دار الوصفان .. مزار الباحثين عن الشفاء و عن التاريخ ينقطع صخب و هتاف الباعة الصادر من حي السويقة "ملاح سليمان" الواقع بقلب مدينة الصخر العتيق قسنطينة، المعروف بحركيته التجارية المستمرة طيلة النهار، بمجرّد عبور أول باب يوصلك إلى بيت دار بحري أو دار الوصفان التي تعد جزء مهما من ذاكرة المدينة القديمة، لما تحمله من أسرار و ذكريات العائلات العريقة و احتفالياتهم التقليدية من «نشرات»، «وعدات» و «زردات» كانت تحيا في هذا البيت الذي لا زال صامدا منذ حوالي خمسة قرون. لا يمكن ذكر حي السويقة دون الحديث عن دار بحري الواقعة بشارع عبد الله باي، و التي زارتها النصر، بعد سبعة أشهر من انتهاء عمليات الترميم بها و عودة أهلها لمتابعة ما توارثوه عن الأجداد من إرث موسيقي و ثقافي تمتد جذوره إلى عمق إفريقيا و الذي لا يخرج عن موسيقى الديوان أو المجالس التي تعقد في البيوت و الزوايا و أضرحة الأولياء الصالحين، لأجل المديح أو الذكر باستعمال الطبول، و بعض الآلات الموسيقية التقليدية كالقنبري، و القرقابو و الدربوكة، و الطبول و الكركطو الذي يشبه آلة معروفة محليا باسم الناغرات و التي يتم الدق عليها باستعمال أعواد خشبية. طرقت بابا حديديا في زقاق ضيّق، فلم يجب أحد، و بعد إلحاح، أخبرنا بائع كان يعرض سلعا بسيطة بمدخل الدرب المؤدي إلى دار بحري بإمكانية الدخول، ففعلت بنصيحته و دفعت الباب الذي لم يكن مغلقا تماما، حيث قابلتني جرة عملاقة و أخرى أقل حجما و شباك يقي الوافدين من خطر تساقط حجارة البناية القديمة المجاورة، و عند اقترابي من الباب الخشبي الكبير جذبت انتباهي قطع صخرية عملاقة رتبت على الجانب الأيمن و كأنها مائدة تحيط بها كراس صخرية. وقفت من جديد بالمدخل الثاني و طرقت هذه المرة الباب بمطرقة نحاسية نموذج من الأبواب التي كانت تتميّز بها البيوت القديمة، و أنا أنظر إلى الأرضية المنسوقة بحجارة متفاوتة الأحجام، ففتحت إمرأة شابة تدعى عائشة التي استقبلتني بحفاوة، و دعتني إلى الداخل، مررنا بسقيفة، ثم فناء داخلي مفتوح»وسط الدار»، انتابني شعور غريب و أنا أرقب الحوض المائي و الآلات الموسيقية الكثيرة و الصور الفوتوغرافية و الشهادات التقديرية التي كانت تزّين كل الجدران خارج و داخل الغرف المنسّقة حول تلك الباحة، كما لو كانت توحي بأسرار طقوس كانت تمارس دون شك في هذا المكان المنغلق على نفسه ككل البيوت القديمة التي تعكس ثقافة مجتمعية عن زمن كانت حرمة البيوت فيه مصانة. بدا لنا البيت، كأنه يخفي أسرارا لا يملك فض أختامها و أخبارها إلا المقربون، فكان علينا انتظار الهادي حشاني الأخ الأكبر و الرئيس الحالي لفرقة دار بحري الذي حمل المشعل بعد رحيل والدته الحاجة جميلة التي منحته هذه الهبة العائلية، و التي لا يمكن التحدث عن دار بحري دون التوقف لمعرفة قصة هذه المرأة. فالحاجة جميلة حشاني المولودة تومبكتو يمكن نسبة إلى أصولها المالية أو تبركا بهذه المدينة الملّقبة بجوهرة الصحراء التي كانت دائما ملتقى القوافل البرية للقادمين من النيجر و ليبيا، و المعروفة بازدهار الحركة الثقافية فيها، ولدت بقسنطينة يوم 28جانفي 1920 و توفيت في نفس يوم و شهر ميلادها في 28جانفي 2000، حملت المشعل عن الأولين و تمكنت من الحفاظ على طريقة الوصفان، و لقنت أولادها و أحفادها كل ما تعلمته بدورها عن الأجداد. و كانت وفية للأولياء الصالحين، حيث كانت تزور كثيرا أضرحة بعضهم أو بالأحرى الأقرب إلى قلبها، كضريح محمد الغراب، و الحنصالي، و سيدي سليمان، و بو لجبال. كما لم تكن ترفض المشاركة في الاحتفاليات التقليدية المعروفة باسم الزردة أو الوعدة أو النشرة و التي تلتقي جميعها في مشاركة الوصفان في ممارسة بعض الطقوس التي تفرضها المناسبة و الرقص و الغناء باستعمال الطبول الصاخبة. أسطورة منبع سيدي سليمان «أنا نكفي زواري» الشيخ الهادي استرجع بعض الصور من «الزردات» التي كانوا يرافقون والدتهم إليها و توّقف عند زردة سيدي سليمان المعروفة بمنبعها المائي الذي تنخفض وتيرة تدفقه في سائر الأيام،لكن عند حضور الزوار و الضيوف المدعويين لحضور الزردة ، تتدفق بقوة بقدرة الخالق على حد قوله، حيث سرد الهادي بحماس أسطورة هذا النبع و وعده بالتدفق كلما زاره الأوفياء لذاكرة الولي الصالح سيدي سليمان، استنادا إلى ما أخبره به الأولون بأن النبع الذي بني حوله حوض كبير قال ذات يوم «أنا نكفي زواري» أي لا داعي لأن يقلقوا بشأن مشربهم باعتبار المكان معزول جدا و يصعب الوصول إليه لمسالكه الوعرة. سالم ابن الشيخ الهادي الذي تحدث إلينا قبل وصول والده، كان بمثابة الدليل السياحي الماهر لتفوّقه في تقديم لمحة عن بيت العائلة الذي يعود تاريخ بنائه حسبه إلى 1738، حيث شرح لنا بإسهاب مكونات البيت الذي كان بحق مثالا صادقا لجمال البيت العربي المغلق من الخارج و المفتوح من الداخل، يتوّسطه فناء تحيط به غرف كثير بالطابقين الأرضي و الأول و التي قال سالم أنها تعرف باسم المجالس و هي غرف كبيرة تجاورها غرف صغيرة، حيث يتكوّن الطابق الأرضي من أربعة مجالس، في حين يتكوّن الطابق الأول من ست مجالس أخرى. و يتوسط الطابق الأرضي على جهته اليمنى سلالم تؤدي إلى»المسراق»و هي غرفة صغيرة، سميت بهذا الاسم لأنها تقع بين طابقين و بالتالي تسرق مساحة من الطابق الأول و مساحة أخرى و من الطابق الأرضي. و يتذكر أهل البيت الحركة الكبيرة التي كان يتمتع بها بيتهم في الماضي، و الذي لم يكن يخل من الزوار طيلة العام، كما كان الجيران يعيشون كأسرة واحدة، باعتبار دار بحري كانت تأوي عددا من الجيران أو المستأجرين الذين تعايشوا مع العادات و التقاليد و الطقوس الممارسة في حضرة شيوخ الوصفان. الشيخ الهادي من جهته فضل التحدث عن شيوخ «الوصفان»بعائلته، و على رأسهم بركة بن إبراهيم الذي لا زال الأحفاد يحتفظون له بصورة فوتوغرافية بالأبيض و الأسود يزيد عمرها عن القرن، اختاروا تزيين باحة البيت بها تخليدا لذاكرته و روحه المثابرة في المحافظة على التراث، الذي يمثل طريقة سيدي بلال الممتدة إلى السودان، كما ذكر أسماء الذين توارثوا الطريقة عنه منهم أحمد، سالم و موسى. و ذكر أهل حشاني بأن لديهم عددا مهما من المخطوطات الجلدية ، قالت عائشة:»إنها من جلد الفيلالي» إشارة إلى عراقتها و تاريخ بعضها الذي يزيد عن القرنين، تركها الآباء بعد أن عثروا عليها بين أغراض الجد الأول ببيته الذي يعد من أولى البيوت المشّيدة بحي السويقة. و عن محتوى هذه المخطوطات قال الهادي أنها لا تحوي مدونات عن الطريقة و لا الموسيقى و الألحان ،و إنما مخطوطات كانوا يستعملونها كترخيص للعبور من منطقة إلى أخرى، و أردف بأن كل ما حفظوه عن الوالدة حفظته بدورها عن الأولين، الشيء الذي دفع الأحفاد إلى دخول المعهد الموسيقي لتعلم الموسيقى على أصولها بأمل المساهمة في الحفاظ على هذا الموروث بطريقة علمية، مثلما قال الإبن سالم و هو يخبرنا عما يميّز وصفان قسنطينة عن غيرهم بباقي المناطق و حتى دول الجوار، موضحا بأن ديوان دار بحري يتميّز بخفة الريتم مقارنة بديوان بشار و المغرب و تونس. كما تحدث عن نقاط التشابه بين موسيقاهم و موسيقى القناوة، مؤكدا بأنهم لا زالوا يحرصون على تقديم الديوان التقليدي موسيقيا و طقسيا. الفن لإنقاذ الأمكنة العتيقة و كانت الجدران المحيطة بوسط الدار مزّينة بمختلف الآلات الموسيقية التقليدية، كالدربوكة و القنبري، بالإضافة أصص النباتات التزيينية التي كانت تضفي على المكان سحرا خاصا مع صوت ماء الحنفية التي كانت تصب في حوض تغيّر شكله بعد عملية الترميم التي استفاد منها البيت في إطار مشروع الحفاظ على المدينة العتيقة. أما الطبول و القراقب، و الكركطو الذي يشبه آلة معروفة محليا باسم الناغرات و التي يتم الضرب عليها باستعمال أعواد خشبية، فكانت تزّين جدران الغرف و المجالس بشكل خاص. و لعل ما أثار انتباهنا أكثر هو العدد الكبير للجرار التي تكاد تظهر في كل ركن من البيت و التي قالت عنها عائشة أنها من الكنوز المتوارثة من الأم، مؤكدة بأنهن لا زلن يستعملن بعضها كما في الماضي في حفظ المخللات و الماء و بعضها الآخر للزينة. و بخصوص الطقوس الممارسة في حفلاتهم سرد الشيخ الهادي كيف أن بعض العائلات القسنطينية لا زالت وفية للعادات و لا زال الكثيرون يلجأون إليهم لإحياء «الزردات» و «النشرات» كل حسب نيته، و منهم من يزور و يحيي هذه الطقوس في بيت بحري تبركا به و منهم من يدعون فرقة دار بحري إلى بيوتهم الخاصة أو بأضرحة بعض الأولياء الصالحين لإتمام و الوفاء بالوعد الذي ضربوه على أنفسهم، غير أن الأمور تغيّرت مع الوقت و باتت فرقة دار بحري فرقة موسيقية تقودها الاحترافية إلى المشاركة في المهرجانات الثقافية و الفنية الوطنية و الدولية، حيث تحصلت الفرقة المشكلة من أكثر من 13عضوا من الجنسين نساء و رجال، على المرتبة الأولى في مهرجان موسيقى الديوان الدولي ببشار. كما سبق لهم العمل مع أسماء فنية محلية و دولية معروفة منها باكو سيري، و العازف المتميّز الفرانكو مالي شيخ تيديان سيك، فضلا عن فرق الإخوان و العيساوة و المالوف لتناسق موسيقى الوصفان مع مختلف الطبوع الأصيلة. و مثلما كان بيت دار بحري محج الآملين في الشفاء و الزواج و التخلّص من سوء البخت، كان أيضا محج الكثير من الباحثين في مجال الأنثروبولوجيا ممن تقفوا أثر موسيقى الديوان بين الصحراء و مدن الشمال و من بينهم الإعلامي المعروف بيير غيشني الذي رغب في تجسيد فيلم وثائقي عن وصفان قسنطينة حسب الشيخ الهادي، لكنه واجه عراقيل حالت دون تجسيد مشروعه، فاختار المغرب لإتمام عمله الوثائقي. كما ذكر الهادي أسماء بعض الباحثين الجزائريين الذي لا زال يذكر أسماءهم دون ألقابهم، من جامعة قسنطينة و الباحث بن يعقوب من جامعة بشار، و باحثة أخرى من جامعة العاصمة. ظهور تصدعات ببيت بحري بعد نصف عام من الترميم البيت الذي شهد في شهر جوان حفل إعادة فتحه بعد عملية ترميم دامت حوالي سنتين ظهرت به تصدعات جديدة كما تحلل الطلاء بالكثير من جدرانه بسبب مشاكل الكتامة. و قال الشيخ الهادي بأنهم لم يفرحوا كثيرا بالحلة الجديدة لمسكنهم الضارب في عمق التاريخ حتى عاودت نفس المشاكل التي طالما عانوا منها سابقا، الظهور، مبدين خوفهم من استمرار تدهور المكان الذي سيعرف قريبا توافد ضيوف قسنطينة عاصمة الثقافة العربية 2015 عليه حتما، مثلما قال الشيخ الهادي.