عندما تتوغل داخل سوق "واد كنيس" برويسو ، تصادفك تجارتين متناقضتين ، بين " البخس" و" الثمين"، فالبخس تجارة " الأثاث القديم المستعمل"، أما الثمين فيعمي عينيك من بعيد لما تحرك واحدة منهن "حايكها" الأبيض الملفوفة بداخله، فتتحرك سلسلة بيدها، فمؤخرة السوق تلمع ذهبا. في "واد كنيس" بعاصمة الجزائر، " كل ما يلمع ذهبا" هكذا يرى زوار " النسا" تاجرات الذهب، بحي رويسو، فزائر السوق لا محال يتحمل الرائحة الكريهة للأثاث القديم في المدخل، ليصل إلى النهاية " السعيدة" فالذهب هنا أقل بكثير من ثمنه عند المجوهراتي، وإذا كان لديك مشروع زواج، وأردت الاقتصاد بمالك، يمكنك أن تشترى الذهب وكبش الزفاف في نفس الوقت، هذه خدمة لا تجدها في مكان أخر، إلا عند "طاطا زهيرة" وأخواتها تاجرات مجوهرات متنقلات داخل السوق. ويمكنك أن تتفادى مقر أكاديمية التربية لأن الزحمة فيها مقلقة، وأنت تريد أن تفرح بأساور أو حلق أذن من ذهب، فتتوغل في طريق ضيق تباع فيه الألبسة المستعملة و الهواتف النقالة المسروقة أحيانا، وصولا إلى محلات الأثاث القديم، فتسرع لأن المنظر مثبط للعزائم، وتسير حتى يظهر لك منظرا لنساء معظمهم عجائز، يرتدين " الحايك" وهو لباس تقليدي عند الجزائريين، أبيض اللون وتلف به المرأة نفسها حتى العينين، المشهد يظهر لك كأنهن حاجات تائهات، بعضهن جالسات على حجر وأخريات واقفات وبيدهن سلاسل ذهبية وأساور وحلق الأذن وغير ذلك.. المكان يعج بالبائعات وبالزبائن، ويقول عمر زافر، وهو شاب، زبون مقبل على الزواج " قصدت هذا المكان لاشترى أساور، فقيل لي أن الأسعار أقل من المتداولة عن المجوهراتي النظامي، لكني متحفظ بعض الشئ لأنني سمعت أن الذهب هنا مسترجع ( معاد تصنيعه وليس أصلي)، وسأحاول الحصول على أساور أصلية، فأنا لا أثق كثيرا في النساء". ولما تسير وسط التاجرات يتلقفنك من بعيد، فهن بمجرد ما يرونك يعلمون إن كنت زابونا جادا أم أنك تتسوق وفقط، وتقول " طاطا زهيرة" بائعة ذهب معروفة بالسوق أنها تبيع من خمسة إلى عشرة أشياء في اليوم وتربح يوميا ما معدله 5 ألاف . وأن أغلب زبائنها من أمهات شباب أو شابات مقبلين على الزواج. وتقول "طاطا زهيرة" أن الفارق المالي بين سلسلة ذهبية تبيعها مع نفس السلسلة عند المجوهراتي، وبنفس الوزن، 7000 دينار ، والفارق بين حلق الأذن بين الجهتين 2000 دينار، ولا تخف أنها تحمل تحت " الحايك " كمية معتبرة من السلاسل و الأساور، لكن معها أيضا يخبئ خنجرا حادا، فهي عرضة للسرقة أو الاختطاف. غير أن أعوان الأمن يمنعن تجمع البائعات فيشنون من حين لأخر حملة لإخلاء المكان، لكن سرعان ما تعود المياه إلى مجاريها. وأغلب الذهب المتداول بوادي كنيس، "غير مطبوع أو مدموغ" أي أنه مغشوش، كما أن الوزن المصرح به لإسوارة مثلا ، أقل من وزنها الحقيقي، وهو ما دلنا عليه عمي علي، بائع مجوهرات مختص، ويقول " إذا صادفت سلسلة غير مطبوعة أو غير مدموغة يعني أنها إما مغشوشة وأغلب الذهب المغشوش يدخل عبر الحدود مهربا من قبل شبكات مختصة، أو ان الصائغ لم يصرح بها لدى الضرائب، و الأمر ينطبق على ما تقوم به تاجرات الذهب بوادي كنيس، حيث "يعملن مع شبكات تستقبل ذهبا مهربا من عدة بلدان على رأسها إيطاليا". وتؤكد تقارير رسمية أنه ما بين 6 و7 أطنان من الذهب تدخل سنويا بطريقة عير شرعية للجزائر عبر الحدود، يدس فيها ذهبا مغشوشا، كما أن الكمية الحقيقية للذهب الخالص والمسوّق في الجزائر تتراوح بين 3 و4 أطنان سنويا من مجموع 10 أطنان تقريبا يتم تداولها في البلاد، وأن ما نسبته 5 بالمئة فقط من الذهب المتداول حاليا بالسوق يتم طباعته على مستوى مفتشيات الضمان. لكن الصياغين وتجار الذهب يرجعون سبب انتشار تجارة الذهب المغشوش إلى ارتفاع ضريبة الدمغ التي قفزت من خمسة دنانير سنوات الثمانينات إلى 160 دينار حاليا، وطالبوا بإلغاء قانون الدمغ " الذي دفع بالتجار الكبار إلى عدم "دمغ " الذهب، وإنشاء شبكات نسوية لبيع الذهب غير مدموغ، بدلا من المحلات النظامية التي تخضع لمراقبة دورية من قبل مصالح مع الغش و التهرب الضريبي. كما أكد ابن زرقة أن الذهب الذي يدخل الجزائر من الخارج (مهربا) يعرض على أنه من عيار 18 قيراطا، في حين لا يتعدى 14 قيراطا، حيث يحتوي على نسب عالية من النحاس، عكس الذهب الجزائري المضمون من الدولة الجزائرية، وهو ذهب من عيار 18 قيراطا. وكان وزير الطاقة والمناجم الجزائري شكيب خليل اعترف بأن الضريبة المفروضة على الصائغين مرتفعة، كما قال بان قلة تصدير الذهب الجزائري إلى الخارج بسبب ارتفاع الضريبة، لكنه أعلن عن إجراءات لرفع إنتاج الجزائر من الذهب بطاقة3 أطنان سنويا، كحل من الحلول الرامية إلى تقليص كتلة " الذهب المغشوش".