شيخ جليل، مهيب الطلعة نافد النظرة، حلو الشمائل يجمع كل من رآه و سمع حديثه، بأن عنده لكل سؤال جواب و لكل حيرة هدى و ينعث بأنه من بقية السلف الصالح " الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه". جرى حوار بينه و بين فتى مهذب، و لكنه ضيق الأفق، و كان الحديث فى مجمع حاشد، تناول "حقيقة الصيام و قضاياه". رأينا عنده كيف تنفجر ينابيع الحكمة، و كيف تأخذ الحجج كل ضعيف اليقين. سمعت الحوار و وعيت ما دار.. و إليك أخي القارئ، أختي القارئة أنقله بالتمام. الصيام شعور بالمشاركة و إحساس بالآخرين الفتى.. لقد كان حديثك بالأمس .. عن فضيلة الصيام، حديثا فائضا في قمة التركيز ياسيدى ؟ و لقد تأملت بعين فاحصة في مجتمعنا فوجدت أن الرهية الناس على الناس، هي أصل "الداء" والبؤس و الشقاء الذي يعاني منه اليوم " فالمجتمع الذي تصير فيه الأمور لغير أهلها و يكون الحل فيه في أيد الجهلة، فالسلطة تصبح فيه تسلطا، و الرأي وبالا و الحكم غبنا" و يكثر فيه الظلم و الجور والاستثمار الممقوت و التكبر في أرض الله بغير الحق! و إني أشكرك يا سيدي .. لأنك شرحت لي طرفا جديدا من حكمة الصيام و هو تحرير النفس البشرية من عبودية العباد إلى عبادة رب العباد. الشيخ..لقد فهمت من كلامي يا فتى أكثر مما فهمت، و هذه حلقة السر المفقودة في متعجبك .و أني سأحاول في هذا اليوم الثالث من رمضان.. ثم استرسل في كلامه شارحا و موضحا الحكمة الإلهية في فرض الصيام بقوله.. و الصيام يا فتى فوق هذا كله تربية ميدانية على الشعور بالمشاركة والإحساس بالآخرين و التكامل معهم من خلال أن أحدثك عن فضيلة أخرى من فضائله زاحمت الفضائل السابقة، إنه رياضة نفسية دائمة، تبدأ في داخل نفس الصائم و تنتهي في إطار الجماعة و هو كف النفس عما تشتهيه بنية القربة إلى الله تبارك و تعالى و هو عمل نفسي إرادي له ثقله في ميزان الحق و الخير انه شهر التوبة و الغفران و شهر الرجوع إلى الله، شهر تفتح فيه القلوب و تنشط المشاعر شهر يوم بدر و ليلة القدر، و نزول القرآن الكريم شهر عودة المجتمع الإسلامي إلى الوجود و اعتراف برب الوجود, فلو عرف أهل زمانك حقيقة الصيام و ما فيه من أسرار و جلائل نعم الله التي تمنح لهم فيه لتقاتلوا على جني ثماره، وجعلوا نهاره نشاط و إنتاجا و عملا و اتقانا، و من ليله تزاور و تهجدا و قرآنا. و لو عرفتم يا فتى فضل هذا الشهر عند الله تبارك و تعالى لجعلتموه كله تعلما و تعبدا وإحسانا، و لجعلتم ألسنتكم صائمة، فلا تغلو برفت أو جهل، و آذانكم صائمة فلا تسمع لباطل، و أعينكم صائمة فلا تنظر الى حرام و فحش، و قلوبكم صائمة فلا تعتزم على خطيئة أو إثم، و أيديكم صائمة فلا تمتد بسوء أو أذى. ولكن.. و ما حيلتى يا فتى .. و أنا أرى الكثير من أهل هذا الزمان.. لا يعرفون حقيقته و فضله، و ما خصه الله من شرف.. فأتألم يا بني لما أشاهدهم يدنسوه بأفواهم و أفعالهم النكرة الآثمة، و ملأ لياليه باللهو و الغناء و الطرب إلي بزوغ الفجر.. الفتى.. لقد شوقتني يا سيدي لهذا الشهر الكريم، فهل لك أن تحدثنا عن أسراره الشيخ.. إن صيام هذا الشهر من كل عام أسرار عليا و حكم بالغة، و اننى أعرف منها ما تعرف، و تجهل منها ما تجهل، و سيكشف الزمن عن بعضها ما يكشف ما دامت السماوات والأرض قائمة. و لن تستطيع با بني أن تدرك سر هذا الشهر إلا إذا أدركنا سر هذا الإنسان. فغدا إن شاء الله سنتكلم عن الموضوع بالتمام.