l كان أول من فكّر في استراتيجية إفريقية l الجامعة العربية في نظره ضعيفة وقليلة الأهداف ونحن في غمرة التحولات التي طرأت على رأس الدبلوماسية الجزائرية، أياما بعد الذكرى 35 لوفاة أحد آبائها المؤسسين محمد الصديق بن يحيى، التي تصادف الثالث ماي، ”الفجر” حاورت الأستاذ عبد العزيز جراد الأمين العام السابق لوزارة الخارجية والمستشار الأسبق برئاسة الجمهورية، وأستاذ العلوم السياسية، الذي يعرف الراحل، ليعود بنا إلى المرحلة الذهبية التي عرفتها الدبلوماسية الجزائرية لما كانت تلعب دورا مميزا في المنطقة من خلال وساطتها لحل الأزمة العراقية-الإيرانية، وإطلاق سراح رهائن السفارة الأمريكية في طهران وغيرها من الملفات الحساسة التي كان للجزائر موقفا بطوليا فيها. الفجر: كيف عرفت المرحوم بن يحيى وهل سبق لك وتعاملت معه؟ لم أعرف الراحل معرفة مباشرة، بل عرفته وأنا طالب بمعهد العلوم السياسية، وكان هو وزيرا للتعليم العالي قبل أن يتقلد حقيبة الدبلوماسية خلفا للوزير الأسبق عبد العزيز بوتفليقة. وأتذكر للرجل موقفين هامين كوزير للتعليم العالي، عندما أشرف سنة 1974 على تنظيم المؤتمر الدولي للعلوم الاجتماعية والإنسانية حضره علماء اجتماع من مختلف البلدان العربية والغربية، من بينهم روجيه غارودي الذي أصبح فيما بعد رجاء غارودي، وأيضا طلبة العلوم الانسانية من مختلف جامعات الجزائر، وقتها كانت الجامعات محصورة في عدد محدود من المدن، وكان الحدث وقتها مهما جدا، إذ أعطى للعلوم الإنسانية مكانتها في الجامعة لأنه كان يعي أهمية هذه التخصصات للمجتمعات. لكن للأسف الفكرة تكسرت فيما بعد إلى أن صار وضع العلوم الإنسانية والجامعة عموما على ما هو عليه الآن. الموقف الثاني عندما رفض الرجل أن يصبح معهد العلوم السياسية تابعا لحزب جبهة التحرير الحزب الواحد وقتها، الذي طالب بضم المعهد إليه، وهو ما رفضه الطلبة والأساتذة، الموقف الذي مكن الوزير من الحفاظ على استقلالية المعهد وعدم دمجه في الحزب، وأيضا الإصلاح الذي وضعه على المنظومة الجامعية، وكان الهدف منه إعطاء أهمية للعلوم الدقيقة والطبيعية، وكان يهدف إلى إدماج التدريس باللغة العربية تدريجيا وبطريقة مدروسة لتفادي خلق هوة بين الأجيال داخل الجامعة، بعيدا عن التسرع وعن الأيديولوجية، فقد كان يساريا ذي نظرة بعيدة، إذ كان دوره محوريا قبل ذلك في مؤتمر طرابلس وفي اتفاقيات إيفيان. وماذا عن رجل الدبلوماسية التي دفع ثمنها حياته في حادث الطائرة في ماي 1982 في جولة وساطة بين العراقوإيران؟ مروره على رأس الدبلوماسية الجزائرية رغم قصر المدة (1979-1982) كان له أثر إيجابي فهو أول من وضع هيكلة عقلانية في مجال تسيير الموارد البشرية وهو ما جعل الدبلوماسيين يعملون في شفافية كاملة، وكانت الكفاءة هي المقياس الأساسي للتدرج بعيدا عن النظرة الجهوية. ومن حيث التنظيم، تمكن من إعطاء الفرصة لإطارات ذات كفاءة معترف بها، مثل محمد صالح دمبري أمين عام الوزارة الذي أصبح سفيرا فيما بعد، ومدراء عامين كثير منهم راحوا ضحية الحادث برفقته. أما من جانب الممارسة الدبلوماسية فكان دائما يبحث عن توازنات بين المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي، ما أعطى للدبلوماسية الجزائرية نوعا من المصداقية، خاصة في حركة عدم الانحياز حيث كان الموقف الجزائري قبله يتسم بالضبابية. وإفريقياً كان الأول الذي أعطى أهمية للبعد الاستراتيجي للقارة، وبدأ يعمل لتفعيل دور المنظمة الإفريقية، لكن للأسف تعرض لحادث طائرة أول في ماي من سنة 1981 سنة قبل الحادث الذي أودى بحياته، وكان نجا بأعجوبة من سقوط طائرته قرب مدرج مطار باماكو بمالي، وأجبر على تقليص الاهتمام بهذا التوجه، بعد أن كان وضع خريطة طريق لإفريقيا، إذ كانت هناك وقتها علاقات قوية تربط حزب جبهة التحرير بالحركات التحررية الإفريقية وعلى رأسها المؤتمر الوطني الإفريقي ANC لجنوب إفريقيا الذي كان يتزعمه السجين مانديلا. وعربياً لم يكن يؤمن بالجامعة العربية، وكان يرى أنها ضعيفة المستوى وقليلة الأهداف، خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، والعلاقات العربية-العربية خاصة في مجال الطاقة، إذ لم يكن هناك تنسيق في هذا المجال. أما عن دوره في الأزمة العراقية-الإيرانية، فقد فهم مبكرا أن إيران كقوة إقليمية لا يجب إضعافها وعليه لا يجب أن تكون هناك صراعات بين الدولتين، إيرانوالعراق الذي كان هو الآخر قوة إقليمية، وكان من مصلحة الجزائر أن يكون هناك استقرار في الدولتين العضوين في منظمة الأوبك، فالحرب أضعفت كثيرا البلدان العربية والإسلامية، فكان للرجل نظرة استشرافية لما حدث لاحقا في المنطقة. وبفضل ذكاء الرجل كانت وقتها كلمة الجزائر مسموعة، كما أنه كان يعرف أن هناك ضبابية في الموقف السعودي من القضايا العربية. في حوارات لدبلوماسيين سابقين في صحيفة الوطن، يتبين جليا أن العراق هو من أسقط طائرة بن يحيى الذي كان يقوم برحلة نحو إيران لبحث وقف الحرب بين البلدين، هل اعترفت العراق بالجريمة؟ أبدا لم يحدث ذلك، ولم تعترف العراق بأنها مسؤولة عن إسقاط طائرة وزير خارجية الجزائر التي راح ضحيتها 13 من خير الدبلوماسيين الجزائريين إلى جانب الوزير وطاقم الطائرة، وكأمين عام لوزارة الخارجية في بداية الألفية، زار وزير الخارجية العراقي طارق عزيز الجزائر، واستقبل في وزارة الخارجية من طرف الوزير عبد العزيز بلخادم آنذاك، أثناء العدوان الأمريكي على العراق (2003). واجتمع بإطارات الوزارة لكنه لم يعتذر، وكان من المفروض أن يستقبل خارج مقرات الوزارة. أما استقباله داخل الوزارة دون أن يطلب منه اعتذار لإهانة الضحايا حادث الطائرة والوزير بن يحيى، ولهذا رفضت أن أحضر اللقاء احتراما لروح بن يحيى والضحايا الآخرين. فقد خسرنا في المرحوم بن يحيى رجل دولة، رجلا متواضعا ووطنيا يحسن الإصغاء ويؤمن بالأجيال المتكونة، وأنا ممن تعلموا عنه دون أن احتك به.