وأهل القرآن لا يصيبهم الشقاء ولا النكد من شيء من الدنيا، فلا تعتريهم الأمراض ولا الأسقام خوفا على فواتها، ولا تغمرهم الأحزان والكآبة لقلة نصيبهم منها، ولا يتمكن منهم الضيق ولا الشدة إذا طلبوا حوائجهم في الدنيا فلم يتيسر لهم قضاؤها، لأنهم يدركون أن ما أعطوا منها هو خير مما فاتهم فيها، وأن جل ما يطلبه الناس ويتقاتلون عليه فيها هو السراب بعينه، ولا يفرحهم إلا قول الله عز وجل (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)، وأشد ما يطمئنهم هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (هَلْ تَدْرُونَ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ: «أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ، الَّذِينَ تُسَدُّ بِهِمُ الثُّغُورُ، وَتُتَّقَى بِهِمُ الْمَكَارِهُ، وَيَمُوتُ أَحَدُهُمْ وَحَاجَتُهُ فِي صَدْرِهِ لا يَسْتَطِيعُ لَهَا قَضَاءً...»). ولهذا كان الأمراء الربانيون يعرفون للناس أقدارهم، فيقدمون أهل القرآن في البر والصلة والمكان والمكانة، وهكذا كان يفعل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه حينما كان يزيد في عطاء أهل القرآن عن غيرهم تعليما للناس بقدر ومكانة القرآن وأهله، وكذلك ترغيبا لمن لم ينتسب منهم للقرآن بعد أن يجتهد ليرفع نسبه بهذا النسب الباقي بعدما تذهب وتُخفض وتوضع كل الأنساب، ويتجلى ذلك في وصيته للناس وقوله - رضي الله عنه - عن القرآن «أما بعد فإن هذا القرآن كائن لكم أجراً، وكائن لكم شرفاً وذخراً، فاتبعوه، فإنه من اتبعه القرآن زخ في قفاه حتى يقذفه في النار، ومن تبع القرآن ورد به القرآن جنات الفردوس، فليكونن لكم شافعاً إن استطعتم ولا يكونن بكم ماحلاً، فإنه مَن شفع له القرآن دخل الجنة، ومَن محل به القرآن دخل النار، واعلموا أن هذا القرآن ينابيع الهدى وزهرة العلم، وهو أحدث الكتب عهداً بالرحمن». وما خلا أهل القرآن بتلاوة كتاب ربهم إلا أذاقهم الله حلاوة ما تذوقوا مثلها تنسيهم كل لذة سبقتها، وتغنيهم عن كل لذة ستلحقها، فلا يتمنون من المتع واللذائذ إلا بقاء تلك اللذة التي يجدونها في رحلتهم مع كتاب الله، فهذا ابن تيمية - رحمه الله - حينما سُجن ومُنع عن كتب العلم، كان أنيسه في قلبه حينما يتلو كتاب ربه ويتدبر فيه في رحلة تذهب به بعيدا عن دنيا الناس بهمومهم وأحزانهم , وحينما كفاه مَن سجنوه مئونة البحث عن رزقه فأسدوا إليه - دون قصد منهم - نعمة جزيلة، فتفرغ قلبه للقرآن، فقال أثناءها لتلميذه ابن القيم: «والله لو أنفقت ملئ هذه القلعة ذهباً للذي سجنني ما وفيت حقه، لقد فتح الله عليَّ في هذا السجن من علوم القرآن ما يتمنى بعضه كبار العلماء، وإني نادمٌ على إضاعة الكثير من عمري في غير القرآن الكريم». فحفظ الدرس التلميذ النجيب ووعاه، فعاش بالقرآن وعمل به وسبح في تدبره الزمان الطويل، ثم قال معلما للناس: «لا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر، فإنه يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله، وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة والتي بها فساد القلب وهلاكه». وأهل القرآن يشعرون بالطمأنينة به، يهتمون بحمل مصاحفهم - وخاصة إن لم يكونوا قد ختموا الحفظ بعد - قبل أن يهتموا بحمل هوياتهم، فهويتهم الأولى القرآن الكريم، فهو النسب الباقي الذي يجعلهم من أهل الله وخاصته، ففي صحيح الجامع عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تعالى أهلين من الناس. قالوا: يا رسول الله من هم؟ قال: هم أهل القرآن أهل الله وخاصته). وإن أعظم تكرمة لكل مؤمن أن تأتي ساعة رحيله ويكون مصحفه معه أو وهو يتلو كتاب ربه ويحرك به لسانه، فإن لحظة الموت تأتي ترجمة لواقع حال الإنسان ويكون آخر كلامه في الدنيا ما عاش عليه فيها، فمن كانت حياته تلاوة للقرآن وتعظيما لقول «لا اله إلا الله» وفق لقولها قبل موته وجرى بها لسانه، نسأل الله حسن الخاتمة. ومن أعظم المشاهد التي حركت القلوب تلك الصورة التي نشرت على الانترنت لمصحف صغير كان بحوزة أحد المجاهدين في سوريا، كان رفيق دربه، عاش به وعاش معه، ولم يفارقه حتى لحظة موته، ونال المصحف الخاص به نفس التكرمة التي نالها المجاهد البطل، إذ نفذت الرصاصة في المصحف الشريف قبل أن تنفذ إلى قلب ذلك المجاهد، ليكون مصحفه شاهدا له عند ربه، نسال الله لهذا الرجل الذي لا نعرفه أن يكون ممن قال الله عز وجل فيهم: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً). فإذا كان هذا المجاهد لم يتنازل عن قراءة ورده ومطالعته في كتاب ربه وهو في ساحات الجهاد وبين أشلاء القتلى وأنات المصابين، ولم يدع أن له عذرا في تركه لتلاوة كتاب ربه، فهل لأحدنا عذر في أن يضع مصحفه على رف ولا يفكر في محو التراب عنه إلا عند مستهل رمضان القادم؟!.