشر القوات في سوريا لدعم نظام الأسد وتأمين المصالح الاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط. فرغم أنّ تواجد القوات المصرية كان شحيحا خلال مهمة حماية سوريا من غزو القوات التركية التي احتشدت على الحدود. فهم عبد ناصر أن تحذيرات الاتحاد السوفياتي تكفي لردع الأتراك. وكان الإنزال أوضح من بيان سياسي لتعزيز التواجد المصري وتأمين هيمنته على البلاد وبالتالي الالتفاف حول السوفييت وحلفائهم في الحزب الشيوعي السوري. لقد أخلط ناصر الأقوال بالأفعال !! وحذر ليش الروس من مغبة الاستيلاء على سوريا لأن ذلك سينتهي بكارثة. واستدل في ذلك ب”سجن عبد ناصر بلاده مع سوريا بحجة حمايتها وموافقته على مضض بإنشاء –الجمهورية العربية المتحدة التي سرعان ما تفككت، جارفة معها تعميق هوة الانقسامات في العالم العربي. وتدفع مصر بعدها الثمن بكارثة حرب الستة أيام سنة 1967. الأمريكيون بدوا سعداء برؤية السوفييت يحاولون الخروج من حفرة حفروها لأنفسهم وتابع القول أنه بعد أزمة صائفة 1957، لم يكن بوسع الولاياتالمتحدة أن تفعل شيئا سوى متابعة الأحداث والقبول بالأمر الواقع، خاصة بعد ثورة 1958 التي حملت العراق، من المملكة العراقيَّة مؤيّد للغرب، إلى جمهوريَّة. وكانت وقتها أهم ثلاث دول عربية (مصر وسورياوالعراق) تبدو موالية لموسكو: لكن رغم ذلك، تنفس السّاسة في واشنطن الصعداء. وبدوا سعداء برؤية السوفييت يحاولون الخروج من حفرة حفروها لأنفسهم. وهي إبقاء الكرملين على علاقاته أطول وقت ممكن مع ثلاث دول عربية تتناحر مع بعضها البعض في نزاغ آخر هو الحرب الباردة العربية. وخلص ليش للقول أنّ البعض يرى في تردد إدارة أوباما تجاه الأحداث في سوريا استراتيجية ضرورية أفرزها التخوف من خوض الحروب، وغياب الخيارات. ويرى البعض الآخر أنه جزء من تراجع استراتيجي شامل من المنطقة، خلق فراغا سياسيا وسمح للعابثين وأصحاب المصلحة بالرقص في الساحة، وهو ما قد يتسبب في كارثة أعظم من تلك الموجودة. فالعلاقة الروسية السورية التي دامت 60 سنة لا تزال معقدة، مثل سابق عهدها. وقد تحمل الأقدار طالبا آخر حديث التخرج لمعايشة