مهمة الروائي أن يفضح تناقضات الواقع المنافق والفصامي لا أريد أن أسلي أحدا فهناك السكاتشات التي تلعب هذا الدور "دمية النار" رواية جديدة للروائي الجزائري بشير مفتي صدرت أواخر عام2010 عن الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت/منشورات الاختلاف، الجزائر. وهي الرواية السابعة في رصيده السردي بعد أعمال روائية سابقة صدرت على مدى السنوات الماضية هي على التوالي: "المراسيم والجنائز" عام 1997، "أرخبيل الذباب" عام 2000، "شاهد العتمة" عام 2003. "بخور السراب" عام 2005 والتي أعادت نشرها دار الحوار، "أشجار القيامة" عام 2007، "خرائط لشهوة الليل" عام 2009. أيضا للكاتب في فن القصة 3مجموعات قصصية هي: "أمطار الليل" عام 1992، "الظل والغياب" عام 1995، "شتاء لكل الأزمنة". في هذا الحوار يتحدث مفتي عن روايته الأخيرة "دمية النار" وعن أهم الأجواء التي تتسم وتنشغل بها، وعن شخصياته المشحونة والمشغولة بالقلق والأسئلة وعن الواقع الذي تُعيد الرواية ابتكاره وتخيله، وعن الأدب الذي يرى فيه منفذه وخلاصه. حاورته/ نوّارة لحرش "دمية النار" روايتك الجديدة، ربما هي الرواية الأكثر حفرا في الواقع والسياسة والمجتمع من رواياتك السابقة؟ بشير مفتي: "دمية النار" رواية عن الواقع لكن الواقع منظورا إليه من رؤية ذاتية، أي الواقع وقد تحول لفن، لقصة متخيلة، تظهر من الناحية الخارجية كأنها قصة واقعية، ولكن ما هو الواقع في الرواية؟، إنه الشيء الذي نتصوره واقع، وشيء آخر، غير الذي نعيشه، غير الذي عشناه، أظن ما تحاول الكتابة التطرق إليه هو واقع سرابي، يُعاد تخيله، يُعاد تركيبه لغويا وفنيا من جديد، ومن هنا فأنا لا أدعي أن "دمية النار" هي أكثر رواياتي حفرا فيما ذكرته، هي رواية تتساءل كغيرها، تواجهه كغيرها، وتفتح نوافذ كغيرها مما كتبت سابقا، ذلك أنني أكتب وفق رؤية معينة وهاجس معين، ولي نظرة تختلف عن زملائي الكتاب الجزائريين الذين لهم منظوراتهم المختلفة للرواية فهما وتطبيقا، وأنا أحب التعدد، أحب أن لا أكون كما غيري، وأحب أن يكتب كل واحد وفق رؤيته أو لا رؤيته، وفق تجربته أو لا تجربته، وفق حياته أو لا حياته، وفق متخيله أو لا متخيله، ومن هنا لا أستطيع رؤية "دمية النار" منفصلة عما سبقها، بل متصلة بحبال كثيرة بعضه ظاهر وبعضه خفي، وأنا لا يزعجني الإستمرار في كتابتي على النمط الذي أكتب به، لا يزعجني بتاتا أمر كهذا، بل أفرح به، لأنني لا أؤمن بالتحولات التي يدعيها البعض والطفرات والتجاوزات التي يصرح بها هذا أو ذاك، وقدوتي هم دائما أولئك الكتاب الذين بفضلهم كتبت، وأحببت الأدب، ورأيت فيه منفذي وخلاصي، مثل كافكا الذي لا أمل من الاستشهاد به لسبب بسيط، أنه كاتب حقيقي، عاش الكتابة لذاتها، ولم يدعي فيها أي شيء، بل طلب حتى بحرق كتبه بعد موته، وعندما نقرأ كافكا لا نجد كثير اختلاف بين "المحاكمة" و"القصر" مثلا أو حتى روايته "أمريكا" التي لم ينهيها، إنه عالم واحد هو عالم الكاتب نفسه. بالطبع هناك القصة التي تتغير، وربما الإتقان أكثر، لأن ما يحرض الكاتب على الاستمرارية هو إحساسه بالنقص وعدم الكمال، وهو شعور طبيعي يجعلك كلما كتبت رغبت في الأجود والأحسن، غير ذلك أعتبره ادعاءات يمكن أن تسلي بعض القراء أو تلهي بعض الدارسين والنقاد. الرواية ملتبسة ومتلبسة بالواقع والخيال معا، لكنها تبدو واقعية أكثر، ويبدو الخيال أمام واقعيتها الملفتة خافتا، ما رأيك؟ بشير مفتي: كما قلت لكِ سابقا لا أعتقد أن هناك واقع كما هو الواقع على حقيقته في الرواية، ذلك أنها -أي الرواية- تُعيد ابتكاره وتخيله، لا أريد أن أدعم موقفي بالمرتكز اللساني الذي فضح وكشف لنا تلك العلاقة الإعتباطية بين الاسم والمسمى، وهذه حقيقة باتت واضحة وبديهية لا تحتاج لنقاش، ثم شيء آخر، الواقع بالنسبة لي له عدة أبعاد ووجوه، هو ليس واحد، أي أنه قد يكون واقعا ذهنياً، واقعا حُلميا (ذلك أننا نقضي وقتا من حياتنا في الأحلام) أو واقعا نفسيا، بمعنى كل ما يدور بداخل شخصية البطل من توترات وصراعات (وكما لاحظتِ روايتي تعج بذلك) هناك نظرة أكثر من واقعية، وهذا الطرح لا يعني أنني أتهرب من واقعية ما قد ترينها أنت، أو غيرك، من باب أنني حكيت عن حقب زمنية معينة، أو حددت إطارا لهذه الرواية من السبعينيات إلى غاية اليوم أي كما لو أنني أوهمتكم جميعا بواقعية روايتي، طبعا هي لعبة من بين لعب كثيرة توهم بذلك، ولقد سرني بحق أن الكثير من القراء البسطاء جاؤوا يسألوني عن هذه الرواية إن كانت حقيقية، وان كانت سيرة هذا البطل سيرة واقعية، أي وقعت بالفعل، لم يكن مهما لي نفي ذلك، فإن صدقوا فذلك يعني أن الرواية أقنعتهم، وهذا جميل في حد ذاته. ما هي أكثر الجينات، أو الملامح التي تشترك فيها مع بطل الرواية، وهل رضا شاوش الذي شغل حيز الرواية هو بشكل أو بآخر بشير مفتي الذي يتحرك في حيز الحياة ككاتب ومثقف وانسان وإن على مستوى الأسئلة التي ربما تشتركان فيها؟ بشير مفتي: لا أدري إن كان يجب تقديم تلخيص للرواية حتى يفهم القارئ عما نتحدث هنا، فلا أظن الجميع قرأ "دمية النار" ويعرف حياة رضا شاوش، الذي يلتقي بالكاتب بشير م ويعطيه مخطوط سيرة على أمل أن ينشره باسمه. يحكي فيه قصته مع الحياة وعلاقته المشوشة مع والده ضابط السجن من الطفولة حتى انتحار والده، وحبه الغريب لفتاة اسمها رانية حتى لحظة انفجار الحب، وصراعه مع مفتش الشرطة سعيد بن عزوز الذي كان خصمه العنيد ثم صار قريبه الجديد، وحكايته مع العربي بن داود الذي كان بمثابة الأب الروحي له، وتطور حياته أو انحدارها من المثالية إلى أن يجد نفسه لأسباب كثيرة ضمن جهاز يعيش في الظلام ويطلب منه تنفيذ عمليات مدبرة ضد جهات متعددة ويتم ترقيته بعدها ويبقى صراعه مستمرا بينه وبين نفسه وبينه وبين الجهاز حتى عندما يبلغ أعلى مراتبه...الخ. أظن بأن الكاتب يستطيع أن يعيش أكثر من حياة عبر رواياته ويحكي كل ما يريد أن يحكيه من خلال التماهي مع شخصية من الشخصيات ولنخرج من التفسير البسيط على أن كل ما يحكيه الكاتب هو حياته أو سيرته وحتى لو وجد الكاتب في روايته فهذا بالنسبة لي غير مهم أن يعرفه القارئ. اعتمدت تقنية الرواية داخل الرواية، وهي تقنية صار يعتمدها الكثير من الكتاب لأنها تستهويهم، فما الذي يعجبك فيها ولماذا لجأت في روايتك هذه أيضا إلى كتابتها بهذا الشكل؟ بشير مفتي: كما تعلمين جربت هذه التقنية منذ "أرخبيل الذباب" و"شاهد العتمة" حينما لم يكن قد استعملها أحد بعد، كما جربت تعدد الأصوات السردية، وهي التقنيات التي لم تكن مألوفة عند كتابنا، أو لم يكن يستهويهم هذا اللعب الروائي لأسباب أجهلها، الآن طبعا يوجد من انفتح على ذلك وهو شيء جيد، لكن استعمال هذه التقنية كان مبررا في "دمية النار" وأهم شيء أن لا يكون اللعب للعب ولكن لضرورات تخدم الرواية وتطورها وبناءها، أي لم أتقصد تقديم هذه التقنية للتزيين أو البرهنة على براعة تقنية ولكن لأنها كانت مناسبة لخطة الرواية وبناءها. مازلت تستثمر في المثقف المهزوم المطعون بالكوابيس والمشغول بالأسئلة، وكأنك تصر على أن يكون أبطالك من الطبقة المثقفة، لكن المهزورة والمهزومة نفسيا وعلى مستوى الحياة والتجارب؟ بشير مفتي: لسبب بسيط أن حياتنا مليئة بالهزائم والخيبات، وبالأسئلة التي لم نجد لها بعد إجابة، ونعيش في حرب مستمرة بيننا وبين واقعنا، وآفاقنا مسدودة، نشعر جميعنا بالاغتراب وبعدم الجدوى، عشنا عنفا قاتلا لأكثر من عقد، ومازال هذا العنف يؤثر في لاوعينا، ووعينا لهذا فأنا لا أريد أن أسلي أحدا، هناك "السكاتشات" تلعب هذا الدور، وأيضا الأدب يصلح للغوص في تلك الشخصيات الغامضة والمظلمة أكثر من "السوية" لأن ما يغوي الأدب هو الجانب الآخر من الجنة، هو الجانب المعقد في الإنسان، ولا يمكن لشخصياتي إلا أن تكون مثقفة لأنها تريد أن تعرف لماذا حدثت الأشياء بهذا الشكل؟، لماذا وصلنا إلى هذا الطريق المسدود؟، لا أظن شخصية إنسان بسيط يمكنها أن تتساءل رغم ذلك لا أغمط الأنواع الأخرى من الشخصيات حقها من الوجود. إذ قرأت رواياتي جيدا سترينها. أيضا نراك تدفع بأبطالك إلى السقوط أو التخبط في متاهات الصراعات التصادمية مع الذات غالبا، كأنك تتلذذ بعذابهم، أو كأنك تجبرهم على اختبارات قاسية ومؤذية بشكل ما؟ بشير مفتي: لست أنا من يدفعهم لذلك، ربما القدر، اللحظة التاريخية التي يعيشون فيها، إحساسهم بالخيبة في الحب، أو عدم قدرتهم على المواجهة، أو عدم رضاهم على الحياة التي وجدوا فيها، أو..الخ. هناك أسباب كثيرة تجعل الحياة مغلقة، سوداوية، يظن الإنسان في طفولته أو شبابه أنه قادر على تحقيق كل ما يريده لكنه مع مرور الوقت يكتشف العكس، وقد يصطدم بعقبات لا أول لها ولا آخر، هناك من يصمد وهناك من يسقط وهناك من ينهزم وهناك من يقاوم، هذه هي سنة الحياة ولهذا رواياتي تبدأ عادة من أحلام البراءة وتنتهي مع كوابيس الحياة الحقيقية. من جهة أخرى تحاول إسماع الأصوات المقموعة والمقهورة، أصوات الذات وأصوات الآخر، الأصوات التي لها نبرة مختلفة رغم سوداويتها وصمتها الإضطراري والإختياري أحيانا، فهل يعني هذا أن وظيفة الرواية أن تفتح أيضا منبرا للأصوات المختلفة قبل المتآلفة؟ بشير مفتي: أنا أعبر عن المقموع في مجتمعنا مثل صوت المرأة التي تعنيني كثيرا، وأعتقد بأنها تمثل الحياة التي قهرها الرجل الجزائري، برجولته المزيفة وثقافته الذكورية القاسية، لقد أقصى الذكر الأنثى وغيبها من الوجود، ولم يكن يعلم أنه بهذا الشكل كان يقتل معها حياته وأحلامه وتطلعاته، عندما نقصى المرأة فنحن لا نفعل غير قتل عمدي للحياة في أجمل وجوهها. ولهذا أعطي للمرأة صوتا تقول به ما تريد بل كتبت رواية "خرائط لشهوة الليل" بلسان شخصية نسائية "ليليا عياش" كما يهمني صوت المثقف الذي يرفض بيع ذمته، لأن الصراع بين الخير والشر في رواياتي هو صراع بين المؤسسة القامعة والصوت الذي يريد أن يواجه هذا القمع. إلى جانب الأجواء المشحونة بالأسئلة في رواياتك، تحضر أيضا وبقوة الفلسفة والثقافة والأدب هل يعود هذا إلى كونك ككاتب بالأساس، وبالتالي الوسط الأدبي هو الأقرب إليك وتعرف تفاصيله ودروبه أكثر أم هي خياراتك القصدية سلفا؟ بشير مفتي: لا أستطيع أن أسأل هنري ميللر أو أرنستو ساباتو لماذا تتحدث عن الأدباء في روايتك؟، إنه شيء يدخل في صميم عالمهم الروائي، وفي هذا العالم الكاتب حر أن يتحدث عن عالم الكتاب أو الزهور أو الحيوانات أو النمل، والسؤال الذي يمكن طرحه هل كان هذا الحديث مبررا ضمن العمل الروائي أم لا؟، هل يناسب هذا الحديث شخصيات الرواية؟، بالنسبة لي لا أرى أي مانع أن تتحدث الشخصيات في الفلسفة أو الرواية؟ وتتساءل، روايات دوستويفسكي تعج بهذا النوع من الحوارات التي أستعذبها كثيرا وأعتبرها ملح الرواية لأن الروائي يكون كريما مع قراءه فيعطيهم بعض الاشارات عن الكتب التي يحبها... الخ. أما كون روايتي تصدر عن رؤية فلسفية فهذا طبيعي أو جوهري، ربما نتاج حبي للفلسفة وقراءاتي الكثيرة، ولا أستطيع تصور مجتمع سليم ومعافى دون أن يفتح الباب للفلسفة بأسئلتها المختلفة في طرح معنى الوجود الإنساني خارج الأكل والشرب والنوم والجنس، الحياة والموت والحب كأسئلة خالدة لا تفنى مع الزمن. يحضر الجنس في رواياتك كما يحضر الموت وتقريبا بنفس السطوة، ما السر في هذه الثنائية/التيمة المتآلفة المتلاصقة؟ بشير مفتي: لا يوجد أي سر، لأننا عشنا في مناخ زاوجنا فيه بين الحب والموت، بين الرغبات المسكرة والإحساس بالنهايات المؤلمة، الجنس موجود لأنه موجود في الحياة أيضا. ثم لأننا مجتمعات ندعي المحافظة بينما الواقع يعج بحوادث الإغتصاب وزنا المحارم والاعتداء على الأطفال والنساء، مهمة الروائي أن يفضح تناقضات هذا الواقع المنافق والفصامي ليس لغرض إصلاحي فهو ليس مربي بطبيعة الحال، عمل الروائي يقوم على سرد حكاية متقنة وبناءها بشكل يقنع القارئ ويشعر معه هذا الأخير بأنه عاش تجربة مختلفة ومميزة. ولهذا لا أقحم الجنس كما قد يفعل البعض لغاية استدراج قارئ مكبوت أو اللعب على وتر الغريزة وما شابه ذلك. يهمني أن يندرج الجنس ضمن تفاصيل الحياة الطبيعية للناس فيقرؤونه بشكل عادي وطبيعي دون أن يثير فيهم ذلك التزمت المعهود. الملاحظ أنك لم تستثمر في التراث والموروث الشعبي والأساطير كما فعل الكثير من أبناء جيلك، فهل هذا عن قصدية أو دون تخطيط، أم الأجواء الكافكاوية أطبقت عليك وأبعدتك عن الأجواء التراثية والأسطورية؟ بشير مفتي: أقرأ كتب التراث كثيرا، أحب النصوص التراثية واللغة التراثية، أحيانا تأخذني الرغبة في الكتابة على شاكلة السلف وقد أفعل ذلك في يوم ما، لكن الموروث الشعبي الجزائري أظن الذين ولدوا بالقرى هم الأقدر على حكيه وإن لم أجد بعد من يقنعني بنصوصه حتى الآن اللهم إلا الخير شوار في روايته الأولى "حروف الضباب"، أنا تأسرني المدينة أكثر، الريف يحتاج لكتابة ماركيزية على منوال "مائة عام من العزلة" أما المدينة فتتطلب إحساسا وجوديا بالعالم، لأن المدينة تعطي البطولة للفرد بينما القرية تعطي البطولة دائما للجماعة، وأنا لا أتحمس كثيرا للجماعات وأحب الفردية. ماذا بعد الدمية، هل هناك رواية جديدة قيد الإشتغال؟ بشير مفتي: لا شيء الآن.. فقط تفكيرات وتأملات.. خطوط غير واضحة وقد تتضح لاحقا.