في مجلس شيخ جليل مهيب الطلعة نافذ النظرة حلو الشمائل يجمع كل من رآه وسمع حديثه بأن عنده لكل سؤال جواب ولكل حيرة هدى، وينعت بأبه من بقية السلف الصالح "الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ". جرى حوار بينه و بين فتى مهذب ولكنه ضيق الأفق، 'وكان الحديث في مجمع حاشد تناول فيه حقيقة الصيام وقضاياه. رأينا عنده كيف تنفجر ينابيع الحكمة وكيف تأخد الحجج كل ضعيف اليقين سمعت الحوار ووعيت ما دار. إليك آخى القارئ أختي القارئة، أنقله بالتمام سر شهر الصيام نظر الشيخ إلى الفتى ونظر الفتى إلى الشيخ و فهم كل منهما الآخر فقال الشيخ: ماذا في حقيبتك هذا الصباح يا فتى.. الفتى : لقد قلت يا سيدي إننا لا نستطيع أن ندرك سر شهر الصيام إلا إذا أدركنا سر الإنسان . فما الإنسان وما حقيقته و ما السر الذي يحمله؟ الشيخ: لقد صرت فيلسوفا يا فتى و تجاوزت بتساؤلاتك ما ينبغي أن نقطعه خطوة خطوة.. ثم اندفع في الحديث قائلا: إن للإنسان يا بني روحا وجسدا سفلي. و الجسد بيت الروح و الروح صاحبه و ساكنه . و الجسد مطية. و الروح راكب و مسافر. ولم يخلق البيت لنفسه ولا المطية لذاتها. ولكن البيت لمصلحة الساكن و المطية لمنفعة الراكب، فما أعجب يا فتى أهل زمانك من الآدميين الذين أهملوا أنفسهم وعنوا بمساكنهم و جعلوا من ذواتهم خداما لمطاياهم وأهملوا أرواحهم، وعبدوا أجسادهم، فللجسد وحده يعملون لإشباع غرائزهم وللدنيا ينشطون، وحول بطونهم وفروجهم يثورون، همهم الدنيا طعام وشراب ومنام! أولئك الذين وصفهم الله تعالى بقوله : "أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا، أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون، إن هم كالأنعام بل هم أظل سبيلا ..." الفرقان (44.33) . ذلك يا بني هو الإنسان روح و جسد، فلجسده مطالب من جنس عالمه السفلي، وللروح مطالب من جنس عالمها العلوي ,فإذا أخضع الإنسان أشواق روحه لمطالب جسده وحكم غريزته في عقله استحال من ملاك رحيم إلى حيوان دميم وربما إلى شيطان رجيم ... أما اذا عرف الإنسان قيمة نفسه وأدرك سر الله فيه، و حكم جانبه السماوي في جانبه الأرضي، و عنى بالراكب قبل المطية وبالساكن قبل الجدران، و غلب أشواق الروح على نوازع الجسد فقد صار ملاكا أو خيرا من الملاك "إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك خير البرية" البينة آية 07 والروح والجسد واقع بين المد والجزر والحركة المتماوجة إذ يصعد جانب فوق جانب و يطغى عنصر على عنصر . والروح الإنسانية إذا شعرت بأنها متروكة لنفسها مسؤولة عن عملها و عن جهلها و عن عجزها و ضعفها دون هادي أو معين أحس بوحشة الوحدة، ووقعت في رهبة و تقاعست عن اتخاذ القرار فوق الوقوع في المجهول ... ونشأت عن ذلك أمراضها النفسية من الغرور والطغيان و الخذلان واليأس في طرف آخر ، وأحست في النهاية بالألوهية أو بالضياع . و إذا كان الخطأ تعبيرا عن طغيان جانب على جانب آخر فإنه في نفس الوقت الخطأ المقابل للمغفرة، أي الناشئ عن حركة التماوج السطحية المؤقتة ... إما أن تصير هذه الحركة إلى اقتلاع جانب من الجوانب اقتلاعا نهائيا فتلك هي الخطيئة التي لا تقبل المغفرة أو التي ترشح إلى ذلك... والبعض منا إذا خشي الخطيئة يرتكب أشنع من الخطأ. من هنا يا بني فرض الله الصيام ليتحرر الإنسان من سلطان غرائزه و ينطلق من سجن جسده، و يتغلب على نزعات شهوته، ويتحكم في مظاهر حيوانيته، و يتشبه بالملائكة. فليس عجيبا أن ترتقي روح الصائم و تقترب من الملأ الأعلى، و يقرع أبواب السماء بدعائه، فتفتح ويدعو ربه فيستجيب له و يناديه فيقول لبيك عبدي لبيك. و في هذا المعنى يقول النبي عليه الصلاة و السلام ثلاثة لا ترد دعوتهم، الصائم حتى يفطر و الإمام العادل و دعوة المظلوم . قال الفتى ... لقد شعرت من حديثك إن للروح غذاء و شرابا يقويانها كما للجسد غذاء وشراب، و أحسست أني في حالة نفسية منيرة، و إن نور النفس أضاء للجسد بسبيله . همس الشيخ في أذن الفتى...و قد اتفقا أن يكشف له غدا إن شاء الله ملمحا جديدا يتمثل في الفرق بين ( الصيام و الصوم) !