نحن لا نملك ثقافة لونية ولا مدونة لونية ترمز إلى هويتنا وانتمائنا الحضاري العلاقة بين الكتابة واللون ملتبسة، وليست هناك حدود واضحة بين ما هو لوني في اللغة، وبين ما هو لغوي في اللون. أحمد عبد الكريم شاعر جزائري من مواليد 1961 بالهامل ولاية المسيلة المعروفة بتركيبتها الدينية والصوفية، يعمل أستاذا للتربية التشكيلية، صدرت له عدة كتب أدبية منها: "كتاب الأعسر"، عن منشورات الجاحظية، السيرة الذاتية "تغريبة النخلة الهاشمية"، "معراج السنونو"، "موعظة الجندب"، ورواية "عتبات المتاهة" عن منشورات الإختلاف. وآخر كتاب صدر له كان "اللون في القرآن والشعر" عن جمعية البيت للثقافة والفنون، وهو عبارة عن دراسة بحثية حول حضور اللون في القرآن والنصوص الشعرية في الشعر العربي، من خلال سلسلة من المحاور التي سلط عليها أحمد عبد الكريم الضوء على مدار صفحات الكتاب. في هذا الحوار يتحدث الشاعر عن كتابه الجديد وعن سياقات بحثه اللوني، وعن العلاقة بين اللون واللغة وعن اللون وأثره كعنصر تشكيلي وكمعطى بصري وجمالي على الشعر العربي القديم خاصة. حاروته/ نوّارة لحرش اللون في القرآن والشعر عنوان كتابك الجديد، كيف فكرت في هذا البحث اللوني الغير مطروق على الأقل هنا في الجزائر، وما الدواعي التي جعلتك تنجز هذا الكتاب؟ أحمد عبد الكريم: تعلمين أن الكتاب يبدأ بفكرة بسيطة، وهو ما حدث مع كتابي "اللون في الشعر والقرآن" الذي صدر عن منشورات البيت، وقد بدأ بفكرة مقال عن "معاني الألوان بين الشعر والقرآن" ثم تطور مع الأيام إلى أن تحول إلى كتاب يرصد تجليات اللون في الشعر العربي خاصة، وفي الكتابة العربية عموما، إذ حاولت أن أتناول اللون كموضوعة ومضمون أولا ثم كشكل وحالة لها دلالتها في المقام الثاني ثانيا. منطلقي الأول كان تشكيليا، بالنظر إلى هوسي بالرسم الذي لم أستطع أن أواصل ممارسته لأتحول إلى الكتابة الشعرية والأدبية، ولذلك فإن مقاربتي قامت على فرضية أن غياب الرسم التصويري عن المشهد العربي لحساب التعبير اللغوي يمكن أن يكون مضمرا داخل النصوص الأدبية شعرا ونثرا باعتبار أن الشعر الذي كان ديوان العرب كان هو خلاصة كل الفنون، ومن ثم فإن الشاعر كان رساما بشكل ما يمارس الرسم بالكلمات، وعلى طريقته الخاصة، وربما يكون ما كتبته تأسيسا لأبحاث يمكن أن تتم في هذا الموضوع الغير مطروق، والذي بقي بكرا لم يسبق أن تم تناوله، وقد جاء الكتاب حلقة وصل بين البحث الأدبي والنقد التشكيلي. هل يمكن اعتبار الكتاب تأريخا لونيا/ بصريا، أو انصافا للفضاء اللوني الذي رادف القرآن والتراث الأدبي العربي؟ وبالمقابل هل يمكن القول أن الكتاب قراءة تشكيلية بصرية لهما، وهل هكذا قراءة ممكنة وسهلة؟ أحمد عبد الكريم: بشكل ما يمكن القول بأن الكِتَاب يبحث في نظرية الألوان وتاريخها عند العرب، والشعر العربي هو الوثيقة الوحيدة التي يمكن أن تعطينا فكرة كاملة عن حياة العرب قديما في جميع مناحي الحياة سواء المعمار أو اللباس أو العادات وأنماط الحياة، لكن قلّما ينظر إلى الشعر على هذا الأساس، وحين نقرأ الشعر العربي بحس التشكيلي، وننظر إليه بعين الرسام يمكننا، أن نرى فيه كثيرا من الأشياء المهمة. ذات البعد البصري اللوني والتي أغنت النص الشعري بعناصر جديدة بقدر ما هي منفصلة عن مشاغله، هي متصلة به وتشكل جزءً صميما منه، بمعنى أن طموح هذا الكِتَاب كان بحاجة إلى شخص مزدوج الإهتمام يملك من الإلمام بالشعر ما يملكه من إلمام بالتشكيل، بمعنى أن الفنان التشكيلي أو المهتم بفن الرسم هو الوحيد الذي لا ينظر إلى اللون على أنه جزئية صغيرة، بل ينظر إليه على أنه أمر بالغ الأهمية، وله بلاغة خاصة مهما كان ضئيلا، وهو الوحيد الذي لا يفرق بين اللون في التصوير الشعري، وفي اللوحة التشكيلية.. بل أنه ربما ينظر إلى اللون في الشعر بشكل مبالغ فيه أكثر من سواه ممن لا يعيرونه كبير اهتمام. أيضا هل يمكن اعتبار اللون جزءً من التركيبة النفسية البشرية العميقة الغير منتبه لها أحيانا حتى من الفرد نفسه لذاته نتيجة جهله للألوان أو نتيجة أميته اللونية الغير قصدية في الغالب؟ أحمد عبد الكريم: كما قلت لكِ كثير منّا ينظرن إلى الألوان كجزئية بلا معني ولا يعيرونها الإهتمام الذي تستحقه، ربما هذا يعود إلى أن الجيل القديم خاصة ممن عاشوا في زمن الأبيض والأسود الذين تربوا على محدودية الألوان التي كانت الطبيعة مصدرها الوحيد، ولذلك فالكثير منهم يقع في أنفسهم بأن الحياة العربية كانت بلا ألوان وأن لونيها الوحيدين كانا هما الأبيض والأسود. والكثير منهم مازالوا يحنّون ويعجبون بكل ما هو أبيض وأسود. كل هذا أنعكس على ذائقتنا اللونية، فنحن لا نملك ثقافة لونية ولا مدونة لونية ترمز إلى هويتنا وانتمائنا الحضاري، وكثير منا يجهلون ميولهم وتفضيلاتهم اللونية، وحتى وإن وجدت فهي غير مؤسسة وغير واعية.. رغم تزايد الوعي في كثير من دول العالم بأهمية الميول اللونية في معرفة أبعاد النفس وأغوارها العميقة، لدرجة يمكن القول معها "قل لي أي لون تفضل، أقول لك من أنت" بالنظر لما للون من محمول نفسي واجتماعي. طبعا الأمر مختلف اليوم لدى الأجيال الجديدة التي فتحت عينها على هذا الزخم اللوني الكبير الذي أصبح له توظيفاته في كل مناحي الحياة الراهنة. هل هناك قواسم مشتركة بين دلالات وبلاغات اللون في القرآن والشعر، أيهما أكثر تمايزا ووضوحا على مستوى اللونية؟ أحمد عبد الكريم: بالتأكيد هناك قواسم مشتركة لا تحتاج إلى تدليل، يظل الأصل فيها القرآن باعتباره نصا مقدسا، وتحول إلى نص مرجعي يحكم حياة المجتمع العربي، كما يحكم ذائقته وأدبه شعرا ونثرا، وبالنتيجة نلاحظ تقاطعات وتناصات كبيرة بين الشواهد الشعرية واللونية، وبين آيات اللون.. كما أن نظرة القرآن إلى الألوان، كان لها تمثلاتها الإجتماعية، فكل ما هو إيجابي أبيض، وكل ما هو سلبي أسود، هي نفس النظرة التي عبّر عنها كثير من الشعراء.. وربما لم يشذ عن القاعدة إلا المتنبي الذي بدا عاشقا للون الأسود، مولعا به حدّ التماهي، ربما لأنه كان صورة لسويدائه الثائرة والعميقة. حيث لوّن به كل الأشياء حتى تلك البيضاء كالثلج والشيب والشمس. تطرقت أيضا إلى الألوان عند بعض الشعراء العميان، اللون عادة يرتبط بالحالات البصرية، لكن هناك حالات بصرية جوانية عند العميان، أي حالات البصيرة، كيف هي؟، وكيف وجدت علاقتهم باللون وحساسيتهم اللونية؟ أحمد عبد الكريم: ربّما يبدو في دراسة الألوان عند العميان كثير من الغرابة والمفارقة، لأن البصر الذي ترى به الألوان منعدم عند هؤلاء، لكن الحقيقة وضعتني أمام حالتين مختلفتين لشاعرين كبيرين كلاهما مختلف عن الآخر من حيث تعاطيه مع الألوان، أولهما أبو العلاء المعري الذي كان يتعامل مع الألوان من خلال ذاكرته اللونية، وبما بقي عالقا بها من ألوان كان آخرها الأحمر أو المعصفر الذي كان لون لباسه عندما كف بصره في الخامسة من عمره، وقد تتبعت اللون الأحمر في قصيدته النونية المشهورة مفترضا أنه كان آخر ذكرى له في عالم المبصرين، كما أن الأحمر حسب علماء النفس يعد من أكثر الألوان إثارة للأطفال، وقد وجدت في لوحات القصيدة تنويعات وتلوينات مهمة للمعري كلها بالأحمر. أما بشار بن برد فقد ولد أعمى، وكان يفاخر بذلك، ويعي تماما أنه منقوص من قدرة البصر، لذلك فقد يجتهد في ابتكار ألوانه الخاصة من خلال حديث الآخرين، أو من خلال بصيرته، وكان التحدي الأكبر بالنسبة إليه هو منافسة المبصرين من الشعراء في ابتكار الصور الوصفية.. ومما يرويه هو نفسه أنه مازال يجتهد في تشبيه شيئين بشيئين حتى قال "كان مثار النقع فوق رؤسنا/واسيافنا ليل تهاوى كواكبه". كيف تتجاور الألوان وتتحاور، كيف تحدث المقاربات الشعرية واللونية وكيف تكتمل بينهما الحالة التشكيلية والتشكيلة البصرية؟ أحمد عبد الكريم: الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي يرى أن الحروف أمة من الأمم، ينطبق عليها ما ينطبق على البشر من اختلاف وائتلاف، من تحاور وتنافر، وأنا أيضا أذهب إلى أن الألوان أيضا أمة من الأمم يسري عليها ما يسري على الناس، والمقاربة اللونية تحدث حين يتبادل اللون والحرف الأدوار، كأن يتحول اللون إلى موسيقى أو لغة، أو يحدث العكس فيتحول الحرف إلى رقص كوريغرافي. فوضى الحواس هذه هي ما يجعل التقارب بين الفنون كلها أمرا ممكنا، أي حين يكف كل فن عن مخاطبة حاسة جاهزة، بمعنى أن يتحول الشعر إلى عطر، واللون إلى موسيقى، والموسيقى إلى جسد، والجسد إلى ضوء. كيف هي برأيك الثقافة اللونية عند الإنسان/الفرد الجزائري وكيف هي درجة الذائقة اللونية على مستوى اليومي والإبداعي؟ أحمد عبد الكريم: كل مجتمع ينتج ثقافته اللونية، وذوقه اللوني العام في التعامل مع الألوان، انطلاقا من مقدسه، ومن خلال تاريخه وجغرافياه، وكل هذا يتم بالتراكم عبر التاريخ، أنظري مثلا إلى حضور اللون الأخضر في رايات الدول الإسلامية، في حين أن اللون الأزرق حاضر في رايات الدول المسيحية، كما أن البيئة الجغرافية والطبيعية أيضا لها دورها في فرض لون دور آخر، وما يناسب المناطق الصحراوية من الألوان ليس بالضرورة ما يناسب المناطق الساحلية. ثقافتنا اللونية تحتاج إلى تنمية وإلى وعي متزايد، ونحن مازلنا مقلدين لغيرنا في ميولنا اللونية متأثرين بهم، في حين أن تربية الذائقة اللونية تبدأ في المراحل الأولى للإنسان مع مرحلة التنشئة التي يمكن أن تغرس في الطفل حب الألوان والقدرة على التعامل معها. قلت: "حاولت أن ألفت النظر إلى العلاقة المشتبكة بين اللون والكتابة العربية شعرا ونثرا من أجل الوقوف على مدى توظيف الكتابة للمعطيات اللونية التي هي جزء من حاسة البصر عموما"، فكيف برأيك العلاقة راهنا بين اللون والكتابة، وما الفواصل بين حاسة البصر وحاسة البصيرة في ما يخص اللون طبعا؟ أحمد عبد الكريم: الكتابة الجديدة تراهن على شعرية التفاصيل والصورة الشعرية الملتقطة من الراهن بكل زخمه شكلا ولونا ورائحة إلى درجة تداخل الحواس ونزوع كل واحدة منها إلى أن تحتل مكان الأخرى، ولأمر ما يقولون "تكلم كي أراك"، أي أن اللغة هي الضوء الذي ترى به الأشياء، والعالم بلا لغة ليس أخرس فقط بل أعمى، وقد حدثت كثير من محاولات مقاربة الشعر تشكيليا، حيث تحولت كثير من قصائد أدونيس ودرويش وغيرهما على يد كبار الرسامين العرب إلى تجريدات تعتمد على اللون والكتلة. وفي الجزائر يمكن الإشارة إلى تجربة كاتب ياسين ومحمد إسياخم، حيث يكاد فنهما يكون وجهين لمأساة واحدة، وجهها الأول إبداعات كاتب ياسين الأدبية، و وجهها الثاني رسم محمد إسياخم. ولا يمكن بأي حال تصور الكتابة دون عناصرها البصرية، ولا يمكن عزل المفردة عن مقتضياتها اللونية التي يمكن إدراكها بالبصر أو بالبصيرة فالشفق لون والسماء لون. وكل ما نفكر فيه يحيل على لون ما. لذلك أقول بأن العلاقة بين الكتابة واللون ملتبسة، وليست هناك حدود واضحة بين ما هو لوني في اللغة، وبين ما هو لغوي في اللون. ما مدى انعكاس اللون على تجربتك الشعرية وعلى تشكيل صورها وتدرجاته فيها؟ أحمد عبد الكريم: مدخلي إلى اللون كان عبر وساطة التشكيل الذي يعتبر اللون ركيزة مهمة في التعبير التشكيلي، وقد حدث أنني بدأت بممارسة الرسم وانتهيت إلى الشعر محتفظا ببعض رواسب التشكيل الذي انعكس على تشكيلي الشعري واحتفائي بالصورة، فضلا عن أنني حاولت نقل بعض مشاغل الرسم وموضوعاته ومفرداته إلى النص الشعري، ومن ذلك أني كتبت عن تجربة محمد خدة شعريا، في نص لي بعنوان "صدأ الظلال" وحاولت أن أكتب نصا موازيا للوحة الفنان التشكيلي الطاهر ومان "كسوف الذاكرة".. وغير ذلك. أي لون تحب أن تختم به، أو كلمة لونية ما؟ أحمد عبد الكريم: أعرف لونك كي تبصر كونك.. ما لا لون فيه لا يعول عليه.. فافهم ذلك. عني وليس عن أبن عربي.