كنت في "خيوط" سابقة، قد اقترحت عليكم وصية الكاتب الأمريكو-لاتيني الكبير، غارسيا ماركيز، وسأقترح عليكم هذه المرة وصية الكاتب العربي الكبير حنّا مينة، الذي ولد في اللاذقية سنة 1924، وتكوّن ذاتيا حتى أصبح واحدا من أهمّ كتاب العربية في القرن العشرين، وتكمن أهمية مثل هذه الوصايا في كونها زبدة خبرة مركزة بالحياة، لأناس نذروا أنفسهم لخدمة المبادئ الإنسانية الرفيعة، وتعقب الجمال بكل تمظهراته، فطلعت على أيديهم أعمال إبداعية استحقت الخلود، لما اكتنزته من قيم إنسانية وجمالية، في عالم بدأ يزحف نحو التوحش والبشاعة، إلى درجة أننا أصبحنا صرعى منظومة إعلامية، تحققنا يوميا بآخر "وصايا" صنّاع الموت في الشرق والغرب، ولا تلتفت إلا نادرا إلى وصايا صناع الحياة، يقول الروائي حنا مينة، في هذه الوصية التي أطلقها هذه الأيام، وهو يحتفل بعيد ميلاده الرابع والثمانين: " أكتب وصيتي وأنا في كامل قواي العقلية، وقد عمّرت طويلا حتى صرت أخشى ألا أموت، بعد أن شبعت من الدنيا، مع يقيني أنه لكل أجل كتاب، لقد كنت سعيدا جدا في حياتي، فمنذ أبصرت عيناي النور، وأنا منذور للشقاء، وفي قلب الشقاء حاربت الشقاء، وانتصرت عليه، وهذه نعمة من الله، ومكافأة من السماء وإني لمن الشاكرين، عندما ألفظ النفَسَ الأخير، آمل وأشدّد على هذه الكلمة، ألا يذاع خبر موتي في أية وسيلة إعلامية، مقروءة أو مسموعة أو مرئية، فقد كنت بسيطا في حياتي، وأرغب أن أكون بسيطا في مماتي... كل ما فعلته في حياتي معروف، وهو أداء واجبي تجاه وطني وشعبي، وقد كرست كل كلماتي لأجل هدف واحد: نصرة الفقراء والبؤساء والمعذبين في الأرض، وبعد أن ناضلت بجسدي في سبيل هذا الهدف، وبدأت الكتابة في الأربعين من عمري، شرّعت قلمي لأجل الهدف ذاته ولمّا أزلْ، ولا عتَبَ ولا عتابَ، ولست ذاكرهما هنا إلا للضرورة، فقد اعتمدت عمريَ كلَّه... لا على الحظ، بل على الساعد، فبيدي وحدها وبمفردها صفقت، وإني لأشكر هذه اليدَ، فبالشكر تدوم النعم، أعتذر للجميع أقرباءَ وأصدقاء ورفاقا وقراءً، إذا طلبت منهم أن يدَعوا نعشي محمولا من بيتي إلى عربة الموت، على أكتاف أربعة أشخاص مأجورين من دائرة الدفن، وبعد إهالة التراب علي، في أي قبر متاح، ينتهي الحفل وتغلق الدائرة، لا حزن... لا بكاء... لا لباس أسود... لا تعزيات في البيت أو خارجه، ثم وهذا الأهم، لا حفلة تأبين، فالذي سيقال حينها سمعته في حياتي، فهذه التآبين التي جرت بها العادة منكرة.. منفرة ومسيئة إلي، أستغيث بكم جميعا أن ترحموا عظامي منها، وكل ما أترك في دمشق أو اللاذقية، يتصرف فيه من يدّعون أنهم أهلي، ولهم الحرية في أن يوزعوا بعضه على الفقراء الأحباء الذين كنت منهم، وكانوا مني، وكنا على نسب هو الأغلى ... الأعلى والأكرم عندي". والسؤالان اللذان يطرحان نفسيهما علينا بعد قراءة هذه الوصية هما: هل يزهد في قطف ثمار شهرة مستحقة بعد مسيرة حافلة بعشرات الكتب الضخمة، والتي حُول كثير منها إلى أعمال درامية ضخمة، إلا كاتب حقيقي أدرك أن الخلود لا يتأتى بالجعجعة الإعلامية، بل بالطحين الدقيق الإبداعي؟، أين كتاب الجزائر اليوم، من هذه الروح؟ وهم الذين احترفت غالبيتهم الكاسحة، النعيقَ في المنابر المتاحة كلها، وعلى حساب الآخرين في أحايينَ كثيرة، من أجل حضور هو في حكم الغياب؟ إن هناك كتابا جزائريين يملكون الاستعداد المطلق، لأن يرتكبوا جريمة القتل من أجل الحفاظ على "مكانتهم" التي يعلمون أنهم اكتسبوها بالسياسة والإعلام لا بالإبداع، وهم مسؤولون عن حرمان الجزائر من أسماءَ كانت قادرة على تمثيلها إبداعيا في المحافل الدولية، إنهم عرابو الإجهاض في الأدب، مثلما هناك عرابو الإجهاض في السياسة والاقتصاد والتربية والرياضة. رأس الخيط: سيدي حنا مينة... الإبداع أقوى من الإجهاض، وسيمنح التاريخ لكل المجهضين والمعرقلين للمشاريع الحقيقية، شهادات عليا في الغباء والفناء... آمين.