في مجلس شيخ جليل مهيب الطلعة نافد النظرة حلو الشمائل يجمع كل من رآه وسمع حديثه بأن عنده لكل سؤال جواب ولكل حيرة هدى وينعت بأنه من بقية السلف الصالح "الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه". جرى حوار بينه و بين فتى مهذب ولكنه ضيق الأفق، وكان الحديث في مجمع حاشد تناول فيه حقيقة الصيام وقضاياه رأينا عنده كيف تتفجر ينابيع الحكمة وكيف تأخذ الحجج القوية كل ضعيف اليقين. سمعت الحوار ووعيت ما دار واليك أخي القارئ..أختي القارئة أنقله بالتمام الصيام جنة ..الصيام التقوى تأخر الفتى هذا الصباح وليس من عادته أن يتأخر في موعد أو شيء، فهو مثال الاندفاع والدقة .. و بدأت الأفكار تراود الشيخ قلقا عليه.. ! و لم يطل الوقت إذا بالفتى يدخل ، وحيا الشيخ بغير ابتسامة ، لقد كان وجهه مكتئبا وحول عينيه ارتسمت دائرتان توحيان بالقلق والأرق .. كان الفتى يحمل معه معجم الألفاظ القرآنية ، و رأى الشيخ في المعجم مدخلا لإزاحة الغم و كشف السر.. فقال له : ما هذا الذي تحمله بيمينك يا فتى ؟! الفتى : إنه معجم الألفاظ القرآنية يا سيدي ! الشيخ : و لماذا ؟ الفتى : لأتقي به أهل الجدل في الدين ! فإني لم أنم الليلة فقد شغلني معنى التقوى في قوله تعالى " كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" على ضوء الحديث النبوي الشريف القائل" الصيام جنة " فلم يعجب يا سيدي هذا التفسير بعض من كانوا معي الشيخ : و ما أزعجك في آرائهم ؟ الفتى: هذا التزمت في الفهم ، فهم يريدون أن يفهموا التقوى ، اتقاء المعاصي، و احتماء بطاعة الله و طاعة رسوله، من تلك النواهي التي تهدر طاقة الإنسان، إذا لم ينته عنها و قد قرأت لهم ما جاء في شرح الآية في المصحف و المفسر، و ذكرت لهم كل ما ذكر من شروح اللفظة في هذا المعجم و هو : "وقى الشيء وقاية : صانه عن الأذى و حماه ، وقاه الله السوء : كلأه منه ، ووقاه توقية : حفظه و صانه ، واتقى الله : خاف عقابه فتجنب ما يكره ، واتقى الشيء حذره و تجنبه ، و التقاة والتقوى : الخشية و الخوف و تقوى الله : خشيته و امتثال لأوامره و اجتناب نواهيه ، و الوقاء ما وقيت به شيئا ... فما معنى التقوى يا سيدي في هذه الآية ؟ هل هي الخشية و الخوف ؟! ابتسم الشيخ بصورة مثيرة و قال : الأمر واضح يا فتى و المشكلة في إدراك الروابط بين المشتقات ، فالتقوى بمعنى الخوف من الله و هو المعنى الشائع ، و لكن روح الآية لا يحمل معنى الإخافة و التهديد بقدر ما يحمل معنى الرجاء ، و الأمل بخير الإنسان و صحته ، فالله سبحانه لا يريد بكتابة الصيام على المؤمنين تخويفا لهم ، و إنما وقاية لهم من الوقوع بما يخيف ! فلقد جعل المولى تبارك و تعالى صيام رمضان ركنا من أركان الإسلام و فريضة على النفس البشرية ، الهدف منه تقوية ضميره و تثبيت أخلاقها و ترويض عزمها و إرادتها و ينشأ لها صلابة المسلم و أمانة المؤمن ، و عفة الكريم و هذه كلها خصال التقوى و قد جمعها الله تبارك و تعالى في الصيام فقال"لعلكم تتقون" فالتقوى يا بني هي مفتاح كل خير وعنوان كل فضيلة و دليل الصدق مع الله عز وجل، و هي عبادة و علم القرآن الكريم ! الفتى : و ما علاقة التقوى بالإيمان ؟ الشيخ : التقوى و الإيمان يا فتى قرينان لا ينفكان " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله " سورة الحديد آية 28 و هي يقظة الضمير و صحوة كبرى في الشعور و الوجدان لا يكاد يلم صاحبها بسوء حتى يتوب إلى الله عز و جل من قريب و هي الصدق في القول و السداد في القصد و هي التسامح النبيل ، و الصفح الجميل و هي العدل في أكمل أشكاله و أجمل صوره ، و هي الانضباط في السلوك و التجمل في حياة الناس بقوله تعالى: "ولباس التقوى ذلك خير " سورة الأعراف آية 26 و هي يا بني إلى جانب كل هذا الزاد الروحي في رحلة الحياة الدنيا و سبيل النجاة في الآخرة " يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم". و الصيام يا بني شكل من أشكال الهجرة و لكنه يمثل صورة هجرة كبرى شاملة ، و هذه الهجرة لا تتطلب الخروج من مكان إلى مكان آخر و لا تشترط الانتقال من بلد إلى بلد آخر مغاير و إنما هجرة تقوم بنشر الخير، و تصحيح الاتجاه و اكتشاف الذات في مرحلة مباركة متقدمة بإخلاص و تسيطر بالضياء، و تتحكم بإشراقات إيمانية عالية حيث لا يظهر إلا صفاء النفس و إشراق الروح و العبودية الخالصة لوجه الله عز و جل على أكمل صورة ! لذلك لا غرابة يا بني أن يكون الأثر الناشئ عن الصيام هو التقوى ذلك أنه يمتاز عن جميع الفرائض الدينية بأمر جوهري هو أنها جميعها أعمال أو حركات إيجابية أما الصيام فامتناع باطني عن ترك وكف النفس عن بعض ما تعودته، ولا غرابة يا بني أن يكون هدف الصيام "التقوى "