حقيقة الزهد ليس المقصود بالزهد في الدنيا رفضها فقد كان سليمان و داود عليهما السلام من أزهد أهل زمانهما، ولهما من المال والملك والنساء ما لهما، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم أزهد البشر على الإطلاق، وله تسع نسوة، وكان على بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف والزبير وعثمان رضي الله عنهم من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال، وغيرهم كثير، وقد سئل الإمام أحمد: أيكون الإنسان ذا مال وهو زاهد، قال: نعم، إن كان لا يفرح بزيادته ولا يحزن بنقصانه. وقال الحسن: ليس الزهد بإضاعة المال ولا بتحريم الحلال، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يد نفسك، وأن تكون حالك في المصيبة، وحالك إذا لم تصب بها سواء، وأن يكون مادحك وذامك في الحق سواء. هذه هي حقيقة الزهد، وعلى هذا فقد يكون العبد أغنى الناس لكنه من أزهدهم، لأنه لم يتعلق قلبه بالدنيا، وقد يكون آخر أفقر الناس وليس له في الزهد نصيب، لأن قلبه يتقطع على الدنيا. من أقسام الزهد والزهد في الحرام فرض عين، أما الزهد في الشبهات، فإن قويت الشبهة التحق بالواجب، وإن ضعفت كان مستحباً، وهناك زهد في فضول الكلام والنظر والسؤال واللقاء وغيره، وزهد في الناس، وزهد في النفس حيث تهون عليه نفسه في الله، والزهد الجامع لذلك كله، هو الزهد فيما سوى ما عند الله، وفي كل ما يشغلك عن الله، وأفضل الزهد إخفاء الزهد، وأصعبه الزهد في الحظوظ. من فضائل الزهد لقد مدح الله تعالى الزهد في الدنيا وذم الرغبة فيها في غير موضع فقال تعالى: (وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع) (الرعد:26)، وقال عز وجل: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (يونس:24)، وقال: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم و الله لا يحب كل مختال فخور) (الحديد:23). وقال تعالى حاكياً عن مؤمن آل فرعون أنه قال: (يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار) (غافر:39). وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة). وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله دلني على عمل، إذا أنا عملته، أحبني الله، وأحبني الناس فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك). وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء). الأنبياء أزهد الناس الأنبياء والمرسلون هم قدوة البشر في الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) ومن طالع حياة سيد الأولين والآخرين علم كيف كان صلى الله عليه وسلم يرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويحلب شاته، وما شبع من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض، وكان لربما ظل اليوم يتلوى لا يجد من الدقل رديء التمر ما يملأ بطنه، وفي غزوة الأحزاب ربط الحجر على بطنه من شدة الجوع، ويمر على أهله الهلال ثم الهلال ثم الهلال لا يوقد في بيتهم النار، طعامهم الأسودان: التمر والماء، وكان يقول: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (إنما كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ينام عليه أدماً حشوه ليف)، وأخرجت رضي الله عنها كساءً ملبدًا وإزارًا غليظًا فقالت: (قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين).