وزعوا صور الطفل ”نوح مواز” على كل الموانئ، عمموا ملصقات تحمل مواصفاته، اتصلوا كثيرا بعائلات الحراڤة المفقودين الذين هاجروا معه بطريقة غير شرعية إلى إسبانيا.. دون جدوى.. ومنذ 10 سنوات مازالت أسرته الصغيرة، الساكنة بحي بومعطي تنتظر أي خبر عن ابنها.. أي خبر، عن نجاته.. أوعن موته.. وتناشد السلطات الجزائرية التدخل لصالحها نظرا لقلة حيلتها في الوصول الى الحقيقة بإسبانيا. ”الفجر” تنقلت مرارا إلى حي أصغر حراڤ جزائري غامر بحياته من أجل الوصول الى الضفة الأخرى من المتوسط، والتقت بعضا من أقاربه وأفراد من عائلته وأصدقائه، الذين مازالوا - بكثير من الألم والصبر - ينتظرون على أحر من الجمر نبأ عن ”نوح” يعيد إليهم الأمل برجوعه الى أحضانهم، أ يؤكد فرضية وفاته كي يتمكنوا من قطع الأمل نهائيا، ووضع نقطة نهاية أخيرة لدوامة الانتظار واحتراق الأعصاب.. أصغر ”حراڤ” جزائري إنه أصغر حراڤ جزائري، كان في الخامسة عشر من عمره حين أقدم على ”الحرڤة”، ابن عائلة بسيطة بحي بومعطي بضواحي الحراش في العاصمة، يقول عنه سكان الحي إنه -رغم حداثة سنه - طيب الذكر، حسن السيرة، وقد اشتهر بذكائه الشديد وهمته التي لا تعرف الصعاب ولا تعترف بالحواجز، حيث كان يساهم بالقسط الأكبر من تغطية مصاريف البيت عن طريق تجارة الشنطة التي امتهنها منذ سنتين، أي بعد تركه الدراسة مباشرة (السنة السابعة أساسي)، وقد كان عمره لا يتجاوز 13 سنة، لكنه رغم ذلك كان يسافر إلى عين الحجل بالمدية من أجل التزود بالسلع الأساسية، المتمثلة في ملابس الأطفال على وجه الخصوص، وبيعها ثانية في أسواق الحراش. استطاع أن يساعد عائلته ماديا في وقت كان أبوه عاطلا عن العمل لأسباب صحية، واستطاع تغطية كل مصاريف البيت رغم سنه الصغيرة، حتى أنه كان يوفر مالا كافيا من أجل العطل والمصيف، الذي كان يقضيه في ولايات أخرى رفقة أصحابه، كان - باختصار- ولدا بتفكير رجل بالغ. وفقا روايات الأهل والأصدقاء، فإن تنفيذ فكرة ”الحرڤة” تم يوم 29 نوفمبر 2007، وهو اليوم الذي عرفت الجزائر إجراء انتخابات عامة، الأسرة لم تكن تعلم شيئا عن عزم ولدها الطفل على الهجرة الى أروبا بطريقة غير شرعية، كما لم يكن يتحدث عن ”الحرڤة” أونيته في ذلك، إلا مرة واحدة فقط قالها مازحا، لكن أحدا لم يكترث بما قال، واعتبرها مجرد ”ڤصرة”. وحسب صديق لمواز، فإن الفكرة بدأت تتخمر في ذهن المراهق في صيف 2016، عندما ذهب مع أصدقائه الى مخيم صيفي في شواطئ مدينة بجاية، أين مكث 13 يوما، عاد بعدها مهووسا بها، لكنه حاول إخفاءها عن والديه قدر الإمكان حتى لا يمنعانه من تنفيذها، خاصة أن الوالد كان شديدا معه بعض الشيء في مسألة السهر خارج البيت، خوفا عليه من رفقاء السوء، ومن الانزلاق في مهاوي المخدرات التي انزلق اليها الكثير من الشبان والمراهقون في بومعطي والحراش عموما. نجاح صديق في الهجرة حفزه كانت الفكرة تبدو صعبة في البداية، لكن أحد المستجمين معه في المخيم الصيفي جرب الهجرة السرية إلى اسبانيا مباشرة بعد انتهاء مدة المخيم، وقد نجح فيها منذ المحاولة الأولى، واستطاع دخول التراب الإسباني دون أن يكشف أمره من طرف حرس السواحل أوالشرطة الاسبانية، فما كان منه إلا أن هاتف أخاه المدعو ”يوسف بوطي” وبشره بنجاح محاولته، مشجعا إياه على اتباع طريقه، وأوصاه بأن ”يحرڤ” بالطريقة الفلانية ويحضر معه نوح وصديقه ”بلومي”، كما أعلمه بكل الخطوات التي يتوجب عليه اتباعها، وأرشده الى مكان الانطلاق واسم الشبكة التي ستساعده على الحرڤة مقابل 7 ملايين سنتيم لكل منهم. ويضيف صديقه قائلا: ”وهكذا ابتدأت عمليات غسل المخ لنوح، الذي صورت له أحلام المراهقة ان كل شيء ممكن وسهل جدا، ليتحول المزاح إلى فعل حقيقي”. ويضيف أنه قبل أسبوع من تنفيذ فكرة الهجرة غير الشرعية، أخبر الطفل نوح أهله انه سيذهب إلى مدينة مستغانم من أجل جلب المزيد من السلع، قائلا إنه ملّ الذهاب الى مدينة عين الحجل، وانه يريد تغيير المنطقة. وفي تلك الأيام، كان صديقاه بلومي ويوسف بوطي قد سبقاه فعلا الى مستغانم، حيث تمكنا من الالتقاء بعناصر الشبكة التي اُخبروا عنها، والمختصة في التهجير غير الشرعي، حيث تم الاتفاق معها على شراء قارب صغير يسع ل12 شخصا، ثم اتصلوا بنوح وأخبروه بالبرنامج الذي اتقفوا عليه مع جماعة اخرى من الحراڤة الذين سيرافقونهم . وقال إنه في اليوم الذي قصد نوح مدينة مستغانم بدا كل شيء عاديا، حيث قصد ظهيرة ذلك اليوم عرس أحد اصدقائه، وبعد العرس، وعلى الساعة 3 مساء، أعلم أمه أنه مسافر الى مستغانم لجلب السلع وطلب منها حقيبة ملابسه. كان يوم خميس، في ذلك المساء ركب حافلة من خروبة الى مستغانم وهو يكرر طلبه من أهله ألا يتصلوا به لأنه سيكون بخير، وأنه هو من سيتصل، وفي صباح الجمعة اتصلت الأم، فأخبرها أنه استيقظ للتو وانه يشرب قهوة مع زملائه استعداد للنزول الى أسواق مستغانم. لحظة الانطلاق.. في لحظة الانطلاق تلقت الأم اتصالا من ابنها وأخبرها بما عزم عليه، ثم قال لها:”كوني مهنية يا يما، أنا ماشي حراڤ في فلوكة، وإنما في باخرة كبيرة تابعة للأسطول التجاري الجزائري، ولا خطر عليّ من الغرق”، كما أنهم تأكدوا بعدها من كلام ابنهم الذين ظنوه مزاحا يوم الجمعة ليلا عندما جاء أحد أبناء الحي وأخبرهم ان ابنهم ”حرڤ”. لقد كان يظن الأمور سهلة، أنهم سيصلون إلى اسبانيا في الصباح بمجرد أن يركبوا مساء”. بعد ذلك تبين للأسرة أن الطفل نوح سافر مع 12 شخصا، 8 من مستغانم و2 من أبناء حيه. بعد ثلاثة أيام ظهر ناجيان اثنان قالا إن الباقين مفقودون، ومن بينهم الطفل نوح. الناجون اثنان، لكن روايتيهما مختلفتان، احدهما ابن حيه والثاني مستغانمي، ابن حيه قال إن سفينة هولندية اصطدمت بالقارب وقلبته فغرق الجميع ولم ينج أحد. أما المستغانمي فقال: ”بقينا ثلاثة أيام في البحر، وعلى الساعة الرابعة صباحا من اليوم الموالي وجدنا باخرة، وتحسبا لاحتمال اصطدامها بنا اتفقنا على أن نقفز إلى الماء ونبقى ممسكين بأيدي بعضنا مع طلب النجدة من طاقم السفينة”. وأضاف: ”وكنا نشد أيدي بعضنا ونسبح وقد افلتُّ يدي من أجل الإمساك بالقارب وجذب شيء يمكننا أن نتعلق به حتى لا تتعبنا السباحة، لكني بمجرد ترك أيديهم والتمسك بالقارب التفت فلم أجد أحدا.. كلهم غرقوا إلا شخصين، أعتقد ان نوحا من بينهما، وقد حملتهما السفينة الهولندية المتوجهة إلى شواطئ إسبانيا”. بين نارين.. العائلة عاشت 10 سنوات بين نارين: تصريحات أحد الناجين تشير إلى غرقه المحتوم، في حين تشير شهادة الناجي الثاني إلى أن شخصين تم انتشالهما من قبل سفينة هولندية اصطدمت بالقارب، يعتقد أن الطفل نوح أحدهما، إضافة الى نشر إحدى الصحف اليومية الوطنية أخبارا تشير إلى عثور السلطات الاسبانية على طفل في الخامسة عشر، أي في عمر نوح تماما في ذلك الوقت، ملقى على شواطئ إسبانيا، رفقة 9 حراڤة آخرين، (وهو تماما عدد الحراڤة المفقودين منذ 3 أشهر، الذين سافر معهم نوح) وهم مشرفون على الموت، اعتقدت عائلة مواز أنه قد يكون ابنها، على الرغم من إنكار الطفل المعثور عليه أنه من جنسية جزائرية، وتمسك بالقول إنه ”حراڤ تونسي” لا أكثر، دون أن يحمل معه ما يثبت أو ينفي ادعاءاته.. يومها قالت أسرته: ”سمعنا أن 4 حراقة من بينهم طفل قاصر بحوزة الشرطة الاسبانية، وأن الطفل موضوع في مركز للأحداث، وأن رجال التحقيق هناك ينتظرون أن يبحث عنه أهله”. الأسرة تمنت كثيرا أن يكون الطفل القاصر جزائريا لا تونسيا، وان يكون ابنها، من أجل ان ينتهي مسلسل عذابها إلى الابد، واتصلت كثيرا بالسلطات، وقامت بمساع عديدة دون جدوى..