هل لازال وطار يزعج؟ حلت منذ يومين، الذكرى الثانية لرحيل الروائي الجزائري الطاهر وطار، وطار الذي غادر إلى مقامه الأخير في ال12 من شهر أوت 2010، حيث رحل عن عمر يناهز 74 سنة، بعد صراع طويل مع المرض. وطار صاحب الشخصية الإشكالية في كتاباته ومواقفه، بدأ مشواره الأدبي سنة 1955 بنشره لأعمال قصصية في الصحافة التونسية التي احتضنت أول أعماله عندما كان طالبا بجامع الزيتونة، وبعدها توالت إصداراته في القصة والمسرح والرواية، كما توالت تكريماته وجوائزه، منها: جائزة الشارقة لخدمة الثقافة العربية،2005 وجائزة سلطان العويس للرواية،2009. في عام 1989 أسس جمعية الجاحظية، ومن خلالها فتح أفاق النشر لجيل أدبي بأكمله، كما أسس عدة جوائز أدبية ضمن المشاريع الثقافية للجمعية، من بينها جائزة مفدي زكريا للشعر، التي كانت في البداية وطنية لتصبح فيما بعد جائزة مغاربية ثم عربية، وجائزة محمد سعيداني للرواية. وطار الذي كثيرا ما شكل حساسيات فنية وأدبية وسياسية مختلفة وجالبة للجدل دائما، سواء في مشهد الأدب أو في مشهد السياسة، عاش حياة زاخرة بالنجاحات والخلافات والصراعات هنا وهناك، وكان دائما يقول مواقفه، دون أن يلتفت لحجم الخسارات الممكن حدوثها، ولا لنوع العداوات. وهذا ما جعله على اختلاف وخلاف دائمين مع أكثر الكتاب والأدباء الجزائريين، وحتى بعد موته، ظلت بعض الخلافات تراوح مكانها حتى وهو غائب ونائم في مقامه السماوي الأخير. وطار وفي ذكرى غيابه الثانية، يحضر في كراس الثقافة لهذا العدد، حيث نقرأ شهادات بعض الكتاب والأدباء الجزائريين والعرب، عنه وعن كتاباته ومواقفه، وعن بعض ذكرياتهم مع صاحب "الشمعة والدهاليز". * استطلاع:نوارة لحرش * السعيد بوطاجين/ قاص وناقد الصمت المتواطئ: وطار والفرنكوفيلية تمنيت لو أن أصدقاء وطار والمناوئين له طرحوا إشكالية موقفه من الفرانكوفيلية بأخلاق عالية، بعيدا عن الأحقاد والضغائن والسفاسف والمصالح الصغيرة، والكبيرة أيضا. لا توجد موضوعية حقيقية في هذا الشأن، مع أن غالبية "المثقفين" على بينة من الأمر، ومن أمرهم، لكنهم يفضلون الصمت تفاديا للخسارات الممكنة. إننا نعرف، 'ككتاب وكجامعيين'، أن هناك مفاضلات غير مؤسسة معرفيا وأدبيا، بقدر ما لها علاقة باللوبيهات التي تتحكم في الثقافة واللغة. كان وطار ينطلق من هذه القناعة التي شحذتها التجربة والممارسة والفطنة والحنكة. لم يكن الرجل كاتبا وحسب، لقد كان نبيها بما يكفي لمعرفة دبيب الأقوال وطبيعة الصراعات المفتعلة، كما الصراعات التي تضع البلاد على المحك. سنترك شخصيته جانبا. لقد كان وطار حادا وعنيدا ومتهورا في بعض سلوكياته وتصريحاته، ولعل ذلك ما أفرغ الجاحظية من قامات تمثيلية كان بمقدورها أن تجعل المؤسسة مفخرة للجزائر ومرآة لها، عكس ما سمعناه في تصريحات مناقضة تماما، وخاصة بعد وفاته، رحمه الله. لكن مواقفه الوطنية ظلت ثابتة، بصرف النظر عن الجانب الاستراتيجي الذي سلكه في التعامل مع بعض الجهات وبعض الأجهزة. لم يكن مقتنعا أبدا بوجود مشكلة لسانية في الجزائر، هو الأمازيغي الذي يكتب بالعربية ويستعمل الفرنسية دون عقدة. وكان مكتب الجاحظية مشكّلا من المعربين والمفرنسين والأمازيغيين والملحدين والشيوعيين والإسلاميين (مات أحد الإسلاميين إثر انفجار قنبلة، وكان نائب وطار مفرنسا وله إصدارات بالفرنسية، كما كان في المكتب مثقفون يكتبون بالأمازيغية ويتعاملون بها). وقد كانت الجاحظية وقتها تطبع باللغات الثلاث، ولا أتذكر، كأمين عام، أننا واجهنا متاعب. كانت اللغات الثلاث تعيش متناغمة إلى حد ما. ولم يحدث أن واجهنا مشكلة لسانية، وكانت المحاضرات تقدم باللغات الثلاث وبالدارجة، وظلت المناقشات حرة، دون أي إقصاء للغة في حد ذاتها، كوسيلة حيادية هدفها تقديم مادة علمية أو فنية، دون استثمارات أيديولوجية مفضوحة، أو ذات خلفيات ليست منزهة. لا أعتقد أن وطار كان سيتخذ تلك المواقف الانتحارية لولا التضييق والخناق، ولولا الجماعات التي كانت تعتقد أنها فرنسية، وليست مفرنسة فحسب، كما الآلاف. لم تكن اللغة تعنيه، لكن بعض اللوبيات خنقت الأدب المعرب وحاصرته من كل الجهات، وطنيا ودوليا، بما في ذلك ما تعلق بالنشر والتوزيع والدعم والترجمة، وكانت هذه اللوبيات تقدمه في بعض المحافل على أنه ظلامي ومتخلف. ويمكننا، بلا جعجعة، وبلا خلفيات، التأكد من هذه النظرة ومن هذا الإقصاء ومن هذا التعالي في الإعلام المفرنس الذي لا يعنيه ما يكتب باللغة الوطنية. كما أن النقد الجامعي، في أقسام اللغة الفرنسية، لا يعتبر الأدب المعرب جزائريا. ولو ترجم. ولو كان إلهيا. وكان وطار يتحدث بمرارة عن هذه التوجهات التي تلغي "الأنديجان". وكان هو واحدا من هؤلاء الزنوج الغرباء. ذاك إحساسه رغم قيمة إبداعه. وقد تقوّى هذا الشعور في السنين الأخيرة، بعد إنشاء إذاعة القرآن وكتابة الروايات الثلاث، بداية من "الشمعة والدهاليز"، وبعد موقفه من إيقاف المسار الانتخابي ومن الجبهة الإسلامية للإنقاذ. ربما كانت تصريحاته متسرعة، خاسرة في سياق مخصوص، وغير واضحة أحيانا، أو غير ضرورية في فترة تخلى فيها عنه المعربون أنفسهم، أولئك الذين كان يتهمهم "بالشهادات" والانهزامية والوصولية والمداهنة والسلبية. وهذا موضوع آخر. إنني أتساءل اليوم عمّا إذا كانت مواقف الآخرين من مواقف وطار لا تحتاج إلى أن نتخذ منها موقفا أكاديميا. وبالملموس، ثمة جعجعة مفلسة مثيرة للغثيان لأنها تفتقر إلى الصدق والموضوعية، وهما الشرطان اللذان يجب توفرهما في أي جدل معرفي يحتوي على بعض السلوكيات والمواقف الحضارية. لقد كانت مشكلة وطار مع فرنسا التي في الجزائر، وليست مع الجزائريين الذين يكتبون عن جزائريتهم باللغة الفرنسية. لم يكن العيب في اللغة، لقد كان العيب في قهر "الأنديجان" وأدبهم بلغة أجنبية، شاعرية وجميلة ونافذة على كافة الأصعدة. ذاك ما فهمته من الطاهر وطار في الفترة الطويلة التي اشتغلت فيها معه. وإذ لا أبرئه، ولا أتهم أحدا، أدعو إلى ندوة تتناول هذا الجانب بأخلاق علمية. إن من يحضر لتكريم محمد ديب لا يمكن أن يكون ضد الكتاب المفرنسين. هناك مضمرات وجب التعامل معها باحترافية، وليس بعقلية ساذجة، نفعية ومحدودة. أما الإفراط في الصمت فليس إلا تواطؤ بأحمر الشفاه. لقد انسحبت من الجاحظية في وقت ما لأسباب تخصني. لم أكن أتفق مع الطاهر وطار في بعض القضايا، وهذا طبيعي. كما أني لم أرجع إلى الجاحظية مذ سنوات طويلة. كان انسحابي ضروريا، لكني ظللت أقدّر كثيرا من مواقف هذا الرجل الأصيل الذي لن تنجب الجزائر العشرات منه. لقد عاش بمبادئ كافية لصناعة هوية، رغم الفجوات التي وقع فيها، أو دفع إليها مكرها. يجب أن ننتبه إلى أمر مهم: لقد كان مالك حداد يكتب بالفرنسية، وبإتقان عجيب، ومع ذلك وضع في هامش الهامش، كما حاول بعضهم تشويه صورته وأدبه. ألا توجد علاقة بين ما حدث له وما حدث للطاهر وطار؟ أم أن الأمر لا يتعدى حدود الصدفة؟ لقد قال مالك حداد: اللغة الفرنسية هي سبب غربتي، وكان على وطار أن يضيف: اللغة العربية هي سبب متاعبي. هكذا نتناول الكليات، وليس الجزئيات منفصلة عن بناها الكبرى، لأنها ستفقد مسبباتها ومعانيها.لا يمكن معرفة الحقيقة تأسيسا على حالة معزولة وملتبسة، ثم، لماذا لا نتطرق إلى ما قاله الفرونكوفيليون في الطاهر وطار؟ أم أن ذلك يدخل في باب نقض المقدس؟.. نتطرق إلى الأقوال والأفعال والممارسات والمضايقات دون أحقاد. بهذه الطريقة اللبقة ننصف هذا وذاك ونتخلص من هذا الذي يشبه الخرف. الجزائر بحاجة إلى الجزائر. عمار مرياش/ شاعر وكاتب جزائري مقيم في باريس لم يكن ينتظر أبدا، بل يعالج الأمور في وقتها أذكر، مرة عندما كنت في الجزائر، دُعي عمي الطاهر إلى مأدبة بقصر الثقافة أقامها الوزير الأول آنذاك "مقداد سيفي" إن لم تخني الذاكرة، فكر طويلا في قبول الدعوة أو رفضها وطلب رأيي ورأي نجيب أنزار وغنية سيد عثمان، فكر طويلا ثم طلب منا أنا والصديق الشاعر نجيب أنزار أن نرافقه. سَوى ربطة العنق، وضع البيريه على رأسه، حمل الخيزرانة وذهبنا إلى قصر العناصر. سلم على الوزير الأول وقدمني أنا ونجيب. ركب جملتين مفيدتين، أو لائقتين سياسيا ثم اعتذر لمضيفه على عدم قدرته على البقاء طويلا قائلا: "أستأذن أنا في الذهاب سيادة الرئيس، لأمر عاجل، وأترك مساعدي في الجمعية معكم"، مشيرا إلينا، وخرج، لم يكن لديه أي شيء عاجل، فقد قضينا أكثر من ثلاث ساعات معا قبل أن نأتي إلى قصر الثقافة ولم يحدثنا عن شيء كهذا، ثم هو عموما لا ينتظر أبدا، بل يعالج الأمور في وقتها، المهم خرج وطار وبقيت أنا ونجيب قليلا لتمثيل الجمعية، وفي المساء عندما عدت إلى الجاحظية حوالي السادسة، وجدت عمي الطاهر منهمكا في تنظيف أرضية مدخل الجاحظية بقطعة حديدية، قال لي ببعض الأسى: "مازالو يرمون الشوينغوم على الأرضية مع أننا وضعنا لهم أكثر من سلة مهملات، واش تحب؟ هذا هو شعبك يا عمار"، أجبته مازحا: بل هذا شعبك يا مولاي، أنا لم أتبن أحدا بعد. أتساءل طبعا، هل كان تنظيف أرضية مدخل الجاحظية أمرا عاجلا يومها؟ هل رأى في القصر ما أزعجه إلى حد الذهاب بسرعة؟ هل أراد أن يسجل نقطة على حساب الرئيس بلباقة؟ هل ترآى له وقتها "عرس بغل" من غير اللائق رفض دعوة إليه ومن الصعب البقاء فيه؟ هل هي رسالة مقصودة لي ولنجيب أو للوزير الأول أم مجرد سلوك عفوي؟، أم أنه، بكل بساطة، مثلما يقول عن نفسه على لسان بطل روايته "علي الحوات": "ما جئت لتفهم بل ليفهم بك الناس عصرهم؟"، لا أعرف ولكن لحظتها كبر في عيني وتخلصت من عقدة تنظيف الأرض إلى الأبد. محمد معتصم/ كاتب وناقد أدبي مغربي الكتابة الصعبة، وتجربة روائية مهمة أغنت مدونة السرد العربية والجزائرية خاصة الطاهر وطار لبنة أساسية في مدونة السرد الجزائري والعربي المعاصر والحديث، تعتبر أعماله الإبداعية حقلا غنيا لفهم المرحلة سواء من حيث التعرف على القضايا الفكرية والسياسية العربية، وقد زامنها وكان حاضرا فيها وكانت حاضرة في متخيله وكتاباته أو من حيث القضايا الإبداعية والأدبية. أول ملاحظة تكونت لدي في تعاملي مع أعماله الروائية وقد كان من أول من قرأت أعمالهم واشتغلت عليها دراسة وتحليلا: الصعوبة. صعوبة اقتحام عوالمه التخييلية، وصعوبة فكر شفراتها وتأويل دلالاتها التي يقصدها الكاتب. مرت فترة ليست بالقصيرة قبل أن أتمكن من الكتابة عن روايته "عرس بغل" التي نشرت ضمن كتابي "النص السردي العربي: الصيغ والمقومات". تتأتى صعوبة اختراق عوالم الطاهر وطار من تركيبة الكاتب ذاته فهو الملتحم بالقضايا السياسية والفكرية والمنخرط في تجربة الإبداع في زمنه الإبداعي المتصارع بين الكتابة التقليدية والكتابة الحديثة التجريبية، والأهم من كل ذلك أنه كان يجعل من ذاته [وعيه] قناة أساسية في كل عملية تخييل، لذلك طبعت أعماله بمسحة "صوفية" تمثلت في رواياته الأخيرة. من أين تأتي الصعوبة في دراسة روايات الطاهر وطار؟ لا تأتي من البناء الخارجي، فرواياته على هذا المستوى تنتظم في خط ثيماتي متنامي عبر الترابط، لذلك لم يدرجه النقاد ضمن "التجريب" الروائي الذي ظهر فترة السبعينيات من القرن الماضي وانتشر في البلاد العربية كمظهر من مظاهر التطور ومطلب من مطالب تجديد الخطاب الروائي، وقد كان النقاد والمبدعون في آن ينظرون إلى التجريب نظرة "سطحية"، وأقول سطحية لأنها كانت ما تزال تحت هيمنة التفكير التقليدي للعملية الإبداعية، حيث الشكل ظاهر خارجي والمضمون محتوى داخلي، وهو ما عبر عنه كثير منهم بالشكل والمضمون أو الخارج والداخل [دراسة الخطاب الروائي من الخارج ومن الداخل]، بينما تبرز الدراسة التحليل-نصية لأعمال المرحوم الطاهر وطار أنه كان يعي "التجريب" من منظور شخصي وقتها لكنه علمي ومتطور، وهو أن التجريب الروائي [في الكتابة عامة] يقوم على وحدة متكاملة بين "الشكل الخارجي" و"المضمون" فلا شكل بدون مضمون ولا مضمون بدون شكل وبتعبير أكثر دقة أن للشكل مضمونه الخاص وللمضمون شكله الخاص. لذلك يكون اختيار الطاهر وطار للبناء الثيماتي المترابط والمتنامي اختيارا واعيا يستجيب للمرحلة ويستجيب لرؤيته الخاصة. مع ذلك فالبناء المترابط والمتماسك للمتواليات السردية [فقرات وفصول الرواية] لم يغن عن "الصعوبة" التي تأتي من بناء الفكرة لدى الكاتب، ومقاصدها. لقد تشبث الكاتب في كتاباته الروائية بقضايا ذات البعد الاجتماعي والقيمي [من القيم] ولعل هذا كان سببا وراء "صوفية" و"عجائبية" كتاباته. في دراستي لروايته "عرس بغل" وضعت مقارنة بين شخصيته المحورية "حمود الجيدوكا" وشخصية الكاتب الأمريكي إرسكين كالدويل في "شخص بائس"، والملمح الذي يجمع بين الشخصيتين. يرجع السبب إلى "الفضاء الروائي" لكلا الكاتبين، ويعد الطاهر وطار ممن أسسوا لما أسميه حاليا "متخيل الأحياء الخلفية" كما في المغرب مثلا، محمد زفزاف ومحمد شكري وإدريس الخوري، وإرسكين كالدويل واحد ممن اهتموا بالفضاء الهامشي وتتبعوا معاناة الإنسان البسيط في صراعه مع الحياة وحاجيات الوجود البسيطة. يقوم الفضاء الروائي لدى الطاهر وطار في "عرس بغل" على بنية التضاد الأساسية وبنية الإقصاء والنفي والتي يمكن تعميمها بنسبة مهمة على باقي أعماله الروائية: التضاد بين المركز والهامش في المجتمعات الحديثة. التضاد بين الحاضر والماضي. إقصاء الذات وتهميشها. إن الصعوبة في كتابة الروائي المرحوم الطاهر وطار تتجلى في تنوع الفضاءات الروائية التي يشتغل عليها، ومتخيله المحمل بنفحات من الماضي فكرا وأسلوبا لغويا وهو ما يتطلب من القارئ والدارس في آن واحد التزود بثقافة واسعة تجمع بين الفكر واللغة والأدب إضافة إلى الموقف الأيديولوجي، أي أن الصعوبة تأتي كذلك من قوة حضور وعي الكاتب في بناء أحداث النص الذي يكتبه. تبقى تجربة الطاهر وطار من بين التجارب الروائية المهمة التي أغنت مدونة السرد العربية والجزائرية خاصة، بالتميز الأسلوبي الذي اختاره في كتابة أعماله الروائية، ومواقفه التي انحازت دائما إلى القضايا الاجتماعية وإلى الإنسان البسيط في صراعه الوجودي من أجل البقاء أولا ثم من أجل إثبات الذات داخل مجتمع متنوع ومتعدد ومعقد التركيب، وهو متميز أيضا بفضائه الروائي الذي نقل إلى الرواية [الأدب] قضايا الفكر وخاصة الصراعات التي شهدتها الدولة الإسلامية إبان نشأتها وتكونها، وهذا يمكنه أن يضع الخطاب الروائي للطاهر وطار ضمن الرواية الثقافية التي لا تكتفي من الإبداع المتعة والترفيه فحسب بل تراه قناة مهمة في تثقيف القارئ وترى الإبداع [الرواية] ساحة لمعالجة القضايا الكبرى غير الأدبية. إذا كان الموت قد غيب عنا كاتبا متعددا وعضويا تحتاجه المرحلة فإن الموت أيضا يدفعنا إلى القول بانغلاق دائرة إبداع الفقيد وقد وجب الآن العودة إلى أعماله لدراسته كمتن واحد متكامل للوقوف عند "تجربته" الإبداعية وقد أصبح مفهوم التجربة واقعا حقيقيا. إبراهيم نصر الله/ شاعر وروائي فلسطيني ستظل أعمال الطاهر وطار تنتظر قارئها دائما في المستقبل حين كان الطاهر وطار في الأربعين من عمره، كان حالة ثقافية بالغة التأثير في العالم العربي، كانت فلسطين تحتضن أعماله وتنشرها. كان أول كتاب يقع بين يدي له، هو روايته "اللاز" التي قامت دار صلاح الدين في مدينة القدس بطباعتها عام 1976، بسرعة تحولت أعمال الطاهر وطار إلى خبز للقارئ الفلسطيني، وغدا العثور على عمل جديد له بمثابة العثور على عالم كامل من الصفاء والجرأة والجمال الداخلي لإنسان عربي يرفض أن يُهزم. إنسان قادر على أن يحقق النصر بلحمه وروحه وإبداعه، حين يتأمل المرء ما الذي كانت تتركه أعمال ذلك (الشاب) المبدع المتألق في ذلك الزمان من أثر، يدرك أن قوة الإبداع كانت هي المحرك الكبير لخلق الجمال ورعايته والدفاع عنه أيضا ويدرك أي قوة تلك التي تسكن عمق الكلمات، كان ذلك زمن الطاهر وطار فعلا، الزمن الذي امتد وتفرع عبر إبداعات كثيرة غدت يوما بعد يوم ذات تأثير أعمق، الحديث عن الطاهر وطار الحاضر دائما، حديث عن قدرة الموهبة على تحقيق حضورها المؤثر لكاتب (شاب) وزمن (شاب) وكلمات وعدت البشر، كما وعدوها، بغد أجمل، هذا يبعث الأمل عن ساقين وعن بشر يسيرون في الاتجاه الصحيح كي يتبعهم ممتلئا بهم وممتلئا بذاته، ولهذا ستظل أعمال الطاهر وطار تنتظر قارئها دائما في المستقبل، هي التي لم تتخل يوما عنه ولم تخذله في الماضي. محمد زاوي/ كاتب وإعلامي جزائري مقيم في باريس الأيام الباريسية للطاهر وطار، أو العودة إلى الطفولة أذكر، لما تحسنت بعض الشيء حالته الصحية، أجر الطاهر وطار بيتا عند عائلة لزهر السوقراهي، ولزهر يسكن حيا شعبيا في درانسي يؤمه مهاجرون خاصة من باكستانوالجزائر. ومنذ إقامته في هذا البيت فرض الراحل بطريقة لطيفة على صاحب المسكن غرس المعدنوس والقصبر والنعناع وأن تطبخ له أطباقا جزائرية، وكان وقتها ينهي روايته الأخيرة "قصيد في التذلل"، في أجواء خاصة، فقبل أن تدخل غرفته تسمع من بعيد صوت عيسى الجرموني أو بقار حدة، فقد حمَّل مئات الأغاني الشاوية على جواله، لأن في أيامه الأخيرة عاد وطار إلى مسقط رأسه وإلى ثقافته الأصيلة وكان يفتخر بأنه أمازيغي، يتحدث عن مسقط رأسه بكثير من الأنفة. لقد كان وطار يتألم، لكنه لم يكن يبدي أي علامات حزن على وجهه، بل إنه كان يعطي بعدا فلسفيا لحالته فيقول مثلا: يجب أن نترك المكان للأجيال المقبلة، وأن الموت حالة فنية يجب أن أجربها...الخ.. وكان الأطباء يتحدثون له عن أمراضه، عن سرطان في تلك الجهة، وورم في جهة أخرى، لكن عمي الطاهر كان همه هو أن ينهي كتابة/ روايته. كان يتابع بكثب لدرجة الإدمان مشاهدة التلفزيون ويترقب نشرات الأخبار ومشاهدة المسلسلات والأفلام، وكان يتحدث كثيرا في الهاتف، لكن كل اتصالاته كانت في أغلبها مع جمعية الجاحظية التي كان يسيرها من بعيد ويقف على كل كبيرة وصغيرة داخلها. وكان في حديثه معي يقف بين الحين والحين الآخر على ماضيه الطفولي، يتحدث عن تلك الأماكن المتسعة ومرابض الحيوانات في بيت جده التي تتحول إلى أماكن لإقامة المحافل بعد أن تشعل فيها الأنوار الخافتة، ولذلك فإن هذا الرجل الذي خرج من رحم الثقافة التقليدية وعانق أرقى الفلسفات مثلما يقول الصديق الناقد مخلوف عامر لم يتنكر لجذوره، بل بقى متأصلا لدرجة أنه أراد إقامة زردة في منطقة مداوروش. والحقيقة أنني مثل كل اللذين ذاقوا من أبناء شعبنا مرارة سنوات الإرهاب في التسعينيات جعلني أفضل أن أستمع إلى حياة وطار الطفل وهو يراقص فرسه ويرى النجوم مستلقيا على الأرض. لقد أعادني وطار إلى زمنه القديم لأنه يعرف بأن الزمن القديم زمن مر. لقد دفعني الطاهر وطار إلى استعادة الخيط الذي هرب مني، أنا الذي اخترت المنفى منذ أكثر من 17 عاما، استعدت بوجود الراحل الطاهر وطار في بيتي كل ذلك العالم الجميل الذي بدأ يتلاشي ويرحل في بحر النسيان، لقد أعادني الراحل الطاهر وطار للتأمل في ذاتي وأعادني إلى ربوتي، فالإنسان مثلما كان يردد الطاهر وطار هو وجدان وهذا الوجدان ينمو من الطفولة إلى الموت. فقد كان بيت جده في ساف الويدان يطعم السبيل والفقير، وكان حينها الطفل الطاهر يراقص فرس جده، وفي المساء يرى النجوم مستلقيا على الأرض. ولم يلمس حينها وطار الذي أصبح كاتبا عالميا أي ورقة إلا بعدما انتقل من دار جده مع والده إلى مكان آخر قرب آمداوروش، فكيف حصل كل هذا التحول في حياة هذا الكاتب الذي يعترف بأنه تأثر بخاله الذي كان يمزق حذائه بضروات رجليه وركبته القوية على الأرض في المحافل والأعراس، وها أنا ذا أتأمل في هذا الطفل الذي لم ينعم دواره بالطريق المعبدة والكهرباء إلا بعد سنوات عديدة من الاستقلال، هذا الطفل الذي لم يعرف لا طاولة ولا كرسيا ولا سبورة وكان حلمه الوحيد هو أن يغطي الإسمنت مساحة كبيرة من دواره حتى يستريح من غبار الصيف وطين الشتاء. هذا الطفل صار كبيرا، يعترف العالم بأنه كبير،، وطار ينام الآن في أجمل نجمة من نجوم السماء، وعمي الطاهر هو أكبر نجمة هكذا تقول ابنتي الصغيرة ياسمين التي سحرتها عصى عمي الطاهر. محمد عز الدين التازي/ كاتب وروائي مغربي أسس مرحلة أساسية في تاريخ الأدب العربي يعد رحيل الأديب العربي الكبير الطاهر وطار خسارة كبرى للأدب العرب، فقد أسس الراحل مع غيره من الأدباء المغربيين مرحلة أساسية في تاريخ الأدب العربي، هي التي حضر فيها أبطال روائيون يحاكون في عيشهم تجارب النضال الوطني من أجل الاستقلال، وهي تجارب عبر عنها الروائيون بكثير من الخصوصية والتميز، فكان موقع الطاهر وطار خاصا ومتميزا فيما أبدعه من أعمال روائية تميزت في مرحلة من مراحل إبداعه بالواقعية، مثل "اللاز" و"الزلزال"، ثم جددت مغامرة الكتابة مع روايات أخرى اخترقت الواقع وهي تشكل له رؤية متميزة كما في "الحوات والقصر" و"عرس بغل". ويعد العزيز الراحل، شخصية ثقافية فذة، ضحت بالكثير من أجل بناء منارته الثقافية التي أسماها "الجاحظية". كان الراحل العزيز صديقا حميما للأدباء المغاربة، وكان يتحدث بالثناء على أعمالي الروائية لكل من لقيهم. لقد فقد الأدب العربي علما كبيرا من أعلامه، لكن الطاهر وطار يبقى حيا في ذاكرة قرائه وأصدقائه الأدباء العرب. أمير تاج السر/ روائي وكاتب سوداني أمثال وطار يبقون دائما بما قدموه أرى أن وفاة الطاهر وطار، كانت من الخسائر الكبرى في الأدب العربي، ذلك أن وطار كان من الأدباء الجزائريين المهمين، كونه من أوائل الذين كتبوا باللغة العربية، وأيضا من الذين لم ينشغلوا بالكتابة الإبداعية فقط، ولكن انشغلوا بالهم الوطني لبلادهم، وقد شارك وطار في تحرير الجزائر. وكان تأسيسه للجاحظية كما سماها، تمجيدا منه للغة العربية. لقد تعرفت على أعماله منذ أواخر الثمانينيات، قرأت "اللاز" و"الحوات والقصر"، التي يتحدث فيها عن تلك الأسطورة الاجتماعية، بنكهة معاصرة، وبعد ذلك قرأت "الشمعة والدهاليز"، التي تصدى فيها للإرهاب الفكري والتطرف الديني الذي ساد بلاده في فترة ما. وأعتقد أن حواراته التي أدارها في تلك الرواية، كانت من الثراء، بحيث أثارت جدلا. أمثال وطار يبقون دائما بما قدموه، وأعتقد أن كاتبا مثله يبقى موجودا بإبداعه، لن ينسى من يقرأ "الحوات والقصر"، الطاهر وطار أبدا.