لطاهر وطار لم ينتظر " عودة الشهداء هذا الأسبوع " تحل اليوم الأربعاء ، الذكرى الخامسة لرحيل الكاتب والروائي الجزائري الطاهر وطار، الذي غادر إلى مقامه الأخير في ال12 من شهر أوت 2010 ، عن 74 سنة ، بعد صراع طويل مع المرض . صاحب الشخصية المثيرة للجدل في كتاباته ومواقفه ، من مواليد 15 أوت 1936 . بدأ مشواره الأدبي سنة 1955 بنشره لأعمال قصصية في الصحافة التونسية التي إحتضنت أول أعماله عندما كان طالبا بجامع الزيتونة . بعدها توالت إصداراته في القصة والمسرح والرواية . كما توالت تكريماته وجوائزه، منها : جائزة الشارقة لخدمة الثقافة العربية 2005 وجائزة سلطان العويس للرواية 2009. عام 1989 أسس جمعية الجاحظية ، التي من خلالها فتح أفاق النشر لجيل أدبي بأكمله . كما أسس عدة جوائز أدبية ضمن المشاريع الثقافية للجمعية، من بينها جائزة مفدي زكريا للشعر، التي كانت في البداية وطنية لتصبح فيما بعد جائزة مغاربية ثم عربية ، وجائزة محمد سعيداني للرواية. وطار الذي كثيرا ما شكل حساسيات فنية وأدبية وسياسية مختلفة وجالبة للجدل دائما ، سواء في مشهد الأدب أو في مشهد السياسة ، عاش حياة زاخرة بالنجاحات والخلافات والصراعات هنا وهناك . وكان دائما يبدي مواقفه دون أن يلتفت لحجم الخسارات الممكن حدوثها أو لنوع العداوات، وهذا ما جعله على إختلاف وخلاف دائمين مع أكثر الكُتاب والأدباء الجزائريين . حتى بعد موته ، ظلت بعض الخلافات تراوح مكانها حتى وهو ( غائب ونائم ) في مقامه السماوي الأخير. وطار، وفي ذكرى غيابه الخامسة ، يحضر في " هذا الملف " من خلال شهادات بعض الكُتاب والأدباء الذين إستحضروه ، وإستحضروا كتاباته ومواقفه ، وبعض ذكرياتهم معه ومع شموعه ودهاليزه وبغله وشهدائه ... سعيد بوطاجين/ كاتب وناقد ومترجم علينا تعميق الدراسة لفهم .. الطاهر وطار أزعم أني عرفت هذا الكاتب عن قرب . ولم أعرفه تماما كأمين عام لجمعية الجاحظية ورئيس تحرير مجلة " القصة ". ثم مدير تحرير مجلة " التبيين ". لم أعرفه لأنه عميق وكتوم، ونادرا جدا ما كان يحدثك عن معارفه وأصدقائه الحقيقيين الذين يثق بهم. ما يمكن أن يكون أكثر جلاء وصفاء في حياته هو ما ارتبط بمواقفه الوطنية، بصرف النظر عن أدبه الراقي وشخصيته الغامضة وطبيعة علاقاته المتذبذبة وخلافاته التي لا حصر لها. لم يكن الطاهر وطار معجبا بفئة كبيرة من الجامعيين و" المثقفين" والكتّاب والسياسيين والمسؤولين . ظل حذرا من هؤلاء ، إمّا لمحدوديتهم أو لمواقفهم الإنهزامية وإنسحابهم من الساحة أو لإنشغالهم بالمناصب ، مع الإكتفاء بالبحث عن الخبز كهدف جوهري في حياتهم . كان لذلك بالغ الأثر في مواقفه منهم ، سواء في الصحف أو في اللقاءات الكثيرة أو في جلساته وفي "نميمته المتحضرة". ظل الطاهر وطار طوال حياته مدافعا شرسا عن بعض المبادئ التي كان يرى أنها أساسية لتحصين الأمة وترقيتها، ومنها ما تعلق بالعربية والأمازيغية والعدالة والثقافة والحرية والعقل، لذلك خلق لنفسه جيشا من المناوئين، وقلة قليلة من المساندين الحقيقيين الذين وقفوا معه في الفترات الحرجة، خاصة بعد محاصرته من قِبل مجموعة كبيرة من المتفرنسين والمفرنسين والفرنكوفيليين الذين سيطروا على مراكز القرار ونظروا إليه كعدوّ وجب تهميشه بكل الوسائل المتاحة، إعلاميا وثقافيا وسياسيا. ذاك ما كان يردده باستمرار، خاصة في عشرية الفتنة الوطنية، أي بعد إصدار رواياته الأخيرة التي جاءت مختلفة عن مساره السابق. كان عليه إذن، وفي عدة أوقات وسياقات، مقاومة العزلة والنسيان والنظرة الاستعلائية لبعض المفرنسين تجاه كل ما يُكتب بالعربية، بما في ذلك القرآن، مع كل الأخطاء الإستراتيجية التي كانت تحصل من حين إلى حين لاعتبارات كثيرة، ومنها علاقاته الباهتة مع فئات عريضة من الجامعيين وتعامله الصريح والمباشر مع هذا وذاك، دون مجاملة، ودون اتخاذ أي احتياط ممكن، ما أثر سلبا على جزء من مساره ككاتب، ثم كمسؤول على جمعية ثقافية مهمَة. لكن ذلك لم يمنعه أبدا من إثبات حضوره ككاتب له ما يقوله للقاصي والداني، للراعي والرعية، خاصة فيما تعلق بالمرتكزات القاعدية التي يتكئ عليها البلد برمته، هو الأمازيغي القادم من الشرق، المدافع الكبير عن اللغة العربية، وأول من أسس إذاعة القرآن وعدة منابر وأركان ثقافية متنوعة ونشّط الساحة الوطنية بمجموعة كبيرة من المحاضرات والمنشورات، رغم أن تفكيره كان مختلفا. لم يحدث أبدا أن تنازل عن مواقفه لأنه كان يعي جيدا ما يحدث، كما كان نبيهًا وغاية في الذكاء وفي تحليل الأوضاع والأشخاص والحالات، ما أهّله، مع الوقت والتجربة، إلى قراءة الواقع قراءة متقدمة، ومعرفة الخلفيات التي كانت وراء الخطاب والفعل. لقد كان الطاهر وطار ظاهرة حقيقية. لم يكن كاتبا فحسب، بل كان موقفا من كل ما يجري، ما يشبه القطب الذي يطل على الظاهر والباطن. أتصوَر أن القصة والمسرحية والرواية والنشاطات الثقافية المكثفة كانت تمثل كفة من الميزان، أما الكفة الثانية الغالبة فتكمن في حرصه الشديد على عدم التنازل عن قضايا مصيرية في حياة الأمة، لهذه الأسباب مجتمعة نظر إليه بعضهم بحيطة وحذر شديدين، وبكراهية شديدة في أغلب الأحيان، بل إن هناك من قال إنه يتعامل مع الإسلاميين والجماعات المسلحة، وهناك من قال إنه جزء من السلطة، أو امتداد لها، مع أنه لم يكن كذلك البتة. قد نختلف كثيرا أو قليلا مع المرحوم الطاهر وطار، ككاتب كبير وكسلوك وموقف، لكن الشيء الذي لا يمكن أن نختلف فيه هو حضوره الكاسح على كافة الأصعدة من حيث إنه لم يكن يعرف الخوف والتردد والانبطاح ومسح الأحذية، ولم يطأطئ رأسه أمام أي كان، بشهادة الجميع، أصدقاء وخصوما. لقد ظل واقفا لأنه لم يكن بحاجة إلى منصب أو مال، بدليل أنه كان يردد أمام الملء: "إن أكبر حماقة ارتكبتها في حياتي هي أني قبلت أن أكون مديرا للإذاعة الوطنية". من لا يحتاج إلى شيء لا يخاف على شيء من شيء، وهنا موطن قوَته كصوت مؤثر. لم يكن ينتظر شيئا من أي كان، وكيفما كان، لذا قال كلمته بصوت عال ورحل كبيرا ومطمئنا من هذه الناحية، كما لا يرحل كثيرون منّا، وقد يرحلون وقد تورطوا في وسخ الدنيا وأفسدتهم الأطماع التي لا تنتهي، هناك من يضحي بالخالد في سبيل ما هو ظرفي، وهناك من يضحي بكرامته وشخصيته وبلده في سبيل سفاسف عابرة، أمَا الطاهر وطار فضحى بكل ذلك في سبيل العقل والبلد، وهنا يكمن الاختلاف. رغم كل السلبيات، ورغم كل مآخذنا الممكنة، ورغم خلافاتنا معه، لكنه عاش رجلا ومات كذلك، ومن الصعب جدا أن نعثر في هذا الوقت على كتّاب ومثقفين وجامعيين وإعلاميين يشبهونه، رغم أنهم موجودون بطريقة أو بأخرى. لكن "عمي الطاهر" سيظل نسخة فريدة من نوعها، وقد لا تتكرر. وهذا اعتراف وعرفان. يجب أن ندرس جيدا مواقف هذا الكاتب والسياسي والروائي لنعرف من كان، وكيف كان، ولماذا إنفض الناس من حوله . ولماذا نبذته فئة كبيرة جدا من الفرنكفوليين، ومن المتفرنسين، مع أنه كان يحترم الفرنسية كلغة أدب وثقافة وحضارة ، وليست كلغة مطعمة بالسياسة، أو كلغة نختبئ وراءها لبلوغ مآرب أخرى بطمس التاريخ والذات. وتلك قضية تحتاج إلى وقفة خاصة لشرح بعض الغموض الذي اكتنف مواقفه. هكذا عرفت الطاهر وطار، مع أني كنت أختلف معه في عدة أمور طوال المدة التي قضيتها معه في جمعية الجاحظية، وفي بعض الجلسات والأسفار. لكن الحق يعلى ولا يعلى عليه، ولا يمكننا أن نحجب الحق بمواقفنا الذاتية من شخص نختلف معه لأسباب ما، لأخطاء أو فجوات. ليس من باب الحكمة طمس مواقف كاتب ظل واقفا كالهرم في وقت ركع آخرون وسجدوا بحثا عن الأموال وما تيسر من المكاسب الصغيرة. عامر مخلوف/ كاتب وناقد "الطاهر وطار" أديب ومرحلة قضى "الطاهر وطار" أجمل شطر من حياته ، فترة الشباب، في ظروف الثورة التحريرية . عاش بؤسها ومعاناة شعبه عن قرب . لكنه لم يبقَ في حدود التعاطف السطحي، بل إنساق منذ شبابه نحو التغذي من ينابيع العلم والمعرفة من قريته " سدراتة " إلى معهد إبن باديس إلى جامع الزيتونة العريق. لكن اللافت للنظر أنه لم ينغلقْ في دائرة الثقافة التقليدية ، وإنما راح يطعِّم الحرف العربي بما استجد في الفكر الحديث والمعاصر. وبحكم أنه عاش أنضج مرحلة من عمره خلال التقاطب العالمي بين المعسكريْن الرأسمالي والاشتراكي، فقد انحاز للفكر الاشتراكي لأنه منحاز أصلا ومنذ نشأته إلى الفقراء والمعدمين، ما جعل حُبَّه للغة العربية ودفاعه عنها يأخذ منحى عمليا يُنزل الفصحى من عليائها النخبوية ويطهِّر العامية من شوائبها، فأهَّله ذلك لأن يكسب مساحة واسعة من المقروئية لم يحصِّلها إلا قليلون جدا من "المعربين". لقد عرفتُ "الطاهر وطار" كاتباً قبل أن أعرفه عن قرب. وأعتقد أن كل اليساريين "المُعَربين" تأثروا بروايته "اللاز" في سبعينيات القرن الماضي. ففي الكتابة بالعربية كان له فضل السبق في استنطاق المُغيَّب من تاريخنا الوطني. ولم يكن من السهل اقتحام هذا المجال لو لم يكن "وطار" يعرف قادة الثورة وارتبط بجبهة التحرير مناضلا فمراقبا في حزبها لاحقاً. فما يلفت الإنتباه أيضاً في كتابات "وطار" ليس إستحضار الثورة بذاتها، وإنما هي زاوية النظر إلى الثورة والتي لم تكن مألوفة لا في الخطاب الرسمي ولا في الذهنيات السائدة. فقد أدرك بأن الثورة بصفتها موضوعا قد إستهلكها الخطاب الرسمي ليجعل من الشرعية التاريخية ملاذا يأوي إليه النظام للمحافظة على البقاء والإستمرارية من جهة ، وليستند إليها بوصفها متكأ شعاريا يغطِّي على عقمه وعجزه عن إنتاج أي مشروع مجتمعي من جهة أخرى. ولعل فضله الأكبر في الكتابة الأدبية أنْ تشبَّع بالثقافة العربية الإسلامية فاستوْعب دينها وأتقن نحوها صرفها وبلاغتها، ثم أبى إلا أنْ يستثمر معرفته التراثية في الكتابة بلغة جديدة تُضيِّق الهوَّة بين العامية و"الفصحى". وما كان له ليحقِّق ذلك لولا أنه خرج من عباءة الماضي من غير أن يطلِّق الماضي، ليعانق أحدث الأفكار السياسية والفلسفية، ما أعطى للغته العربية مضامين لم تكن معهودة بالنسبة للقارئ الجزائري "المُعرَّب". لقد ظل وطار مشدوداً إلى التحولات التي تعرفها البلاد، يترقَّب الحلم الذي ضحَّى من أجله الشهداء، فتصوَّر "الشهداء يعودون هذا الأسبوع" ليحاكموا أولئك الذين تنكَّروا للثورة ولدماء الشهداء. وكان –بفعل إيمانه بضرورة التزام الأديب- كما أملتْه ظروف التقاطب بين المعسكريْن يراوح في كتاباته بين الحرص على فنِّية الأدب فيكتب "الحوَّات والقصر" ثم لا يلبث أن يميل إلى التقريرية كما في "العشق والموْت في الزمن الحراشي" وفي روايات أخرى. لكنه -في الوقت نفسه- لا شك كان يعاني من انشطار داخلي بين انتمائه لكتابة تألَّقت في السبعينيات بيساريتها، وبين انتمائه لحزب لا يستجيب لقناعاته، ما جعله يعبر عن هذا الانشطار في صورة "براهما" الذي يقول: "أنا معهم ولست منهم، وأنا منكم ولستُ معكم". وبالرغم من تقلُّب الموقف السياسي لديْه منذ الثمانينيات، فقد ظل "وطار" وفيّاً للأدب. كتب القصة القصيرة الممتعة والمسرحية والرواية. كان يبدع النكتة ببديهة نادرة، كما يتقن فقه النميمة، ولولا النرجسية الزائدة المتأصِّلة في بعض الأدباء، لكان ذا مقروئية أوْسع ولما هاجمه أولئك بقدر ما استفادوا من أدبه، ورثوا نرجسيته إلى حدِّ إقصاء الآخر. كان "الطاهر وطار" من القلائل الذين يمتلكون ناصية اللغة فهو يروِّضها كيف يشاء، يستطيع أن ينتقل من الكتابة التقريرية المباشرة إلى الأجواء الصوفية المعقدة، لأنه الكاتب الذي جمع بين الثقافة التقليدية والقراءة النقدية للتراث. ولم يغفل يوما عن مواكبة التحولات الجارية في الوطن، حتى إن أعماله ستبقى سجلا يؤرخ للحياة السياسية والاجتماعية وتطوُّر الكتابة الروائية في بلادنا على مدى نصف قرن. وستبقى تشكِّل مجالا للبحوث الأدبية والنقدية على مر الأجيال. فإذا كان بعضٌ من أدبائنا يسمحون لأنفسهم بالحكم على أدب "وطار" فَلْيراعوا المرحلة التاريخية التي عاشها، وإذا تدنَّوا إلى ملاحقة سلوكه فلينظروا إليه كإنسان، وأن يتواضعوا قليلا ليجعلوا من عيوبه –إنْ وجدتْ- متَّكأً لمراجعة عيوبهم. قلولي بن ساعد/ قاص وناقد هو أول روائي أدان تصفية المثقفين من الصعب، بل من غير الممكن، الحديث عن المرحوم الطاهر وطار أو عمي الطاهر مثلما كنا نلقبه حين تقودنا بعض الصدف إلى "بيته الأليف" بتعبير باشلار " الجاحظية " أو نصادفه في مناسبة من المناسبات الثقافية، في بضع كلمات قد لا تفي الرجل حقه ولا تمكننا من الإحاطة نسبيا بمساره الحياتي المتشعب ، نظرا لتشعب حياة الرجل وغناها والثراء التي هي عليه . هو القاص والصحفي والروائي والمناضل على الصعيدين الثقافي والسياسي. لقد قدم الطاهر وطار، للقارئ العربي، والمكتبة العربية والعالمية، العديد من الأعمال القصصية والروائية منذ أن بدأ يكتب القصة القصيرة والمقال الصحفي في مطلع الخمسينيات من القرن المنصرم بالصحافة التونسية، ثم ما فتئ أن إقتحم الكتابة الروائية فأجادها والتي دشنها بعمله الروائي الذائع الصيت " اللاز" الذي ظل لسنوات العمل الأكثر تأثيرا على أعمال روائية أخرى لروائيين آخرين من جيل السبعينيات. وفي هذا العمل وفي غيره من أعمال الطاهر وطار يلمس القارئ هموم الكاتب الاجتماعية والروح الشعبية التي تنبض بها أعماله الروائية، الأمر الذي دفع الدكتور عبد المالك مرتاض إلى تأليف كِتاب في هذا السياق سماه "عناصر التراث الشعبي في رواية اللاز". ولعل القارئ لهذه الرواية لا زال يذكر لازمة "اللاز" الشهيرة: "ما يبقى في الواد غير حجارو". هو أول روائي جزائري يدين محنة تصفية بعض المثقفين الثوريين، ولو اقتصر ذلك من وجهة نظره على لفيف من المناضلين ذوي التوجه اليساري الذين مثل لهم بالنهاية المأساوية لشخصية المناضل الشيوعي "زيدان" حين أعدمته الثورة بقرار جائر من بعض قادتها، وهو بذلك أيضا يقدم نقدا لاذعا لأدوات السلطة في عهد الاستقلال من منظوره كروائي يتابع هسيس المجتمع وتحولات بلده المفصلية. ورغم وفائه لنهج تجربة الكتابة الواقعية الملتبسة بالمحمول الإيديولوجي الاشتراكي التي كان الطاهر وطار أحد ممثليها إن لم يكن رائدها، فقد قدم نصوصا أخرى على غرار "تجربة في العشق" و"الحوات والقصر" لم يبتعد فيها كثيرا عن النهج الواقعي لكنه مارس فيها نوعا معقولا من التجريب على الصعيدين الشكلي والرؤيوي. وحتى عندما دخل البلد في حرب أهلية بعد أحداث أكتوبر 1988 لم يغادر الطاهر وطار الجزائر كغيره من المثقفين الذين غادروا البلد هروبا من الموت والغدر الذي كان يترصدهم وبقيَّ معتكفا في "بيته الأليف" فأصدر في تلك الفترة العصيبة من تاريخ الجزائر "الشمعة والدهاليز" و"الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي" وهي أعمال تستحق مزيدا من الدراسة من الزاوية السوسيولوجية تحديدا لتوفرها على مادة خصبة من الرؤية الاجتماعية أو "الرؤيا للعالم" بتعبير الناقد السوسيولوجي والمفكر الماركسي لوسيان غولدمان. تساعد الناقد السوسيولوجي على مده بالإفرازات الاجتماعية التي تمتلئ بها أعمال الطاهر وطار المنسجمة مع المعنى الدقيق "للرؤيا للعالم" التي كان يرى غولدمان أنه من المستحيل استخراجها من عمل إبداعي واحد، بل من مجموعة من الأعمال والنماذج الإبداعية لمبدع وحيد يرى في المجتمع الذي شكله مرآته، و"المجتمع" المعني بذلك هو المجتمع التخييلي للرواية في تقاطعه وتماسه مع المجتمع الواقعي. وغولدمان استخرج "الرؤيا للعالم" من أعمال باسكال وراسين، ولم يقتصر جهد الرجل على الكتابة الروائية والقصصية فقط، فقد مارس أيضا العمل الصحفي حين أنشأ الملحق الثقافي لجريدة "الشعب" وهو الملحق الذي قدم للقارئ أصوات واعدة، هي الآن من الروائيين الطليعيين على غرار محمد مفلاح والحبيب السائح، والراحل مصطفى نطور، وأمين الزاوي ومحمد ساري وغيرهم. وغداة الانفتاح الديمقراطي الذي عرفته الجزائر ولو في شكله الواجهاتي أعلن استقالته من إتحاد الكتاب وأسس جمعية الجاحظية واضعا لها شعاره المعروف "لا إكراه في الرأي" وهي الجمعية التي أخذت على عاتقها في عهده تثمين الكتابة الشعرية وتحفيز الشعراء الشباب وإصدار مجلات فصلية ودورية كمجلة "التبيين" ومجلة "القصيدة" ومجلة "القصة"، مثلما أنه فتح الأبواب مشرعة أمام الكُتاب لنشر مخطوطاتهم وأعمالهم الإبداعية في الوقت الذي حُلت فيه المؤسسة الوطنية للكِتاب وتعقدت مشكلة النشر، قبل أن تهتدي الدولة إلى إنشاء ما يُسمى بصندوق دعم الإبداع. لقد كان الرجل في تصوري يمثل مؤسسة قائمة بذاتها ولا يمكن القفز أبدا على جوهر النضال الثقافي المدني الذي خاضه الرجل، وكان أول من دشنه وأسس له بعد الانفتاح الديمقراطي وإقرار حق التعددية الإعلامية والسياسية في أحلك الظروف وأصعبها بالنظر لظروف البلد السياسية والاقتصادية في تلك الفترة، وهو من هذه الزاوية لم يكن رائدا في الكتابة الروائية ذات اللسان العربي بل كان رائدا أيضا في النضال الثقافي. كمال قرور/ روائي لم يخلف أحد .. وطار الطاهر وطار روائي كبير، وموته ترك فراغا كبيرا في الساحة الثقافية، لأنه كان متميزا بكاريزمته وسجالاته وحضوره الثقافي الايجابي. صرحت بعد رحيله في إحدى الحوارات ، إننا يمكن نجد من يحل محله ويسد الفراغ بعد رحيله، إيمانا مني بأن هناك كُتابا قامات ولهم قدرة على التأثير في المشهد الثقافي وتفعيله. لكن كانت تلك أمنية جميلة، لأن الفراغ تمدد أكثر، ولا وطار جديد للثقافة الجزائرية. يحسب لوطار أنه من الرواد الذين كرسوا فن الرواية باللغة العربية في الأدب الجزائري. وظل وفيا للكتابة طيلة مساره حتى آخر الرمق. إرتبطت كتاباته في السبعينيات بالتغييرات التي عرفتها الجزائر بعد الإستقلال وما صاحبها من ثورات ، للنهوض بالبلاد. لكنه كان سياسيا محنكا وله مواقفه الإيديولوجية يُدافع عنها بإستماتة . لذلك لم يسلم من مضايقات السلطة بسبب ما يكتبه، لأنه فضل أن لا يتماهى مع السلطة، وترك بينه وبينها مسافة، حتى يحفظ لنفسه ككاتب أن يقول ما لا يمكن للسلطة أن تقوله، أو ترفض أن يُقال في حضرتها. انتهج الواقعية الاشتراكية مذهبا فنيا في السبعينيات معبرا عن قناعاته بكل جرأة، لكنه دخل التجريب في التسعينيات بعد أن عرفت الجزائر تحولات اقتصادية واجتماعية وثقافية، انتهت إلى الإرهاب الذي كاد يقوض أركان الدولة ويعصف بالمؤسسات. وطار نموذج للمثقف الفعال، لم يكن متقوقعا في برجه، بل التصق بالمجتمع، وفضل أن يتفرغ بعد تقاعده، لخدمة الثقافة والمثقفين بالعمل الثقافي النوعي الجاد الذي يؤدي إلى التراكم. كانت الجاحظية التي أسسها مع بعض المثقفين الفضاء الذي جمع المثقفين الجزائريين بعد أن ضاق بهم اتحاد الكتاب. ومن عباءة الجاحظية خرجت كثير من التوجهات الأدبية. المؤسف أن الجمعية بعد رحيل وطار، أصبحت في خبر كان. اليوم، لا حديث عن المشروع الواعد الذي ناقشه وطار مع المجلس الوطني في إحدى دوراته، والمتمثل في تحويل الجاحظية إلى قطب ثقافي يمول نفسه بنفسه. وغابت نشاطات الجمعية النوعية. ولم تعد حاضرة بالفعالية نفسها. ويبدو أن هناك تراجعا عن جائزة الهاشمي سعيداني للرواية. في حين سجل تعثر -لأسباب مادية- موعد توزيع جائزة مفدي زكرياء للشعر التي كانت مغاربية ثم أصبحت عربية. وقد تدخل وزير الثقافة عز الدين ميهوبي ووعد بدعم هذه الجائزة تكريما للطاهر وطار. نتمنى أن يفي الوزير بوعده ليحفظ ماء وجه الثقافة الجزائرية. نصيرة محمدي/ شاعرة " كانت الرحلة قصيرة يا نصيرة .." من أي سماء يأتي صوتك ؟ من أي جرح ينبثق نورك ؟ . كل الرحيل كذبة أخرى. كل الغياب نجمة جذلى. عرج على بياض اللغة . تجل في نارها، وأمض عاليا . هناك حيث أنفاسي، تشرق في الدرب ، وكلماتك طوق في العمر. " كانت الرحلة قصيرة يا نصيرة "، في جملته البليغة إختصر عمي الطاهر ثقل الرحلة والرحيل وحرقة أن تقطع كل هذا الهباء في عبور خاطف، ولحظة حارقة مسكونة بكل أسئلة الكائن وعذابات الطريق، واشراقات الكشف الباهرة. لم أعتد غيابه، ولم أقبل فكرة إنطفائه ، لأنه أكبر من لحظة الموت، وأقوى من محنة الفناء، ولأن سماءه ظلت منتمية للشمس، ولدفق الحياة، وإنهمار الحب وإحتضان الحالات والأشياء والكلمات ومجاهيل الروح ونزقها وعطشها وتأرجحاتها وهزاتها كما كنتُ أرى في عينيه للمرة الأخيرة، وكما تلقيت ثقة قلبه في تلك الغجرية المنذورة للترحال. لم أودعك، ولم أشأ أن أفعل، فالذين نتماهى معهم، ويصيرون عيننا الأخرى، وذاكرتنا الآتية، معهم نضيق بالأرض ونتسع بهم. نوغل في الحضور بتلك الأسماء التي لا أحد يعرفنا بها سواهم، ولا تمتثل إلا لدهشة انصهارهم فينا. الصوت ما زال حارا وممزوجا بمذاق الكأس الوحيدة التي تقاسمنا في السماء، وظلال الحكايات المدفونة في الأقاصي كما وعدتك عيناي، وكما يجدر بالطفلة التي عثرت عليك في تفوقها حين أحضر لي والدي تكريم المدرسة بكتب أشاعت الحرائق في بحري، وأوقدت للألم أصابعي. تدحرجت في بهجة الارتفاع عن رفاقي، وحرقة الكُتب التي تشربت غربتي: "اللاز"، "الحوات والقصر"، "الزلزال"، لتتوالى زلازل الروايات تشد انتباهي لمناطق ومساحات سأحفر فيها عميقا لأقارب عوالم محرضة على الحياة والسؤال. في الجامعة تقاطعت الدروب، والتقطت الروح بعض مفاتيح الإنصات لكُتاب ومثقفين يحملون هم الكتابة، وشغف البحث، وعناد السؤال. ولم يكن تأسيس جمعية الجاحظية إلا ذريعة للاقتراب من رجل اختزل الحياة والكتابة والكفاح والانتصار في حضوره الباذخ البسيط المرح الممتلئ بروائح الكون، واخضرار الآمال، وفتنة الطريق. فهمت كيف يصير المثقف متعددا منخرطا في جبهات كثيرة، منصهرا في الحياة، وصراخها ونبضها وجمالياتها، وكيف يصوغ مصيرا آخر بالكتابة والفن. لعبة الحياة والكتابة هذا المختبر العسير الذي خاضه عمي الطاهر بقوة، وبروح متحدية ومغامرة. لم يراهن إلا على الأمل، ولم ينتمِ إلا لحقيقة الإنسان وحقه وحريته وفي بلد حلم به عادلا وديمقراطيا ومدنيا وعلمانيا. كان شرسا في الدفاع عن قيم آمن بها، وحملها في عمله في الجمعية والإذاعة الوطنية وفي كتاباته ومواقفه السياسية الحادة وغير المهادنة. فتح لي عمي الطاهر حلم أن أكون صحافية في الإذاعة الوطنية وأنا لا زلت طالبة بالجامعة، كما فتح للشباب مكتبه وبيته للعمل والحياة، وحملني مسؤولية أن أترأس تحرير مجلة "القصيدة" مع تجارب أصدقائي فيها، مثلما رفض فكرة أن أؤسس "رابطة كتاب الاختلاف" مع رفاقي، ثم لم يلبث أن استوعب مشروعنا. ظلت الحركة الثقافية مشتعلة في زمنه، وانطفأت برحيله. ظل قلقا على إتمام سيرته الذاتية، ولم تكتمل الحكاية واكتملنا به وهو يواجه مرض السرطان بجبروت وتغول وتنمر وعات كما الجبل، وكما ذلك الصوت الأوراسي الشامخ جرحا وجمالا وحكمة تلخص ذلك العبور الفادح والعميق لرجل كان هنا وطار، وكان ضوئي حين رحل والدي، عالجني بحكمته، وطهر روحي من السواد. عيسى شريط/ قاص وروائي مواقف مثيرة للجدل لا تنسى له قد أبدو لكثير من الناس متطفلا حين أكتب عن المرحوم الطاهر وطار، ولكني لا أرى نفسي كذلك لأنني أدعي معرفته بشكل مقبول . عرفته من خلال أعماله ومن خلال خرجاته المثيرة للجدل دوما . وتشرفت بالجلوس معه بعد ذلك بمقر الجاحظية حيث أكرمني "بواحد شاي". من أعماله التي رسخت في ذهني وأحببتها في حينها كثيرا وتأثرت بها في كتاباتي لاحقا، هي رواية "عرس بغل"، لا يمكنني أن أنسى تلك المومس وهي واقفة بالبالكون وتدندن أغنية "أنا الوحداني يا الوحداني". لا أريد الخوض في أعماله الآن ونحن في هذه المناسبة التي نستحضر فيها روح الرجل الطيبة، لكنني أسمح لنفسي واكتفي بسرد بعض المواقف البسيطة التي حدثت لي معه ومع روحه الطيبة، فعندما أتيحت لي فرصة لقائه لأول مرة اكتشفت صورة أخرى لشخصيته تختلف جذريا عن الصورة التي رسمها الإعلاميون والنقاد في ذهني وربما في ذهن الكثير، فلم أجد إطلاقا ذاك "الشيوعي" المتصلب كما كنت أتصوره، بل شخصية محترمة مثقفة ثقافة دينية مذهلة فلم يخلو كلامه ولو لحظة من الاستشهاد بحديث أو آية قرآنية، توقف فجأة عن الحديث وخاطبني متسائلا: "مِن أين أنت تحديدا؟". ذكرت له اسم مدينة بالحضنة قريبة من مسقط رأسي الحقيقي ظنا مني أن الرجل ربما لا يعرف قريتي إن ذكرتها، وكم كنت مخطئًا، حدق في لثوان وأردف: "أنت لست من هناك"، فتساءلت مستغربا: "كيف عرفت عمي الطاهر؟"، وأخذ يشرح لي كيف عرف قائلا: "أهل المدينة التي ذكرتها لهم علامة مميزة، مقدمة أنوفهم تأتي دائما على شكل مربع صغير"، وأدركت حينها أن الرجل يعرف الجزائر وسكانها بشكل عميق. هي ميزة المثقف الحقيقي. حادثة أخرى أسعدتني كثيرا وما زلت أرددها وسأظل كلما توفرت فرصة ذِكرها، كان المرحوم عائدا من إحدى الملتقيات، فتوقف ببلدتي للاستراحة قليلا، جلس بإحدى المقاهي وطلب شايا، وعند مغادرته المكان سأل النادل: "هل تعرف عيسى شريط"، رد النادل: "نعم أعرفه هو ذلك الكاتب"، حينها دفع رحمه الله ثمن ما استهلك ثم قدم للنادل قيمة شاي آخر وطلب منه: "هذا ثمن شاي خصيصا لعيسى شريط، عندما يأتي قل –خالص من عند الطاهر وطار-" وواصل سفره إلى حيث العاصمة. أخبرني النادل بذلك عند زيارتي للمقهى وكانت فرحتي بذلك لا حدود لها، لأنني استقبلت كرم عمي الطاهر بمثابة وسام اعتراف بما أكتب من أعمال روائية، هي طريقة المرحوم الأنيقة دوما. الحديث عن هذا الرجل الذي كانت مجرد تصريحاته الإعلامية تثير الجدل وسط العامة والمثقفين وفي دواليب السلطة نفسها، لا يمكن أن يقتصر على المواقف البسيطة التي رغبت في ذكرها عبر مساهمتي، بل يتعدى ذلك ليلتصق بالبحوث الأكاديمية والغوص في شخصيته وسيرته وأفكاره وأثاره الأدبية. أردت فقط تسجيل حضوري في هذه الذكرى عبر ما سلف. "الله يرحمك ويوسع عليك يا عمي الطاهر".