تمر، اليوم، الذكرى الثلاثون لرحيل وزير الخارجية الأسبق محمد الصديق بن يحيى، بعد تحطم طائرة ''غرومان'' التي كانت تقله إلى طهران للشروع في وساطة ديبلوماسية لإنهاء الحرب الإيرانية العراقية التي قامت في سبتمبر 1980. وأفضت نتائج لجنة التحقيق التي نظرت في القضية، إلى أن طائرة الوفد الديبلوماسي الجزائري سقطت يوم 3 ماي 1982 على الحدود الإيرانية التركية. ويكشف رئيس لجنة التحقيق، وزير النقل الأسبق صالح فوجيل، لأول مرة، في حوار مع ''الخبر''، أن الصاروخ الذي فجر الطائرة، هو صاروخ سوفييتي اشتراه النظام العراقي. اعتمد الديمقراطية في الالتحاق بالجامعة بن يحيى ساهم في تلطيف الأجواء بين الشيوعيين والإسلاميين ولد محمد الصديق بن يحيى يوم 30 جانفي سنة 1932 بمدينة جيجل، وسط عائلة ميسورة الحال. درس بين جيجل وسطيف ثم تنقل إلى الجزائر العاصمة، لاستكمال الدراسة بثانوية ''بيجو'' (الأمير عبد القادر حاليا). بعد حصوله على شهادة البكالوريا، درس الحقوق بجامعة الجزائر، واحتك بالأوساط الوطنية والطلابية. بينما كان يستعد لمناقشة رسالة الدكتوراه، انخرط بن يحيى في حركة انتصار الحريات الديمقراطية سنة 1951، وانضم إلى جماعة المركزيين خلال أزمة الحزب التي عرفت صراعا بين أنصار مصالي الحاج وأعضاء اللجنة المركزية. وفي هذه الأثناء عمل كوسيط بين عبان رمضان والحركة الطلابية. وأكد السفير الأسبق، صالح بن قبي، في تصريح ل''الخبر''، أنه كان ضمن المحامين الذين دافعوا عن رابح بيطاط عقب إلقاء القبض عليه في سنة .1955 كان بن يحيى محل متابعة من قبل الشرطة الاستعمارية. وفي سنة 1955 ساهم رفقة بلعيد عبد السلام، أحمد طالب الإبراهيمي ورضا مالك وصالح بن قبي، في تأسيس الاتحاد العام لطلبة المسلمين الجزائريين. عين بن يحيى عقب مؤتمر الصومام في أوت 1956 كعضو إضافي في المجلس الوطني للثورة الجزائرية، وجاء ذلك كتثمين للجهود الضخمة التي بذلها الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين في تعبئة الوسط الطلابي، ليختاره فرحات عباس كمدير لديوانه لما ترأس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. لعب دورا حاسما في المفاوضات مع الطرف الفرنسي، التي أفضت إلى اتفاقيات إيفيان، حتى أن وسائل الإعلام الفرنسية وصفته بالثعلب نظرا لذكائه الخارق. الذين عرفوا الرجل عن قرب، تحدثوا عن قدرته على الإحاطة بالملفات. وفي هذا الشأن قال وزير النقل الأسبق، صالح فوجيل ل''الخبر'': ''كان بن يحيى يملك قدرة على الخلاصة. لا يتكلم كثيرا، يستمع أكثر، ولا يتكلم إلا في الأخير لتقديم خلاصته''. ويعتبره رضا مالك السياسي المحنك. بينما تحدث محمد حربي في مذكراته (حياة واقفة) عن قدرة بن يحيى على تجاوز الصعاب، ومواجهتها ببرودة أعصاب. ويشهد مدير يومية الشعب الأسبق، محمد سعيدي، عن تواضع بن يحيى، وعدم انفصاله عن الأوساط الشعبية. وقال سعيدي ل''الخبر'': ''بقي يرتاد المقاهي الشعبية حتى وهو وزير، ويعمل إلى ساعة متأخرة من الليل. وكان صاحب ذكاء خارق، وقدرة عجيبة على الاستماع للآخرين، الأمر الذي جعل الرئيس بومدين يثق فيه كثيرا''. وضعت أزمة صيف 1962 بن يحيى على الهامش، ورفض الانضمام للزمر المتصارعة على السلطة. ولما وقع الانقلاب العسكري على أحمد بن بلة، في 19 جوان 1965، استدعي محمد الصديق بن يحيى لأول مرة من طرف الرئيس هواري بومدين، ليقوم بمهام سفير الجزائر في موسكو إلى غاية 1967، وهو العام الذي عيّن فيه وزيرا للإعلام والثقافة، وكان وراء تنظيم المهرجان الثقافي الإفريقي سنة 1969، وبقي في هذا المنصب إلى غاية سنة .1970 ثم عين وزيرا للتعليم العالي والبحث العلمي بين 1970 و.1976 في هذه الفترة ساهم بن يحيى في تلطيف الأجواء بين الشيوعيين والإسلاميين داخل الجامعة، ووضع سياسة جديدة للتعلم اعتمدت على إصلاحات عميقة، أدت إلى اعتماد مبدأ الديمقراطية في الالتحاق بالجامعة، ليشغل منصب وزير المالية في آخر حكومة للرئيس بومدين. ورغم أنه كان من أقطاب البومدينية، إلا أن الرئيس الشاذلي بن جديد احتفظ به وعيّنه وزيرا للخارجية، ولما تفاقمت أزمة الرهائن الأمريكيين في طهران، طلبت منه واشنطن بأن يلعب دور الوسيط لتحرير ست وخمسين رهينة أمريكية. ثم شرع في الوساطة لإنهاء الحرب بين إيران والعراق، وهي المهمة التي قادته إلى طهران. وتوفي إثر استهداف طائرته على الحدود الإيرانية العراقية يوم 3 ماي .1982 عمار بلحيمر ''بومعزة راودته الشكوك بعد غياب طارق عزيز عن مراسم دفن بن يحيى'' يعتقد الكاتب الصحفي عمار بلحيمر، أن ظروف تحطم طائرة محمد الصديق بن يحيى، على الحدود الإيرانية التركية، ومعه وفد من الدبلوماسيين الجزائريين يتكون من خمسة عشر موظفا يوم 3 ماي 1982، ما تزال تضفي مزيدا من الغموض. ويرى بلحيمر الذي فنّد احتمال تورط الإيرانيين في القضية، وفق ما أراد أن يروّج له نظام صدام حسين: ''أن تراكم الأحداث على مر السنين أدى إلى تفضيل الحديث عن الدور العراقي ومسؤوليته في الحادث''، وأضاف: ''نعرف أن صدام قام لاحقا بتمزيق نص اتفاقية السلام التي أمضاها مع شاه إيرانبالجزائر سنة .1975 حينها كان صدام حسين والبعث العراقي يبحث عن تزعم الأمة العربية، وهذه النوايا كان لا بد أن تقضي على كل اعتراض أو منافسة، والجزائر كانت سائرة نحو تحقيق نجاح ديبلوماسي كبير بفضل الوساطة الجزائرية التي كانت تملك كل وسائل النجاح، في وقت كان الرئيس العراقي يعتقد أن بلدا عربيا (الجزائر) لا يقوم بوساطة لحل نزاع بين عربي وغير عربي (إيران)، فهو متيقن أن ''عدو بلد عربي هو عدو كل العرب''. وحسب بلحيمر، فإن ''بشير بومعزة الذي ربطته صداقة مع نظام صدام حسين، والمعروف بمقته الشديد للنظام الموالي، بقي حائرا من عدم حضور طارق عزيز وزير الخارجية العراقي آنذاك مراسم دفن بن يحيى''. سأل بومعزة وزير الخارجية العراقي مستفسرا عن أسباب غيابه. فرد طارق عزيز: ''أفهم من سؤالكم أن تصريحاتي لم تقنعكم تماما''. فاستخلص بومعزة بنوع من المرارة: ''حتى إذا تمكنت بغداد من إقناع الحكومة الجزائرية بحسن نواياها، يبقى عليها أن تزيل الانزعاج الذي أحست به حتى في العراق، عقب المأساة المزدوجة: اختفاء كل فريق الملاحظين، ومعها آمال السلام التي حملتها معها''. وزير النقل الأسبق صالح فوجيل ل''الخبر'' ''قلت لصدام حسين أنتم من استهدف طائرة بن يحيى'' ترأس وزير النقل الأسبق، صالح فوجيل، لجنة التحقيق التي بحثت في قضية ظروف استهداف الطائرة التي كانت تقل محمد الصديق بن يحيى إلى طهران، للشروع في وساطة بين إيران والعراق لإنهاء الحرب التي قامت بينهما. ويتحدث فوجيل في حوار مع ''الخبر''، لأول مرة، عن ظروف عمل اللجنة، وكيف أخبر الرئيس صدام حسين بنتائجها في بغداد. كيف وصلكم خبر سقوط طائرة بن يحيى؟ قبل الحادث الذي أودى بحياته، تعرض محمد الصديق بن يحيى لحادث أول وقع بمطار باماكو بمالي، نجا منه بأعجوبة. وصلنا الخبر الأول من مالي، مفاده أن كل أعضاء الوفد الذي كان على متن الطائرة لقوا مصرعهم. وإذا بخبر جديد يصلنا مفاده أن بن يحيى لا يزال على قيد الحياة، فتنقلنا إلى مالي. ولما وصلنا إلى باماكو، قال لي بن يحيى: ''أعلم أن إخواننا الماليين لا يملكون الإمكانات اللازمة، وأثناء القيام بالتحقيق رجاء لا تحملوهم مسؤولية الحادث. هم أشقاء لنا، وقد ساعدونا خلال الثورة''. في اليوم الذي توجه فيه بن يحيى إلى طهران للقيام بالوساطة، رن هاتفي بالبيت في الثانية صباحا. طلبوا مني في الرئاسة الحضور فورا. أخبروني حال وصولي أن طائرة بن يحيى اختفت، ولم تصل إلى طهران. بعدها وصلنا خبر مفاده أن طائرة من طراز ''غرومان'' حطت بمطار دمشق. برز لدينا بصيص من الأمل، واعتقدنا أنها هي طائرة بن يحيى. لكن بلغنا بعد مدة قصيرة أن ال''غرومان'' كان على متنها عبد السلام جلود، وليس بن يحيى. بعدها مباشرة وصلنا الخبر المفجع، وعلمنا أن طائرة بن يحيى سقطت بين الحدود الإيرانية التركية. لما وصلنا إلى طهران توجهنا إلى مكان الحادث مرفقين بحماية من الجيش الإيراني. أحضرنا الطائرة كلها، بمساعدة وتسهيلات الإيرانيين للشروع في التحقيقات. وجدنا صاروخين اثنين، أحدهما لم ينفجر كان قرب الطائرة، ثم عثرنا على جثة بن يحيى وتعرفنا عليها بسبب ''الحنة'' التي كان يضعها على شعره في الخلف. وما هي نتائج لجنة التحقيق التي ترأستها؟ نعم، تكونت لجنة تحقيق عقب الحادث مباشرة. كان من المفروض أن يترأس اللجنة البلد الذي وقع فيه الحادث حسب القانون الدولي، لكننا اتفقنا مع الإيرانيين بأن نقوم نحن بالتحقيق. وبما أني كنت أشغل منصب وزير النقل آنذاك، ترأست اللجنة. وأفضت نتائج التحقيقات إلى أن الصاروخ الذي حطم طائرة بن يحيى هو صاروخ سوفييتي الصنع. وبعد اتصالات مع موسكو، أخبرنا السوفييت أن الصاروخ المعني اشتراه النظام العراقي. وبما أن المنطقة كانت منطقة حرب، طرحنا السؤال التالي: ''هل كان القصف متعمدا، أم وقع خطأ''. بعدها طلبنا من العراقيين أن يرسلوا لنا ضباطا مختصين لكي يتابعوا التحقيقات معنا. وبالفعل حضر الوفد العراقي، وشاهد بقايا الطائرة والصاروخ، وقدمنا لهم استنتاجاتنا. وكيف أخبرتم القيادة العراقية بمسؤوليتها في الحادث؟ توجهت إلى العراق لأخبر الرئيس العراقي صدام حسين بنتائج التحقيق. أخبرته أن العراقيين هم من قاموا بقصف الطائرة وفق نتائج التحقيق التي توصلنا إليها، قلت له إننا نحن من قام بالتحقيق دون مشاركة أي وفد أجنبي. ولا نستخلص أن القيادة العراقية هي التي قررت ضرب طائرة بن يحيى. ولدهشتي لم ينفعل صدام. بقي هادئا، وتكلم باقتضاب وببرودة أعصاب، وقال: ''هذه مسؤليتكم''. هل قال شيئا آخر؟ لا، أبدا اكتفى بهذه الجملة. وهكذا انتهى اللقاء.