“همّي الأساسي هو الوصول إلى الحد الأقصى الذي يمكن أن تبلغه البرجوازية في التضحية بصفتها قائدة التغييرات الكبرى في العالم”.. هكذا كان يقول شيخ الروائيين الجزائريين، الطاهر وطّار (ولو أن الحديث عن عمّي الطاهر بضمير الغائب أمر لم تألفه الكتابة بعد..)، كان مختلفا ومستفزا، لا لشيء إلا لتحريك قاطرة الرواية التي يستحق أن يلقب بكونه “والدها” رحل عنا عمي الطاهر، أول أمس، وهو من تمنى أن يموت صادقا كالشهداء، وها هو “يفعلها” في شهر الصيام ويدفن في خير أيّام الله. دخل الطاهر وطار ميدان الفن الروائي سياسيا ومناضلا، وساهم في استقلال الجزائر من الاستعمار الفرنسي رغم أنه كان منشغلا بالإبداع الروائي. لذا فقد جاءت معظم أعماله معبرة عن حياته وعن التجارب التي عاشها قبل الاستعمار وبعده، كان آخرها رواية “قصيد في التذلل”، التي كتبها على فراش المرض قبل أن تتدهور حالته الصحية وينتقل إلى جوار ربه أول أمس في مستشفى بئر مراد رايس بالعاصمة، عن عمر ناهز 74 عاما، وذلك بعد صراع تراجيدي مع المرض، تطلّب نقله عدة مرات في رحلات علاجية إلى باريس خلال العامين الماضيين، وهي الفترة التي تخللها ظهور عمي الطاهر في عدة مناسبات كان يظهر فيها متعبا ومنهك القوى. وكانت الحالة الصحية لعمي الطاهر قد عرفت تدهورا كبيرا في الفترة الأخيرة بعد امتناعه عن تناول الدواء خلال الشهرين الأخيرين، وهو ما أدى إلى دخوله غرفة الإنعاش، قبل أن تعرف حالته تحسنا تدريجيا، إلا أنها لم تكن كافية لتبعد عنه شبح الموت. ويعد ابن مدينة سدراتة، الواقعة بالشرق الجزائري، في طليعة الروائيين الجزائريين الذين اختاروا كتابة أعمالهم باللغة العربية الفصحى التي ستبقى شاهدا على عصرنا من خلال تعاملها مع المفردة العربية والمجتمع العربي كأحداث، حيث عمل الفقيد في الأدب كما في الصحافة واشتغل بالسياسة أيضا في عهد الحزب الواحد (حزب جبهة التحرير الوطني). وبالعودة إلى أعماله التي رسمت ملامح شخصية عمي الطاهر، نجد أنه اشتهر بمجموعة من الروايات التي كتبها في ظل نظام الحزب الواحد، مثل روايات “اللاز”، “الزلزال”، “الحوات والقصر”، “عرس بغل”، “العشق والموت في الزمن الحرّاشي” ومجموعته القصصية “الشهداء يعودون هذا الأسبوع”. ومع بداية عام 1999، صدر للروائي المرحوم روايته “ الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي”، أما في عام 2005 فقد صدرت روايته “الولي الطاهر يرفع يديه بالدعاء”، دون أن ننسى آخر رواياته التي كتبها على فراش المرض في السنتين الماضيتين وهي “قصيد في التذلل”، التي أراد لها القدر أن تكون آخر عهد له بالكتابة. يذكر أن الطاهر وطار نال جائزة الشارقة لخدمة الثقافة العربية لعام 2005 ، وجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في دورتها الحادية عشرة لعامي 2008 2009، إلا أن ظروفه الصحية حالت دون ذهابه إلى دبي في مارس الماضي لتسلم الجائزة. كما اختارت لجنة تحكيم القصة والرواية والمسرحية الروائي الجزائري الطاهر وطار من بين 262 مرشح في حقل القصة والرواية والمسرحية وترجمت رواياته إلى حوالي عشر لغات حتى الآن أهمها: الروسية والإنجليزية والألمانية والفرنسية والبرتغالية والفيتنامية واليونانية والأوزباكستانية والأذربيجانية. الطاهر وطّار، عمود آخر في بيت الأدب الجزائري والعربي يسقط بعد يومين من الذكرى الثانية لرحيل الشاعر العالمي محمود درويش.. هم الكبار إذن؛ يرحلون وتبقى آثارهم شاهدة على مرورهم الاستثنائي على ورق هذه الحياة التي ظلّ عمّي الطاهر يداعبها حتى في أواخر حياته.. رحل عمّي الطاهر، أطفأ الشمعة وترك الدهاليز.. حورية صياد .. هكذا ودعوا عمي الطاهر عبد العزيز بلخادم “سندرك في الأيام القادمة حجم الفجوة التي تركها برحيله” الطاهر وطار لم تفقده عائلته ولا أصدقاؤه المثقفون ولا وطنه فقط، بل فقدته الأمة لأنه من أساطير اللغة والأدب والرواية وكان شامخا وزاهدا أيضا في الحياة.. اليوم ونحن نترحم عليه ندرك جسامة الفجوة التي سيتركها بعد رحليه، لكننا مسلمون نؤمن بقضاء الله وقدره. أبو عبد الله غلام الله “لم أدخل الجاحظية قط، لكن وطار دخل ذاكرتي” الفقيد منذ أن وعى على هذه الدنيا وهو مشبع بمبادئ الثورة التحريرية المباركة فتشبع من خلال هذه الثورة بجميع المعاني على المستوى السياسي والاجتماعي وخاصة المستوى الثقافي وكان يتميز بالإخلاص والصدق طوال حياته، فكان ملتزما طوال مسيرته النضالية بفكرته ومبادئه المقتنع بها وهي فكرة التحرر. كنت أتابع مختلف النشاطات الثقافية التي كان ينشطها الراحل بالجاحظية، وعن قرب، صحيح لم أكن على تواصل معه لكني كنت أحرص على متابعة كل صغيرة وكبيرة تتم هناك عن طريق الإعلام، ورغم أني لم أدخل الجاحظية قط، نظرا لانشغالي بنشاطات الوزارة، لكن هذا لم يمنعني من متابعة نشاطات الراحل من بعيد. محمد الميلي “لن أنسى أنه كرّمني قبل وفاته” رحيل وطار يعد خسارة للأدب الجزائري، خاصة الأدب المكتوب باللغة العربية، كان الراحل بمثابة الأدب الروحي للرواية الجزائرية، وكنت أحد تلامذته حين كان يدرس بمعهد ابن باديس، ولن أنسى له أنه قام قبل رحيله بتكريمي. إن تصرفه هذا نابع من إنسانيته العالية وأخلاقه المتميزة تجاه أصدقائه والمقربين منه.. وطار كان إنسانا خلوقا ووفيا. كنت على تواصل دائم معه، كما كان هو في الفترة الأخيرة وخاصة عندما كان يخضع للعلاج في باريس، كنت أتابع أخباره عن كثب في الفترة الأخيرة. للأسف، غيابه عن المشهد الثقافي سيكون له الأثر البالغ في نفوس كل المثقفين والكتاب وخاصة الجيل الذي تأثر بأعمال وكتابات هذا الرجل. واسيني الأعرج “عمي الطاهر كان أكبر من الخلافات التي كانت بيننا” خسارة كبيرة نعيشها اليوم، عمّي الطاهر ملأ الحياة بنصوصه ونشاطاته وأعماله، وذهابه سيترك فراغا من ناحية الوجود؛ إلا أنه سيبقى حيا في قلوب من أحبوه ومن جمعتهم به نقاشات وإن كانت حادة في بعض منها. اعترف أن عمي الطاهر كان أكبر من الخلافات التي كانت بيننا؛ حيث بادر إلى تهنئتي بجائزة الشيخ زايد في الآداب والتي تحصلت عليها في 2007. كانت البداية لإذابة الجليد بيننا، خاصة بعد مرض عمي الطاهر وانتقاله إلى باريس؛ حيث كنت أزوره يوميا رفقة زوجتي وأولادي. كانت لنا فرصة تجديد لغة الحوار والجلوس سوية على مائدة النقاش خاصة وأنّ الراحل كان مشغولا بما يحدث في البلاد وهي اللقاءات التي تستحق أن تجمع في كتاب. وعلى المستوى العائلي، فقد دعوته أكثر من مرة إلى بيتي في فترة علاجه في باريس أين كان يطالب بكسكس زينب ويقول “لازملي كسكس زينب”. رغم الغياب، إلا أنني من المؤمنين بالاستمرارية الأدبية، لذا أطالب بإحياء ذكراه من خلال المواظبة على تنظيم ندوات ولقاءات للحديث عن أعماله ضمانا لاستمرارية تواجده الأدبي بيننا. كما أتمنى أن يستكمل المشروع الذي تبنته وزارة الثقافة في إعادة كامل أعماله خاصة بالنسبة لأعماله الأولى الغائبة في المكتبات حاليا. زينب الأعوج “عزائي الوحيد هو أنه توفي مرتاحا بعد نشر آخر رواياته” فقدان عمي الطاهر يعد خسارة كبيرة للأدب على المستويين المحلي والعربي وحتى العالمي باعتبار أن أعماله ترجمت إلى عدة لغات، حيث أن الراحل صنع البداية للعديد من المشاريع الثقافية في الجزائر فكان من مؤسسي الجاحظية، الصحافة باللغة العربية، والصحافة الثقافية كما يعد أبا للرواية الجزائرية. كانت بداية علاقتي مع عمّي الطاهر، مع سنوات الدراسة في الجامعة، أين كانت لي فرصة اللقاء به مع بقية الطلبة عندما زار جامعة وهران، لتقديم قراءة لبعض رواياته وهو ما اعتبره حدثا مميزا في بداية حياتي بالنظر إلى القيمة الأدبية التي كان يتمتع بها عمي الطاهر، كما التقينا في سوريا حينها، أين كانت لي فرصة استضافته في بيتي، قبل العودة إلى الوطن والالتقاء في العديد من النشاطات والمشاريع الأدبية. رغم الخلافات التي لا يجب أن نعطيها أكثر من حجمها، فإننا يجب أن نقبل عمي الطاهر كما هو بتناقضاته وطيبته وإحباطاته التي صنعتها سنوات ما بعد الاستقلال بسبب ضياع الحلم والآمال التي كان يرسمها لجزائر مستقلة. عمّي الطاهر كان مشاكسا، يتعمد في الكثير من الأحيان افتعال المناوشات بين المثقفين الجزائريين لدفع الحركة الأدبية وإنعاش الجو الثقافي إذا لاحظ نوعا من الركود. عزائي الوحيد في الغياب، هو أنه توفي وهو مرتاح خاصة بعد نشر آخر روايته “قصيد في التذلل”، وبالتالي فالواجب الذي يتحتم علينا الآن هو التفكير في كيفية إحياء ذكراه بين الأجيال مستقبلا. أمين الزاوي قبل “اللاز” لم نكن نقرأ إلا لكاتب ياسين ومحمد ديب رحيل الطاهر وطار هو خسارة للأدب والقارئ في الوقت نفسه، وأيضا للثقافة بشكل عام في الجزائر، فالطاهر وطار هو الأديب الذي استطاع أن يحاور تاريخ الجزائر منذ الخمسين حتى السنة، فحاور الثورة الجزائرية في قصصه الأولى، ثم حاور المرحلة الاشتراكية والاختيارات التي كانت متاحة في السبعينيات من خلال مجموعة من الروايات، ثم أيضا حاور المرحلة الأخيرة، مرحلة الديمقراطية، خاصة الجانب الإنساني منه. كما يرجع الفضل للراحل في إيصال الرواية الجزائرية إلى المشرق العربي، ويعود له الفضل أيضا في كونه استطاع أن يؤسس ما نسميه بالقراءة النضالية للأدب العربي المكتوب في الجزائر، فروايته الموسومة ب “اللاز”، كانت بالفعل النص الذي أسس لقارئ جزائري للرواية الجزائرية المكتوبة باللغة العربية، فقبل “اللاز” لم نكن نقرأ إلا لكاتب ياسين ومحمد ديب ولكن “اللاز” جاء ليؤسس لقارئ جديد. زينب الميلي “وطار كان حيا في مقبرة الموتى” وطار كان كاتبا عصاميا، وكاتبا ثائراً كون نفسه بنفسه في بلاد تقبر فيها المواهب، ففرض نفسه في مقبرة الموتى، رحيله سيكون مؤلما علينا جميعا ولا أعتقد أن الرواية بعده ستكون بخير. عز الدين ميهوبي “وطار كان صاحب مشروع ثقافي حقيقي” كان شخصية تتسم بالتواضع ومحبة الناس، هذا الشيء الذي يجعل من غيابه خسارة كبيرة لنا؛ ليس فقط على المستوى الثقافي والأدبي والفكري ولكن على الصعيد الإنساني كذلك. طبعا الأستاذ الطاهر وطار كان من مؤسسي الثقافة الوطنية وكان حاملا لمشروع ثقافي حقيقي، سعى إلى إرساء ثقافة الاختلاف، ثقافة المشروع الثقافي الذي هو مشروع تقديم أفكار وطروحات جديدة لأنه بعد نهاية الثمانينيات كانت هناك التعددية الثقافية التي ظهرت بإنشاء بعض المؤسسات الثقافي كالجاحظية التي شكلت فضاء ثقافيا واسعا، انخرط فيه العديد من المبدعين ممن يؤمنون بالمشروع الحداثي وتقديم أدب مختلف يعكس التحولات الجديدة التي يشهدها الوطن، ولقد كان الطاهر وطار يؤمن بهذا المشروع حتى آخر لحظات حياته.