الكثير من الشعراء يخجلون من نظم الشعر الملحون ويعتبرونه أدب الدرجة الثانية القصيدة الشعبية الجزائرية لم تواكب العصر ولم تتطور، والشعراء يتناولونها بكلاسيكية توفيق ومان شاعر جزائري يكتب في اللون الشعبي وقد صدر له مؤخرا عن دار فيسيرا للنشر ديوانه الجديد بعنوان "حدّق مدّق"، وهو الثالث له بعد "رعدة الغزال"، و"خبر كان"،. كما صدر له في العام 2010 قرص مضغوط "سي دي" بعنوان "على صهد النار" ضم 19 قصيدة متناغمة بالموسيقى وقد تم انجاز هذا العمل بالتعاون مع شقيقه المطرب فؤاد ومان. توفيق ومان هو رئيس رابطة الأدب الشعبي التي تنشط لصالح الشعر الشعبي دعما وخدمة لهذا الفن وللشعراء في هذا اللون، في هذا الحوار يتحدث ومان عن تجربته الشعرية وعن الشعر الشعبي وبعض هواجسه وأفاقه ومشغولاته. نقترب من كل هذا عبر هذه المساحة الحوارية. حاورته/ نوّارة لحرش حدّق مدّق، مجموعتك الجديدة الصادرة عن فيسيرا في طبعتها الثانية، وهي مجموعة نهلت قليلا من التراكمات الشفاهية للتجارب المتعاقبة، هل حان الوقت لاستثمار تجارب المشافهة واخراجها إلى النور أكثر عبر الدواوين المطبوعة التي تحفظها أكثر وتساهم في مساحات الإنتشار؟ توفيق ومان: للأسف ضاع من موروثنا الشعبي الكثير وهذا لعدم الإهتمام به منذ القديم، وبما أنه أدب شفهي لم يحظ بالإهتمام والحفاظ عليه من الإندثار والنسيان، أقول أننا متأخرون كثيرا في تدوينه وترويجه، لكن هذا لا يعني أننا لا يمكن أن نحاول جمع ما يمكن جمعه وتدوينه وخير دليل على ذلك هو ما قامت به الرابطة الوطنية للأدب الشعبي من جمع مجموعة مهمة وتدوينها للحفاظ على الإرث الثقافي الشعبي الجزائري ومازالت في عملية الجمع مع أنها عملية صعبة جدا ومكلفة، والسعي لهذه العملية في حد ذاتها شيء نبيل وستذكره الأجيال المتعاقبة على أننا حاولنا بكل ما في وسعنا أن نحفظه لهم. وبما أن الجزائر كبيرة بموروثها ومساحتها وتعدد ثقافتها الشعبية لابد على كل من له علاقة من مواطنين ومجتمع مدني والدوائر الحكومية التي لها علاقة بهذه العملية أن تكثف من عملية الجمع والتدوين والحفاظ عليه من الإندثار لكي لا تحاسبنا الأجيال القادمة على أننا انسلخنا وضيعنا هويتنا وأصلنا وتاريخنا. لماذا هذا الانحياز الكبير إلى القصيدة الشعبية، هل لبيئتك الصحراوية تأثيرها في دفعك إلى الشعر الشعبي، أم خيارك منذ البداية كان منحازا لها عن وعي وليس عن تأثيرات بيئية؟ توفيق ومان: في الحقيقة أن كل من البيئة التي عشت فيها والوعي الذي كان بداخلي معا اختارا الشعر الشعبي. أولى محاولاتي كانت بالفصحى وقصيدة النثر لكن مع مرور الوقت اكتشفت نفسي ووجدتها سائرة في طريق الشعبي الشعر الملحون ووجدت نفسي أنسج القوافي وأرميها في أحضان المتلقي بالأوزان والأوتار، دون تردد ولا خجل.تلك الجلسات والقعدات العائلية الأدبية المتكونة من أبي وأعمامي وإخوتي، الوسط كله جعلني مهووسا بنسج وحفظ روائع بن قيطون وبن كريو وبن زغادة وعبد الرحمان قاسم وبلقاسم حرزالله وغيرهم وغصت في شوارع قمر الليل وحيزية وتحول يا كاف كردادة وارحل، وجاء الوعي بعد ذلك ليكمل ما بدأته الظروف البيئية والعائلية عموما ووجدت تلك الحلاوة في هذا الطابع الذي كان الكثير من المثقفين والشعراء الذين يخجلون من نظم الشعر الملحون ويعتبرونه أدب الدرجة الثانية ولهم عقدة في قراءته ونظمه وأعتبرهم معقدين ولهم مرض ضعف الشخصية. في أكثر من قصيدة نراك تستثمر في الثورة والثوار، هل هو نوع من التمجيد أم هو نوع من الإشتغال على هذه الموضوعة لأنها تستثيرك مثلا؟ توفيق ومان: نعم لي العديد من القصائد التي أمجد فيها الثورة والثوار ونحن نعلم أن للشعر التأثير والخلود فعند نظم قصيدة عن تاريخنا أو الثورة المجيدة هي بالتأكيد ستبقى للأجيال القادمة فهي نوع من تأريخ لحقبة عزيزة علينا، وعند الرجوع إلى الماضي مثلا هناك عدد كبير من القصائد التي أرخت لتاريخنا حقبا ومعاركا أصبح يستشهد بها الطلبة والمؤرخين وأهل الإختصاص إلى يومنا هذا مثل قصيدة مزغران المشهورة لسيدي لخضر بن خلوف.وأرجع وأقول بفضل المجاهدين والشهداء الأبرار نحن نكتب بكل حرية وطلاقة ومن واجبنا أن نقول في حقهم كلمات إعتراف بما تركوه لنا من شيء عزيز وغالي جدا الحرية. أيضا معروف عنك طرقك للقضايا العربية في أشعارك، هل الشعر الشعبي مازال قادرا على التأثير في الشعوب وقضاياها؟ توفيق ومان: في رأيي الخاص أن الشعر الشعبي خصوصا سواء في الجزائر أو في العالم العربي له تأثير كبير في تحريك الوجدان وزعزعة المشاعر أكثر من أي نوع إبداعي آخر وهذا ما لمسته وشاهدته في معظم الدول العربية التي زرتها وأقمت بها أمسيات شعرية.هناك أسماء عربية في هذا الحقل لها تأثير كبير ويستطيعون أن يزعزعوا عروشا بأكملها ومن بين الأسماء مثلا: أحمد فؤاد نجم من مصر، أحمد لمسيح من المغرب، محمد علي الدنقلي من ليبيا، محمد فنطال الحجايا من الأردن وغيرهم كثيرون، هذا من ناحية التأثير أما من ناحية تناولي للقضايا العربية وبما أنني إنسان ومواطن عربي أتأثر بما يتأثر به الإنسان العربي من المحيط إلى الخليج والشيء الذي يزيد من مرارتي هو الخذلان العربي وانبطاح الحكام العرب أمام الغرب والعدو الصهيوني وطغيان الفكر الإنهزامي لديهم وكذلك قهر وظلم الحكام لشعوبهم هذا الحكم جاء من جراء معايشتي للعديد من الأشياء معهم سواء في مصر أو لبنان وبعض الدول الأخرى. أذكر في سنة 2007 وبعد حرب تموز قمت بأمسية شعرية في الضاحية الجنوبية وكان قد حضرها حوالي 3000 شخص وكان لقصائدي الثورية والحماسية تأثير كبير ومفعول غير عادي في نفوس المقاومين خصوصا، ورأيت كيف هو تأثير القصائد التي تترجم الإنهزامية العربية والخذلان وتمجيد المقاومة. المجموعة ضمت قصيدة جميلة مشتركة بينك وبين الشاعرة مي غول، وهي عبارة عن حالات حب وعشق بين امرأة ورجل في سياقات عاطفية لطيفة، كيف عشت التجربة ولماذا لم تتكرر مع أسماء أخرى؟ توفيق ومان: فعلا هي قصيدة جميلة وناجحة تحمل عنوان "الحبيب ما يرجعش عدو" والتي نظمتها مع الشاعرة مي غول في ملتقى "الشعر والريشة" بتيبازة صيف 2006 وقد كانت تجربة رائدة مع مي غول وقمنا بقراءتها في التلفزة الجزائرية في حصة لقاء وحظيت القصيدة بنجاح كبير ومنها حفزت مجموعة من الشعراء أن يقتدوا بهذا العمل و ولدت قصائد عديدة مثل القصيدة التي نظمها الشاعران قاسم شيخاوي وأحمد بوزيان، كذلك الشاعرة مولخير وزيري أحمد وغيرهم. وقمت بنظم قصيدة أخرى مع الشاعر قاسم شيخاوي والتي تحمل عنوان "شمس أعشية" والتي أعتبرها من أجمل القصائد التي نظمتها في مشواري. كيف ترى أفق القصيدة الشعبية الآن، وكيف تقرأ التجارب الموجودة على ساحتها؟ توفيق ومان: من المؤسف أن القصيدة الشعبية الجزائرية مازالت لم تواكب العصر ولم تتطور، فمازال شعراء الملحون في الجزائر يتناولون القصيدة الشعبية الكلاسيكية ولم يحذوا حذو شعراء العالم العربي وهذا سبب عدم تألقهم عربيا وبقوا منغلقين على أنفسهم يتخبطون في المحلية الضيقة. ولهذا السبب أخذت الرابطة الوطنية للأدب الشعبي على عاتقها مسؤولية تطوير القصيدة عن طريق ملتقياتها واستضافت أسماء عربية كبيرة في الشعر الشعبي الحداثي للإحتكاك بهم والإستفادة من تجاربهم. تحاول في تجربتك الشعرية الخروج بالقصيدة الشعبية من محيط المحلية إلى محيط أرحب وأوسع، وهذا بالإشتغال أكثر على مساحات اللغة والمفردات وبعض السياقات، فماذا تقول؟ توفيق ومان: فعلا ونظرا لإحتكاكي بمجموعة من الشعراء العرب وتنقلاتي ومشاركاتي في بلدان متعددة خرجت بفائدة كبيرة وهي نظم القصيدة الحداثية والتي تعتمد على الرمزية والصور الكثيرة والحمد لله أن هذا النوع الذي أشتغل عليه الآن لقيّ استجابة وإعجاب الكثير من المبدعين سواء في داخل الوطن أو خارجه. هنا اشتغلت على الرمزية واللغة الثالثة المفهومة مفرداتها في كامل الوطن العربي، والأكثر من هذا هناك قصائد توغلت في قلوب مستمعيها وأصبحت تتردد على ألسنة الكثير سواء في الجزائر أو خارجها مثل قصيدة: "وين العرب وين"، "السماح"، "ما عدتش انكافي"، "مالك يا جبل مالك". قمت بتسجيل بعض قصائدك على قرص مضغوط حمل عنوان "صهد النار" هل ترى هذا ضروريا ويخدم الشعر الشعبي أكثر؟ توفيق ومان: هذه التجربة كانت ناجحة جدا، حيث أن هذا الوقت أصبح سريعا ومتسارعا وضيق في نفس الوقت وكما هو معروف أن الشعر الشعبي يستحسن سماعه لحلاوة موسيقاه وأوزانه، فوجدت أن المهتم والمستمع يجد لذته في سماع القصائد خاصة مع صوت وأداء جيد ولهذا لجأت لهذه التجربة بعد نجاح تجارب سبقتني في هذا العمل المعروف عند العام والخاص، إن قراءة الملحون صعبة خاصة في تغيير اللهجات المحلية الجزائرية، هذا دافع آخر من دوافع استحسان المسموع، هناك كذلك عنصر الرواج وسرعة الإنتشار والنسخ وهذا مما يؤدي بالشاعر أن يكون بصوته وأداءه غازيا كل الأجواء. كما أنني سأقوم بتسجيل قرص جديد أخصصه للقصائد الحداثية وهذا مباشرة بعد الملتقى العربي الثالث الذي ستنظمه الرابطة نهاية شهر فيفري القادم إن شاء الرحمان. قمت بجمع قصائد المجذوب وأصدرتها في كتاب، هل هذا كنوع من التكريم الرمزي لهذا الشاعر الذائع الصيت في الخارطة الشعرية الشعبية المغاربية، أو كنوع من الحفاظ على قصائد ربما بدأ صيتها يخف ويخفت بسبب الزمن وتغيراته؟ توفيق ومان: عبد الرحمان المجذوب لا يحتاج إلى توفيق ومان أو أي أحد آخر يكرمه بل كرمته الأجيال منذ القرن السادس عشر، فالرباعيات المشهورة تناقلت من جيل إلى آخر وغزت كل الأقطار العربية وإلى حد الآن مازالت كل الكميات التي تنشر عن رباعياته تنفذ في وقت قصير. وعندما احتجت للرباعيات أنا شخصيا لم أجدها في السوق فقررت إعادة طبعها وترتيبها وتنظيمها ولعلمكم أن هذه الطبعة هي الرابعة على التوالي وهي في طريق النفاذ. لكن إهتمامي أكبر في الحفاظ على نسب الرباعيات لعبد الرحمان المجذوب، فهناك بعض الدول العربية وخصوصا الدول الخليجية أخذوا الرباعيات وحولوها إلى لهجتهم ونسبوها لتراثهم الشفهي وهذه سرقة موصوفة، ولهذا الغرض قمت بترتيبها وإعادة نشرها كما قمت بتسجيلها باسمه في الديوان الوطني لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة في الجزائر وفي ديوان حقوق المؤلف في فرنسا وهذا لحمايتها من السرقات المتعددة. تم تكريمك العام الماضي في الأردن بدرع الريادة العربية، ما رأيك خاصة أن التكريمات والتتويجات لصنف الشعر الشعبي قليلة جدا وتكاد تكون منعدمة؟ توفيق ومان: لقد كرمت بدرع الريادة العربية في عمان العاصمة الأردنية من طرف الجامعة العربية على ما أقدمه من جهد في حماية وترقية الأدب الشعبي سواء في الجزائر أو الوطن العربي، وكان قبلها تكريمي في العديد من المرات منها في سنة 2006 تحصلت على ميدالية نجمة للثقافة الشعبية من الجمهورية التونسية، وفي 2007 وسام الإستحقاق الثقافي من طرف المكتبة الوطنية الجزائرية، وفي 2007 دائما بدرع حلقة الحوار الثقافي بلبنان وتم تكريمي أيضا من طرف الرئيس اللبناني السابق إميل لحود، وفي 2008 كرمت بميدالية الدلتا من جامعة المنصورة بجمهورية مصر العربية. وهذا يعني أن التكريم موجود في الوطن العربي وهو تقليد حسن للإعتراف بالمجهود الذي يقدمه المبدع الحقيقي. أما في الجزائر لا توجد هذه التكريمات الخاصة بالأدب الشعبي لكن بعد ظهور وتأسيس الرابطة الوطنية للأدب الشعبي أصبحت ومن خلال ملتقياتها تقوم بتكريم الشعراء والمبدعين والباحثين في هذا الإختصاص. أيضا تم تنصيبك عضو اللجنة الدائمة العليا بمديرية الأدب والفنون لجامعة الدول العربية بالدوحة في نوفمبر الماضي، ماذا يعني لك هذا المنصب وأي خدمة يمكن أن تقدمها للقصيدة الشعبية وكتابها من خلال هذا المنصب. توفيق ومان: الحمد لله أنه بعد الجهد والمثابرة تم تنصيبي بعد الإنتخابات التي جرت في عمان العام الماضي وفزت ب15 صوتا بتصويت 15 دولة لصالحي ومعارضة دولتين مصر وفلسطين ودولة العراق إمتنعت عن التصويت. وهذا الفوز كان نتيجة جهد ومصداقية المبدع الجزائري أمام الآخر. وتم تنصيبي رسميا عضو اللجنة الدائمة العليا لمهرجان وملتقى الرواد العرب بالجامعة العربية بالدوحة في نوفمبر 2010 وهذا فخر لنا وللجزائريين قاطبة. وبهذا المنصب أصبحت أرشح المبدعين الجزائريين وكذلك دول المغرب العربي كلها في مجالات الإبداع كلها وهذا مما يتيح لنا كجزائريين ومبدعي المغرب العربي التألق والظهور في أغلب النشاطات العربية الخاصة بجامعة الدول العربية. وأول عمل قمت به هو ترشيح المبدعين الجزائريين والمغاربيين لهذا العام في الدوحة والدفاع عنهم والحمد لله أننا تحصلنا على ثلاث دروع هذه السنة واحد للجزائر ممثلا في المبدع عبد المجيد لغريب وواحد للمملكة المغربية ممثلا في الشاعر أحمد لمسيح والثالث لليبي الشاعر محمد علي الدنقلي وهذا بعد الصراعات التي قامت هناك حول الحصول على التكريم والدروع. ماذا بعد حدّق مدّق، هل من ديوان آخر، وهل من كلمة تود قولها في الأخير؟ توفيق ومان: إنني الآن بصدد إنجاز ديوان شعر في النوع الحداثي مسموع ومقروء. في الأخير أرجو من الشعراء الشعبيين الجزائريين أن ينطلقوا في كتابة القصيدة الحداثية لمواكبة العصر وأن يخرجوا من نمط المحلية الضيقة وأن يشهد نظم هذا النوع انتفاضة حقيقية لتسجيل أسماء جزائرية على منصات الآخر وتعريفه بالثروة الإبداعية الجزائرية بدون عقدة نقص أو دونية. كما أشكر جريدتكم المحترمة على هذا الفضاء الذي خصصتموه لي كي أعبر عن مكنوناتيّ.