وصل يوسف منصور إلى بغداد ونزل في فندق بغداد العريق في شارع السعدون، وعلى مدى أسبوع قام بجولات عدة في المستشفيات العراقية وعقد لقاءات مع المسؤولين في وزارة الصحة كي يتقن دوره كمندوب لشركة أجهزة طبية في أوروبا، وكان طوال تلك المدة يهيئ نفسه للمكالمة الهاتفية الحاسمة التي جاء من أجلها مع هذا الشخص المجهول المدعو جوزيف، وأخيرا قرر أن يقوم بها، فلم يعد يحتمل الانتظار أكثر. دعا يوسف اثنين من مسؤولي وزارة الصحة لتناول الغداء معه في أحد أفخم فنادق بغداد، إمعانًا في التضليل وتحسباً لأية مراقبة، وبينما كان الثلاثة منهمكين في تناول العشاء، استأذن يوسف من ضيفيه بحجة أنه لا بد من أن يجري اتصالا هاتفياً يتعلق بالعمل، ومن داخل المطعم أدار قرص التلفون بالرقم الذي معه بيد مرتعشة، وحينما رد عليه الطرف الآخر قال له: »ألو.. جوزيف؟«، فإذا بالطرف الآخر يرد: »لا لست جوزيف.. من الذي يريده؟«، فقال يوسف: »أنا صديق له من خارج البلد«، وجاءه رد الطرف الآخر: »أنا جوزيف.. من أنت؟«، فقال يوسف: »أنا قادم كي أقول لك إنه كان أمراً لطيفاً جداً أن أقابل صديقك، ربما نستطيع أنا وأنت الجلوس معا لمناقشة الموضوع«، سأله جوزيف بهدوء جعله يزداد ارتباكاً: »هل أنت الجنتلمان الذي قابل صديقي؟«، أجاب يوسف بالإيجاب، وخلال لحظات وافق على اقتراح جوزيف بأن يتقابلا معا ظهر اليوم التالي في أحد مقاهي بغداد. وجهاً لوجه في اليوم التالي كان يوسف يجلس في المقهى منتظرًا جوزيف، كان في الستين من عمره، ذا وجه داكن ومجعد، وشعر أبيض.. سرح بعيداً في كم الأخطاء التي ارتكبها، فقد كان عليه أن يختار هو موعد المقابلة ومكانها، لكن جوزيف هو الذي حدد له ذلك، وحدد له نوع الملابس التي سيرتديها، وهو أيضا الذي فرض عليه أن يذهب أولاً إلى المقهى، يا لها من حماقات لا يمكن أن يرتكبها من يعمل بالتجسس. جوزيف الآن هو الأقوى، وبدلا من أن يكون يوسف هو القط أصبح فأرا دخل المصيدة بقدميه. جلس الجاسوس الإسرائيلي متخيلاً أن كل العيون تراقبه، ومتوقعاً في أية لحظة أن يُقبض عليه.. كاد أن يروح في إغماءة حينما شعر بيد تمتد على كتفه، وصاحبها يسحب بالأخرى مقعداً ويجلس عليه، ثم قدّم نفسه له: »أنا جوزيف«، ثم قال: »إنه لشيء جميل أن تأتي إلى هنا«.. اطمأن يوسف إليه، واستبعد من تفكيره إمكان أن يكون هذا الشخص مع جهاز الأمن العراقي، فقال له يوسف: »إننا مهتمون جدا بالبضاعة التي تحدث عنها صديقك«، فقال له جوزيف: »أنت تقصد طائرة الميغ؟« فابتلع يوسف الكلمات بصعوبة وبشيء من الرعب، بينما استمر جوزيف في حديثه قائلا: »البضاعة ستكلفكم أموالا طائلة، وأيضا تحتاج إلى بعض الوقت، لكني أعتقد أن النجاح ممكن في النهاية«، فأردف يوسف: »أصدقائي لا يفهمون كيف ستستطيع أنت إنجاز المهمة التي فشل فيها الآخرون.. وأرجو ألا تزعجك صراحتي«، ابتسم جوزيف واقترح مقابلة ثانية، إذ سيكون ثمة مجال أوسع للحديث، واتفقا أن يكون اللقاء في اليوم التالي في إحدى حدائق بغداد بعيدا عن الزحام، وفي ذلك اللقاء بدأ جوزيف يحكي له حكايته. إنه أولاً يهودي، منحدر من أسرة يهودية فقيرة، لكنه حرص على إخفاء تلك الحقيقة عن معارفه، وقد تربى عند أسرة مسيحية عمل لديها كخادم منذ أن كان في العاشرة، كانت أسرة ثرية جداً، وعاش عمره خادمًا لديها وكاتمًا لأسرارها، ومنذ قيام دولة إسرائيل وهو يرى نفسه أنه تابع لها، وكان يكنّ كراهية شديدة للعرب، ويتمنى في قرارة نفسه أن توجّه إسرائيل مزيدا من الضربات الموجعة إليهم، لكنه يتظاهر بأنه مواطن عراقي غيور ومحب لوطنه، وهو لم يتعلم وبالكاد يقرأ بصعوبة، لكنه مخلص لعقيدته اليهودية، ويلتقي سرا بعدد من يهود بغداد يتبادل معهم الأماني بشأن دولتهم الوليدة، ويتعاهدون سوياً على إخلاصهم لها. كان الابن الأكبر لهذه الأسرة واسمه منير رضا، تلقى تعليمه في المدارس العراقية، ولم يشعر يوما بأي تمييز بينه كمسيحي ماروني وبين زملائه المسلمين، وأكبر دليل على ذلك أنه اختير ليكون طيارا ممتازا، ونائبا لقائد أحد أسراب الطائرة »الميغ 21«، التي حصلت عليها العراق أخيرا من الاتحاد السوفياتي، وهي واحدة من أسرع الطائرات المقاتلة وأفضلها في العالم. كانت أحاديث منير رضا الدائمة بين أفراد أسرته عن مميزات الطائرة الميغ، وتلك الأحاديث المتكررة هي التي ولّدت في رأسه تلك الفكرة الشيطانية، فكرة أن يقدم لإسرائيل خدمة كبرى بتقديم أسرار الطائرة لها، إنه الآن، يعرف من الأسرار الشخصية لأفراد الأسرة كلهم، الذين يعمل خادما لديهم، ما يسمح له بابتزازهم، ويستطيع إقناع منير رضا بالتوجه بطائرته إلى إسرائيل، خصوصا لو ضمن رب الأسرة الثري حياة أخرى من الثراء له ولباقي الأسرة خارج العراق. ولأن جوزيف كان أمياً، فإنه كان يرى حلولا سهلة للمشاكل المعقدة، فقد أوصى أحد أصدقائه من اليهود العراقيين الذين يتقابل معهم سرا في بغداد بأن يحاول في أول رحلة له إلى باريس الاتصال بالسفارة الإسرائيلية هناك، وبعد أن تم ذلك فعلا جلس جوزيف في حالة انتظار، واثقا من أن الإسرائيليين سيتابعون الخيط إلى نهايته. هنا سأله يوسف منصور: »لكن ما الذي يضمن لك هذه الأسرة؟« رد جوزيف فورا: »إنها أسرة بلا انتماء لهذا البلد، وثراؤهم يجعل ولاءهم للمال وحده، ولذلك فلو عرضنا عليهم نصف مليون جنيه إسترليني مثلا، فإن هذا سيكون كافيا، أما بالنسبة إلي فإنني أريد الذهاب كي أقضي بقية عمري في إسرائيل، حيث أعتقد أنهم سيكافئونني بما فيه الكفاية«. خطّة محكمة بعد ذلك بأسبوع، عاد العميل السري يوسف منصور إلى أوروبا، ومنها إلى تل أبيب، وكان في انتظاره مائير أميت شخصيا، فأخبره بما حصل عليه من معلومات في بغداد، وأكد له أنه تأكد من حقيقة وجود الأسرة المارونية الثرية، وأن ابنها الأكبر منير يقود طائرة »ميغ 21« فعلاً. بعد شهرين، عاد يوسف مجددا إلى بغداد، ليحصل على مزيد من المعلومات من جوزيف، ويعرض أمامه خطة الهروب ب »الميغ«، وطلب منه إقناع رب الأسرة بأن يقترح على أحد أبنائه السفر فورا إلى سويسرا بحجة العلاج، حيث تستطيع المخابرات الإسرائيلية أن تعطيه نقدًا عربون المهمة، حتى يستطيع الحصول على نصف مليون جنيه في النهاية، وحينما سأل جوزيف عن العربون رد يوسف بسرعة: »ربع مليون جنيه إسترليني«، فقال له جوزيف إن منير لن يطير بطائرته إلى إسرائيل إلا إذا تأكد أن والده سيأخذ الأسرة كلها إلى الخارج، ورب الأسرة لن يفعل ذلك إلا إذا أخذ مالا كافيًا. في مقر المخابرات الإسرائيلية، كانت الاجتماعات تتوالى لبحث تنفيذ العملية، وكان مبلغ النصف مليون جنيه إسترليني يعتبر كبيرا، لكن المقابل كان أكبر، بالإضافة إلى أن المخابرات الأمريكية تسعى أيضا إلى الحصول على »الميغ«، ولا بد من أنها ستسدد الفاتورة، وتشاور أميت مع إسحاق رابين رئيس هيئة الأركان الإسرائيلية في ذالك الحين، ثم التقى الإثنان برئيس الوزراء ليفي أشكول، وحصل الأخير من مجلس الوزراء المصغر على قرار بالمضي في المشروع، وأثار في معرض حديثه عن المشروع نقطتين في غاية الأهمية: - أولا: نجاح إسرائيل في سرقة طائرة »ميغ 21« من العراق سوف يزيد من احترام أجهزة المخابرات الأمريكية والأوروبية للمخابرات الإسرائيلية، ومن ثم يضاعفون مساعداتهم لها ودعم شبكاتها. - ثانيا: يجب أن تسعى إسرائيل إلى الحصول على مساعدات مبكرة وحاسمة من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، لأن لها شبكات أكثر انتشارا في الدول العربية ومن بينها العراق. بدأ العمل فورا، جنّد جهاز المخابرات الإسرائيلية كله للمهمة، وكان أميت غير مستعد لتحمُّل أي فشل تتسبب فيه أي صدفة غير متوقعة، ولذلك جهّز خمس مجموعات: تتكون الأولى من يوسف منصور وخبير لاسلكي ومهمتها البقاء في بغداد، تحت ستار أنهما من رجال الأعمال، ومن خلال ذلك يستمران في الإتصال بجوزيف وبعض أفراد الأسرة لو أمكن. تتكون الثانية من أربعة أفراد ويكون مقرها بغداد أيضا ومهمتها مراقبة وحماية المجموعة الأولى سرا، ومن دون أن يعلم يوسف منصور نفسه، وأعطت المخابرات الإسرائيلية للأخير رقم صندوق بريد في بغداد هو حلقة الاتصال بينه وبين المجموعة الثانية. أما الثالثة فتتكون من ثلاثة أشخاص هرِّبوا إلى بغداد كي تراقب ليل نهار أفراد الأسرة المارونية من خلال أجهزة ووسائل تنصت إلكترونية حصلت عليها إسرائيل من وكالة المخابرات الأمريكية. تأتي بعد ذلك المجموعة الرابعة، وتتكون من ستة أفراد من المخابرات العسكرية، تمركزوا في كردستان، وكانت مهمة تلك المجموعة الاتصال بالأكراد الذين سيشاركون في تهريب أفراد الأسرة خارج العراق. أخيرًا نصل إلى المجموعة الخامسة والأخيرة وكان مقرها منطقة الأهواز في إيران، ومهمتها المساعدة في ترحيل أسرة الطيار منير رضا، وفي الوقت نفسه أُرسل فريق دبلوماسي إلى الولاياتالمتحدة وتركيا لوضع ترتيبات الهبوط الاضطراري للطائرة في ما لو أصبح ذلك ضروريا، فلقد كانت المشكلة أن رحلة الطائرة من العراق إلى إسرائيل ستكون فوق أراضي معادية ولا بد من وضع ترتيبات محكمة لضمان وصول الطائرة. هكذا اتسع نطاق الترتيبات كي تشمل أجهزة المخابرات كافة في إسرائيل والولاياتالمتحدة، كذلك كان وزير الدفاع الأمريكي من مقره في البنتاغون يتابع التطورات أولاً بأول. زيارة سرّية لكن جوهر الموضوع كله لم يكن يجري داخل بغداد، لقد استغرق جوزيف نحو أربعة أشهر كي ينجح في إقناع رب الأسرة، والد الطيار، بنجاح الخطة، لكن حينما جس الأب نبض ابنه الطيار وجد لديه ترددا شديدا جعل الموضوع يحتاج مزيدا من الوقت، وبعدما سال لعاب أجهزة المخابرات في أمريكا وإسرائيل أصبح الكل يتلهف إلى إتمام العملية، سافر رئيس المخابرات الإسرائيلية مائير أميت، بناء على تكليف من رئيس الوزراء، سرا إلى واشنطن للاجتماع برئيس المخابرات الأمريكية ليحصل منه على مزيد من الضمانات والمساعدات الأمريكية العاجلة لإنجاح العملية المشتركة. بناء على ما اتفِق عليه في الاجتماع، اجتمع دبلوماسي أمريكي كبير في السفارة الأمريكية في بغداد سراً بالطيار العراقي منير رضا، بهدف حسم التردد لديه، وتقديم مزيد من الضمانات له كي تطمئن نفسه ويثق في نجاح العملية ونقل أسرته سالمة خارج العراق. بعد المقابلة السرية التي تمت بموعد وفي مكان اختير بعناية فائقة، عاد الدبلوماسي الأمريكي الكبير إلى واشنطن تحسبا لأي احتمال مستقبلي بأن تكتشف الحكومة العراقية حقيقة دوره السري في بغداد. بعد ذلك تلقى منير رضا دعوة لزيارة باريس للاتفاق على باقي الترتيبات، وسافر في صحبة امرأة أمريكية جذابة، بحجة أنها وقعت في حبه، وفي باريس وفي سهرة حمراء فقد الطيار الوعي، ولما أفاق وجد نفسه في إسرائيل، وبعد لحظات كان يجلس مع موردخاي قائد سلاح الطيران الإسرائيلي، وكان الغرض من الرحلة استخدامها كنوع من وسائل الضغط لحسم تردد منير رضا، فقد صوِّر وهو فاقد الوعي في أوضاع مخلة، كذلك صوّر في إسرائيل مع عدد من قادة الأخيرة، وألمحوا له إلى أنهم سيرسلون الفيلم إلى السلطات العراقية، وسيكون مصيره الحتمي الإعدام بتهمة الخيانة العظمى. كان الطيار في موقف لا يُحسد عليه، فلو رفض سيكون مصيره الإعدام من السلطات العراقية، ولو وافق فإنه بذلك يرتمي في أحضان إسرائيل، فقرر المضي في العملية، وبعد أشهر بدأ التنفيذ العملي لها. حصل قريب للأسرة على تأشيرة خروج من العراق إلى سويسرا للعلاج، في الوقت نفسه أمكن الحصول على شهادة طبية من أحد الأطباء في بغداد تفيد بأن الطيار الماروني منير رضا يحتاج إلى عملية جراحية ولا بد من إجرائها في لندن، ومن ثم أصبح طبيعيا أن تصحب الأم ابنها في رحلة العلاج. من ناحية أخرى، كان أمرًا عاديا أن تذهب أسرة ثرية برحلة نهاية الأسبوع إلى كردستان، حيث اتفق مع عملاء الموساد على تهريب أفراد الأسرة جميعا إلى الأهواز داخل إيران، حيث تنتظرهم طائرة هليكوبتر إسرائيلية، وحدد يوم 15 أوت 1966 لتنفيذ الترتيبات كلها، وهكذا سيكون الطيار منير رضا بطائرته »الميغ« في رحلة روتينية في الصباح الباكر شمال العراق. في الموعد المحدد، استقل منير طائرته من قاعدة الموصل الجوية، وبمجرد أن أصبح في شمال العراق انحرف بطائرته فجأة ودخل الحدود التركية قبل أن تدرك أجهزة المراقبة الروسية الموجودة في العراق حقيقة ما حدث، فاستقبله سرب من طائرات »الفانتوم« الأمريكية إلى أن هبط في قاعدة جوية سرية تابعة للمخابرات الأمريكية، حيث تزوَّد بالوقود، ثم أقلع ثانيةً بمصاحبة سرب »فانتوم« أمريكي واتخذ مسارًا فوق البحر المتوسط حتى وصل إلى مكانه المحدد في إسرائيل. بعدها عرفت المخابرات المركزية الأمريكية والإسرائيلية أسرار الطائرة »الميغ 21«، والتي كانت تسبِّب لهما الرعب، وأدى كشف أسرارها إلى مضاعفة قدرة إسرائيل على ضرب مصر وسورية والأردن بعد ذلك بعشرة أشهر فحسب في الخامس من جوان 1967.